التزامن بين دراسة الموازنة في مجلس الوزراء ومناقشتها مع صندوق النقد، تُظهر إلى حدٍ بعيد الدفع الذي يقوم به رئيس الحكومة نجيب ميقاتي لإقرار هذه الموازنة والتي هي مطلب جوهري وغير قابل للتفاوض من قبل المجتمع الدولي. علماً بأن هذه الموازنة لا تحوي خطة التعافي للخروج من الأزمة وبالتالي لا يُمكنها أن تعكس التعافي في المرحلة القادمة في ظل فرضية رغبة حقيقية في الخروج من الأزمة.
وبغض النظر عن الإعتراضات التي تطال محتوى هذه الموازنة، وهي عديدة، هناك ضرورة من حيث المبدأ لإقرار موازنة لإستعادة السيطرة أقلّه على الإنفاق الذي دفع الدين العام إلى الإرتفاع من 38.5 مليار دولار في أوائل العام 2006 إلى أكثر من 72 مليار دولار أميركي في نهاية العام 2016 (أي الضعف تقريبًا) وهي الفترة التي غابت فيها الموازنات العامة وتمّ الإنفاق فيها على أساس القاعدة الإثني عشرية وبدعة الإنفاق بإعتمادات من خارج الموازنة. وبالتحديد لا يُمكن مُحاسبة الحكومة على إنفاقها من دون موازنة من هنا ضرورة إقرار موازنة أقّله للسيطرة على الإنفاق في ظل فرضية أن يقوم المجلس النيابي بمحاسبة الحكومة. نقاط الضعف الأساسية في الموازنة تتمحور حول ثلاث نقاط: غياب خطّة تعاف في هذه الموازنة، غياب حل للدين العام، وغياب توحيد سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأميركي. هذه النقاط الثلاث التي هي نقاط جوهرية، لا يُمكن حلّها إلا بتوافر الشروط التالية:
أولًا – رغبة واضحة من قبل القوى بإقرار الإصلاحات والتوصّل إلى إتفاق مع صندوق النقد الدولي والذي بدونه – أي إتفاق مع الصندوق – لا يُمكن الحصول على أي دولار من الخارج. إلا أن المشهد السياسي الحالي لا يُبشر بالخير حيث أن الحسابات السياسية تفوق أي رغبة بالخروج من الأزمة وكأن هناك أذان غير صاغية لمأساة الشعب اللبناني. والأصعب في الأمر هو تزامن الأزمة الإقتصادية مع الإنتخابات النيابية وهو ما يعني أن أي طرح إصلاحي لا يُمكن أن يكون له خواتيم سعيدة في ظل هذا الواقع.
ثانيًا – رغبة خارجية بالمساعدة وهي غير متوافرة حاليًا إلا بشرط تنفيذ مطالب سياسية حملت المبادرة العربية لائحة من هذه المطالب. وهنا تبرز المُشكلة الأساسية أيضاً وهي أن القوى السياسية لا تستطيع تنفيذ هذه المطالب وبالتالي من الصعب أن يتمّ دعم لبنان ماليًا بشكل أو بآخر أقلّه في المرحلة التي تفصلنا عن الإنتخابات النيابية إلا إذا كان هناك تطوّر إقليمي – دولي يُغيّر في المعادلة ويجعل طريق التعافي أولوية في الأجندة السياسية الداخلية.
دور العوامل الجيوسياسية
ثلاثة عوامل جيوسياسية تفرض نفسها في المشهد السياسي اللبناني وخصوصًا الشق الإقتصادي – المالي حيث أن آلية أخذ القرار الإقتصادي أصبحت رهينة هذه العوامل:
العامل الأول هو سلاح حزب الله الذي يُطالب الخارج بنزعه وهو ما ورد في الورقة الكويتية التي طالبت بشكلٍ واضح بهذا الأمر من خلال البنود الخمسة الأولى والتي نصّت على التزام لبنان بكافة استحقاقات اتفاق الطائف، وقرارات الشرعية الدولية، وقرارات جامعة الدول العربية، بالإضافة إلى التأكيد على مدنية الدولة اللبنانية وفق ما جاء في الدستور اللبناني، وسياسة النأي بالنفس التي يجب أن تكون قولاً وفعلاً، ووضع إطار زمني محدد لتنفيذ قرارات مجلس الأمن رقم 1559 والخاص بنزع سلاح “الميليشيات” في لبنان.
الردّ اللبناني على المبادرة الكويتية يؤكد أن هذه المبادرة أظهرت إنقسامات داخل لبنان حيث أن البعض يعتبر أن لا قدرة للبنان على تلبية هذه المطالب وبالتحديد القرار الأممي 1559، ويرى أن تطبيق هذا القرار سيؤدّي إلى تفجير أزمة داخلية ستنعكس على الواقع الداخلي المُتأزم أصلاً. وبالتالي جاء ردّ الدولة اللبنانية رمادياً من ناحية تأكيده على الإلتزام بقرارات الشرعية الدولية من دون ذكر القرار 1559.
وبالتالي وفي ظلّ فرضية (الأكثر إحتمالًا) تصعيد عربي نتيجة الردّ اللبناني، فإن الوضع الإقتصادي يتجه نحو تردٍ إضافي ومعه سعر الصرف نظرًا إلى أن مصرف لبنان رصد مبلغًا محدداً من الدولارات لتطبيق التعميم 161 وبالتالي لا قدرة له على الإستمرار إلى ما لا نهاية في عملية الدعم إذا لم يتمّ التوصل إلى إتفاق مع صندوق النقد الدولي يسمح بدخول كمّية من الدولارات إلى الإقتصاد. وهذا التصعيد المُحتمل سينسحب حكمًا على التعافي الإقتصادي والمالي في لبنان نظرًا إلى تشرذم الرؤية للحلّ الإقتصادي والمالي.
العامل الثاني يطال المفاوضات مع العدو الإسرائيلي على الحدود البحرية الجنوبية وهو ما سيكون موضوع زيارة الموفد الأميركي هوشكتاين إلى لبنان. وبفرضية حلحلّة في هذا الملف، فإن التسريع في عملية التعافي ستكون إحدى أهم التداعيات مع تسهيلات في عملية الإقتراض سواء من البنك الدولي أو صندوق النقد. أما عدم الحلحلة في هذا الملف، فسينسحب سلبًا على عملية التعافي.
العامل الثالث يطال المفاوضات في فيينا وما قد تؤول إليه على صعيد المُقايضة التي سيقوم بها الأميركيون والإيرانيون. ويرى بعض المحللين السياسيين أن حلحلة على صعيد المفاوضات ستُترجم حُكمًا بحلحلة بالملف اللبناني على كافة الأصعدة.
الحكومة في ظل الإنقسام السياسي
أظهرت حادثة الطيونة هشاشة المؤسسات الدستورية وعلى رأسها الحكومة والقضاء! فالحكومة التي تعطّلت خلال أشهر في وقت حرج جدًا على الصعيد الإقتصادي، فقدت علّة وجودها والتي تتمثّل بالمحافظة على مصلحة شعبها عبر إتخاذ القرارات التي تصب في مصلحة هذا الشعب. الإنقسامات السياسية الحادة التي تطال مكونات الحكومة بالتحديد يقضي على فعّالية القرارات التي تأخذها. وإذا كان الرئيس ميقاتي المعروف بقدرته على تدوير الزوايا، قد حاول العمل على عدم تفجير الحكومة عبر عدم الدعوة إلى جلسة للحكومة وتفعيل الإتصالات لإحتواء الأزمة، إلا أن وتيرة عمل الحكومة خصوصًا على صعيد خطة التعافي يُظهر إستحالة إقرار خطّة تعافي تُلبّي تطلعات الشعب من جهة وشروط صندوق النقد الدولي من جهة ثانية بسبب هذا الإنقسام السياسي، وهو ما يُوصلنا إلى نتيجة أن لا قرار جدّيا لدى القوى السياسية في عملية الإصلاح وبالتالي فإن المفاوضات مع صندوق النقد الدولي هي عملية تقطيع للوقت حتى الإنتخابات النيابية.
الدولار وفلتان الأسعار
تعميم مصرف لبنان رقم 161 وتوسيع مداه أدّيا بدون أدنى شكّ إلى خفض الدولار الذي إنخفض أكثر من 30% (من 34 ألف إلى 22 ألف ليرة للدولار الواحد في السوق السوداء). ولكن (وكما كان متوقعاً) في المقابل لم تنخفض الأسعار بنفس النسبة حيث بإعتراف القيمين على القطاع التجاري إنخفضت أسعار بعض السلع بين 5% و15% – في أحسن الأحوال. في الواقع ضعف الرقابة هو المسؤول الأول عن عدم إنخفاض الأسعار لا وبل إرتفاع أسعار بعضها الأخر كما ظهر في الإعلام. هذا الضعف في الرقابة نابع من التدخل في عمل الأجهزة الرقابية التي يُمارسها أصحاب النفوذ عليها والتي لم تعمل هذه الحكومة إلى الآن بطريقة فاعلة لإثبات وجودها وجديتها في العمل على تأمين مصالح مواطنيها في العاجل، ولو في الحد الأدنى، أقله من خلال تطبيق القوانين المرعية الإجراء التي إنما وضعت ليعم العدل وتنتظم الأمور المعيشية بطريقة معقولة، فكيف يمكن أن تؤمن هذه الأمور في المدى الطويل؟ من هذا المُنطلق، نعود ونؤكد أن قدرة المركزي على تطبيق التعميم 161 محدودة في الوقت وبالتالي وبفرضية توقف المركزي عن التدخل بسبب نقص الدولارات، فإن الدولار سيُعاود إرتفاعه وسترتفع معه الأسعار عن غير وجه حق وهي التي تُحافظ على أسعار دولار بحدود الـ 35 ألف ليرة وهذا يعني أن الفلتان الراهن الآن سيتصاعد بطريقة متسارعة ويؤسس إلى الوقوع في مرحلة الفلتان الكلّي.
ملف الكهرباء والبعد السياسي
الكل يعلم مشكلة تداخل المصالح المالية وتصارع أهل النفوذ التي رافقت ملف الكهرباء على مرّ عقود، إلا أن إستجرار الكهرباء والغاز من الأردن ومصر يُدخل إلى اللعبة عاملًا جديدًا وهو عامل سياسي بإمتياز وذو بعد دولي. وما تعليق البند 13 من مشروع الموازنة إلا ترّجمة للبعد السياسي الذي دخل حديثًا على الملف.
طلب سلفة 5.5 تريليون ليرة للكهرباء ورفع تسعيرة الكهرباء، يتطلّب تبريراً عن كيفية التصرّف بالسلفة كما ووجهة إستخدام الإيرادات الناتجة عن رفع التسعيرة. ولكن الأهم هو كيفية حل أزمة الكهرباء، فإستجرار الكهرباء ليس بحلّ ولم يكن يومًا بحلّ في أي دولة من دول العالم. والمعروف أن عملية ربط الكهرباء بين الدول هدفه خفض الكلفة وخفض الإستثمارات عبر إستجرار الطاقة بكلفة أقلّ من إنتاجها خصوصًا في فترات الأزمات وبالتالي تأمين إستقرار في تلبية الطلب.
لقد أظهر القطاع العام فشله في حلّ مُشكلة الكهرباء. وبالتالي يتوجّب على الحكومة تلزيم إنشاء المعامل إلى القطاع الخاص بالإضافة إلى إيجاد حل إنتقالي، لأن الـ 5.5 تريليون ليرة لبنانية التي طلبتها مؤسسة كهرباء لبنان والتي توازي 250 مليون دولار أميركي على سعر صرف 22 ألف ليرة، لن تكفي إلا لبضعة أشهر وهو ما يعني أننا سنعود إلى نفس المُشكلة بعد فترة. الجدير ذكره أنه ومع إرتفاع أسعار النفط والغاز عالميًا، فإن هذا المبلغ مُرشّح إلى الصرف في فترة أسرع مما هو مُتوقّع. أضف إلى ذلك عدم قدرة الدولة على تنفيذ خطة الكهرباء التي تعود إلى العام 2010 بسبب الوضع المالي للدولة وعدم قدرتها على التمويل.
ويُطرح أيضًا السؤال عن مصير السلفة التي من المفروض على مؤسسة كهرباء لبنان إعادتها إلى الخزينة. ما هي خطّة المؤسسة لإعادة هذا المبلغ؟ كل هذه الأمور والمعضلات المتراكمة تُظهر التخبّط السياسي القائم حيال ملف الكهرباء في عملية حلّ مُشكلة من بين عشرات لا بل مئات المشاكل التي تواجه الحكومة. فإذا كنا عاجزين عن حل هذه المُشكلة فهذا يعني عدم القدرة على حلّ المشاكل الأخرى وبالتالي فإن مسألة الأزمة الإقتصادية ستدوم فترة أطول بكثير مما هو متوقع، والأخطر أن يتم القبول بها والتعايش معها بحجة التخوف مما يعرف بتهديد السلم الأهلي.