بوجه متجهّم حفرت خطوط القهر عميقاً في معالمه، خرج الرئيس سعد الحريري على الملأ أمس ليتجرّع كأس “العزوف” المرّ ويضع حداً لحياته السياسية في المرحلة الراهنة، بعدما أعيته التسويات و”كسرت ظهره” بأوزارها وتبعاتها الداخلية والخارجية، فدفعته قسراً إلى الانحناء والتنحي واتخاذ قراره بـ”تعليق” عمله السياسي حتى إشعار آخر.
وإذا كان قرار الحريري انسحب دراماتيكياً على “تيار المستقبل”، سواءً عبر دعوته إلى تعليق عمله في الحياة السياسية، أو من خلال تأكيد التلازم بين قرار عدم ترشحه شخصياً للانتخابات النيابية مع عدم التقدّم بأي ترشيحات من “التيار” أو باسمه، فإنّ زعيم “المستقبل” بدا واضحاً في تفنيده لمسببات قراره، أنه أراد أن يتحمل مسؤولياته و”يسدد فاتورته” أمام الناس والتاريخ حيال التسويات التي خاضها و”أتت على حسابه”، منذ محاولته “احتواء تداعيات 7 أيار إلى اتفاق الدوحة إلى زيارة دمشق إلى انتخاب ميشال عون إلى قانون الانتخاب وغيرها”.
وفي المقلب الآخر من المشهد، “خض” تنحي الحريري أركان النظام الطائفي وقضّ مضاجع السلطة بعدما أكد عقمها وفشلها في إنتاج الحلول الوطنية، وتحملها مسؤولية إجهاض طموح ثورة 17 تشرين بإحداث “تمثيل سياسي جديد من شأنه أن ينتج حلولاً لبلدنا وشعبنا”، مع إبداء قناعته في الوقت عينه بأنه “لا مجال لأي فرصة إيجابية للبنان في ظل النفوذ الايراني والتخبط الدولي، والانقسام الوطني واستعار الطائفية واهتراء الدولة”.
وبينما ختم مستعيداً بعينين دامعتين “ما قاله رفيق الحريري في بيان عزوفه قبل 17 عاماً: أستودع الله سبحانه وتعالى هذا البلد الحبيب لبنان وشعبه الطيب”، طمأن الحريري محازبيه ومناصريه إلى أنّه سيبقى متمسكاً بمشروع والده الشهيد وأنّ بيته سيبقى مفتوحاً “للارادات الطيبة ولأهلنا وأحبتنا من كل لبنان” على اعتبار أنّ قراره يقتصر فقط على “تعليق أي دور أو مسؤولية مباشرة في السلطة والنيابة والسياسة بمعناها التقليدي”. وعلى الأثر توالت التعليقات المعبرة عن الحزن والأسف، فرأى رئيس الحكومة نجيب ميقاتي في كلام الحريري “صفحة حزينة للوطن ولي شخصياً”، ولفت الرئيس تمام سلام إلى أنّه موقف “يعكس الخلل العميق في التوازنات السياسية والوطنية المفقودة”، آملاً بأن يشكل تحمل الحريري المسؤولية “عبرة لمن يعتبرون أنفسهم اليوم منتصرين على أشلاء الوطن المنهار”، بينما علق رئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط على قرار الحريري بتغريدة قال فيها: “تيتّم الوطن اليوم والمختارة حزينة وحيدة”، ثم أعقبها بتعليق مقتضب لوكالة “رويتزر” شدد فيه على أنّه “قرار محزن جداً نفقد به ركيزة للاستقلال والاعتدال ويعني إطلاق يد “حزب الله” والإيرانيين في لبنان”.
حكومياً، التأم أمس شمل مجلس الوزراء بكامل أعضائه في قصر بعبدا وانطلق قطار المحادثات الحكومية التقنية مع صندوق النقد الدولي، بحيث أكدت مصادر وزارية شاركت في جلسة المحادثات الأولى لـ”نداء الوطن” أنه كان “اجتماعاً تنظيمياً تم التداول خلاله في جدول أعمال المباحثات وخلص إلى الاتفاق على عقد اجتماع آخر (غداً) الأربعاء على أن تليه اجتماعات مكثفة لإحراز التقدم المنشود باتجاه بلورة صيغة توافقية على برامج خطة التعافي”.
أما على طاولة مجلس الوزراء، فاستهلت الحكومة درس مشروع قانون الموازنة العامة للعام الحالي في جلسة قصر بعبدا أمس، حيث قدم وزير المال عرضاً مفصلاً حول أسس المشروع وعناوينه العريضة، على أن يصار إلى بحث تفاصيل الموازنة وبنودها تباعاً في جلسات يومية متتالية في السراي الكبير بدءاً من اليوم، وسط إلحاح رئيس الحكومة على الانتهاء من درس مشروع الموازنة وإنجازه قبل نهاية الأسبوع لإقراره في جلسة تعقد في قصر بعبدا تمهيداً لاحالته الى مجلس النواب.
وإذ تم تغييب الرسالة الخليجية والعربية والدولية عن دائرة البحث والنقاش على طاولة مجلس الوزراء، أكدت مصادر مواكبة لهذا الملف أنّ “النقاش سيبقى محصوراً بين الرؤساء الثلاثة حيال النقاط الواردة في الرسالة، وبنتيجة ما سيتم الاتفاق عليه خلال اليومين المقبلين سيتم تكليف وزير الخارجية إعداد الصيغة النهائية للجواب اللبناني الرسمي المتفق عليه ليحمله معه نهاية الشهر إلى الكويت ويسلمه إلى نظيره الكويتي على هامش اجتماع المجلس الوزاري العربي التشاوري”، موضحةً أنّ هذا الجواب سيكون في أغلب ركائزه أقرب إلى “تكرار واجترار الأفكار نفسها المنصوص عنها في البيان الوزاري لحكومة ميقاتي، لناحية إعادة التأكيد على التزام دستور الطائف ووثيقة الوفاق الوطني واحترام الشرائع والمواثيق الدولية وقرارات الشرعية الدولية وتأكيد الدعم المطلق للجيش والقوى الأمنية الشرعية لضبط الأمن على الحدود وفي الداخل وتعزيز سلطة الدولة وحماية المؤسسات، والإصرار على التمسك بعلاقات لبنان مع الدول العربية، فضلاً عن إدخال إضافات مقتبسة من المواقف التي سبق أن أصدرها رئيس الحكومة ووزير الداخلية في الفترة الأخيرة والتي تتعلق بمسألة التعهد بإبداء العزم على إحباط عمليات تهريب المخدرات من لبنان إلى الدول العربية والخليجية”.
وبينما لفت الانتباه مساءً إعلان وزارة الخارجية الأميركية عن اجتماع سيعقده الوزير أنتوني بلينكن غداً مع وزير الخارجية الكويتي أحمد ناصر المحمد الصباح، يتطرقان فيه إلى الملف اللبناني، رأت المصادر أنه “بغض النظر عن محاولة الجانب اللبناني إبداء استعداده التام للتعامل بإيجابية مع شروط ومتطلبات “استعادة الثقة” العربية والدولية التي نصت عليها المذكرة الخليجية والعربية والدولية، فسيبقى العجز اللبناني واضحاً إزاء مسألة التعاطي مع سلاح “حزب الله” وحصر السلاح بيد الدولة وتطبيق القرار 1559، الأمر الذي سيقود في أغلب الظن إلى نسف المبادرة الكويتية وتشريع الباب تالياً أمام احتمالات واسعة من الخطوات التصعيدية المنسقة عربياً ودولياً حيال الملف اللبناني”.