في بداية جلسة مجلس الوزراء التي أقرّت مشروع موازنة 2022 أمس، وأحالته إلى مجلس النواب، رسم رئيس الجمهورية ميشال عون ملامح المعركة المالية التي سيخوضها وفريقه في مجلس النواب. هدف المعركة وقف استمرار الحكومة في تسديد الفوائد للمصارف ولمصرف لبنان، بينما خلفيّتها تأتي في ظلّ فشل الجولة الأولى من المفاوضات مع صندوق النقد الدولي وتضاؤل فرص الحكومة في التوصل إلى اتفاق أوّلي معه يسبق الانتخابات النيابية
من أصل مبلغ 7600 مليار ليرة ملحوظة في مشروع موازنة 2022 لتسديد فوائد الدين العام، فإن 1200 مليار ليرة مخصّصة لتسديد ديون طويلة المدى لمؤسّسات دولية، والباقي البالغ 6400 مليار ليرة مخصّص بنسبة الثلث لتسديد فوائد على سندات خزينة بالليرة تحملها المصارف، وبنسبة الثلثين لتسديد فوائد على سندات خزينة يحملها مصرف لبنان. عملياً، الفوائد المدفوعة لمصرف لبنان وللمصارف تمثّل أكثر من 60% من عجز الموازنة قبل احتساب سلفة الخزينة لمؤسّسة كهرباء لبنان البالغة 5250 مليار ليرة (260 مليون دولار) والتي لا تكفي لتشغيل معامل إنتاج الكهرباء أكثر من شهرين، رغم الاعتراضات الواسعة غير المبرّرة عليها.
هذا ليس كل ما يرد في مشروع موازنة 2022. فالدولة توقفت عن سداد فوائد وأصل سندات اليوروبوندز، أي الديون بالعملات الأجنبية التي لم يلحظ تسديدها ولم تحتسب في مشروع موازنة 2022، لكن الإيرادات ازدادت بنسبة 274% لتبلغ 39154 مليار ليرة، مقارنة مع 10472 مليار ليرة في مشروع موازنة 2021، أي بزيادة 28682 مليار ليرة. هذه الزيادة متأتية بشكل أساسي من الضرائب على الاستهلاك في إطار جملة أعباء ضريبية إضافية؛ على رأسها فرض رسم على الاستيراد بنسبة 3% وزيادة الدولار الجمركي. لكن هذه الزيادة في الضرائب لم تنعكس زيادات كبيرة على رواتب العاملين في القطاع العام، بل جرى الاكتفاء بمنحهم «مساعدة» تختصر عملية «إذلالهم» لأنها لا تدخل في أصل رواتبهم وتعويضاتهم، بدلاً من تصحيح هذه الرواتب وفق تضخّم الأسعار المتراكم منذ 2012 لغاية اليوم والذي يتجاوز 800% من ضمنه 700% تراكمت بين مطلع 2019 ونهاية 2021. كذلك لم تتوزّع هذه الإيرادات على الإنفاق الاستثماري البالغ بمجمله 2212 مليار ليرة، إذ إن هذا النوع من الإنفاق لطالما كان متدنّياً. فنسبة النفقات الاستثمارية في موازنة 2022 لم تزد على 4.7% وهي نفقات تعدّ ضرورية جداً وليست نفقات تنطوي على وجهة اقتصادية محدّدة.
هذا الواقع قد يكون حفّز الرئيس عون وفريقه من أجل خوض معركة سياسية في مقابل المعركة التي فتحت بوجههم على خلفية سلفة الخزينة لمؤسسة كهرباء لبنان، لكن ما دفعه إلى خوضها تشكّل اقتناع ما بأن الاتفاق مع صندوق النقد الدولي لم يعد في متناول اليد، بل تضاءلت إمكانية تحقيقه إلى الحدود الدنيا. فأقصى طموح الحكومة، بعد الصفعة التي تلقّتها من فريق صندوق النقد الدولي الرافض لما تضمّنته الخطّة من توزيع للخسائر عبر «هيركات» مبطّن بأسعار صرف متعدّدة وتحويل الودائع إلى الليرة على مدى 15 سنة سيتم خلالها ضخّ سيولة نقدية تفوق 700 ألف مليار ليرة (تريليون)، هو أن تتمكّن خلال أسابيع محدودة من إعادة إنتاج خطّة متوافق عليها محلياً، أي مدعومة من كل الأطراف المعنيين، ويوافق على ملامحها العامة صندوق النقد الدولي لتبدأ عملية التفاوض المتصلة بمناقشة التفاصيل والآليات وانعكاساتها. فبحسب مصادر مطلعة، «الفرصة الوحيدة المتبقية للبنان ضئيلة الحظوظ ولا يمكن التعويل عليها».
هكذا يتوقع أن تكون النقاشات في مجلس النواب حول مشروع الموازنة حادّة وقاسية. سيكون عنوان معركة عون وفريقه تضمين الموازنة ما يزيد الأعباء على المكلّفين من أفراد وأسر ومؤسسات مقابل إعفاء للمصارف ومصرف لبنان من أي إجراءات تشملهم. فعموم الناس تحمّلوا في لبنان خسائر قاسية من خلال زيادة الضرائب وتدهور قيمة الليرة وتضخّم الأسعار، إنما المصارف كان لديها حاكم وقوى سياسية تحميها من الإفلاس وترعى استمرارية عملها من خلال تذويب الخسائر. أصلاً الخطّة التي أعلنت المصارف رفضها لها، مصمّمة لخدمة غالبية المصارف اللبنانية لأنها تمنحها وقتاً طويلاً للخروج من حالة «الزومبي» وتفتح لأكبر المفلسين أبواباً للعودة إلى الحياة لم يحلم بها أي مصرف حول العالم، وكل ذلك ما عدا التعاميم التي صدرت في السنتين الماضيتين بهدف تذويب قسم من خسائرها مقابل زيادة خسائر مصرف لبنان.
هذه خلفية ما قاله عون في مستهلّ جلسة مجلس الوزراء أمس. فهو أشار إلى أهمية أن يترافق مشروع الموازنة مع خطّة التعافي المالي والاقتصادي التي هي قيد المناقشة والتحضير من قبل فريق العمل المكلف برئاسة نائب رئيس الحكومة. ولفت إلى ضرورة تضمين خطّة التعافي المالي والاقتصادي تحديد الخسائر وكيفية توزيعها «الدولة ومصرف لبنان والمصارف والمودعين مع إصراري على عدم المسّ بصغار المودعين»، وأن تتضمن أيضاً إعادة هيكلة المصارف، وإعادة رسملة وهيكلة مصرف لبنان، والإصلاحات الهيكلية والبنيوية، ومكافحة الفساد بدءاً بالتدقيق الجنائي.
وفي الشقّ المتعلق بالموازنة، تحدّث عون أن مشروع الموازنة «يلحظ مبلغ 7600 مليار ليرة فوائد، منها 1200 مليار ديون طويلة المدى لمؤسسات دولية، ومبلغ 6400 مليار ستعود فوائد بنسبة 1/3 للمصارف و2/3 لمصرف لبنان، مع العلم بأن مشروع الموازنة لم يلحظ فوائد على اليوروبوندز»، لافتاً إلى أنه «يفترض عدم دفع فوائد على الديون الداخلية لمصرف لبنان والمصارف أسوة باليوروبوندز، وتوزيع مبلغ الـ 6400 مليار بمعدل 2/3 للكهرباء بدلاً من السلفة الملحوظة والباقي 1/3 زيادة معاشات للقطاع العام. إن هذا الإجراء يخفّف العجز في الموازنة ويلغي سلفة الخزينة ويخفف الآثار التضخمية».
وتطرّق عون أيضاً إلى «طرح صندوق النقد ضرورة إعادة النظر بالنظام الضرائبي ليطال الصحن الضريبي بشكل تصاعدي، ما يحقق العدالة الضريبية ويحسّن مستوى الإيرادات. أما مشروع الموازنة فلا يطرح أيّ توجهات إصلاحية بما يخص النظام الضرائبي ويكتفي برفع الإيرادات على بعض الأبواب التقليدية في الموازنة».
مندوب أم سكرتير؟
تبيّن أن المندوب الذي أُرسل من وزارة المال الفرنسية إلى لبنان بناءً على طلب رئيس الحكومة نجيب ميقاتي لمساعدة نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي في عملية المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، لم يكن ذا فائدة، إذ إنه موظّف صغير في وزارة المال ولا يملك خبرة حقيقية واسعة في المجال المالي، وانحصرت «المساعدة» التي قدّمها في أخذ مواعيد لبعض الشخصيات في السفارة الفرنسية.
جلسة ختاميّة لمفاوضات الصندوق
تُعقد اليوم الجلسة الختامية للجولة الأولى من المفاوضات أو المباحثات بين لبنان وفريق صندوق النقد الدولي برئاسة أرنستو راميريز. هذه الجلسة تأتي بعد أكثر من ثلاثة أسابيع على بدء الجولة التي استمع فيها صندوق النقد للعديد من المعنيين بشأن خطّة الحكومة لتحديد وتوزيع الخسائر. أبرز ما قاله صندوق النقد في الجلسات هو أن خطّة حكومة حسان دياب كانت مقبولة من فريق الصندوق تبعاً لما يُسمّى «تراتبية الخسائر» أو «أولويات التسديد».
فبموجب هذا المبدأ يجب أن يتم توزيع الخسائر بشكل يصيب حملة الأسهم أولاً ثم مصرف لبنان ثم الحكومة وأخيراً المودعين، إلا أن الخطّة الحالية رسمت مساراً مختلفاً قائماً على التحويل القسري للودائع من الدولار إلى الليرة بأسعار صرف متعدّدة وغير واقعية وتمتدّ على نحو 15 سنة. كذلك قال الصندوق إنه درس ميزانيات أكبر 14 مصرفاً في لبنان وأشار إلى أنه لا يمكن تطبيق نسب محدّدة لتوزيع الخسائر على كل المصارف، وأن الخطّة الحالية ناقصة لجهة خلق معايير موحّدة تسري على كل المصارف… في المحصّلة تنتهي هذه الاجتماعات بخيبة أمل للصندوق من طريقة التفكير اللبنانية القائمة على تحميل المجتمع والاقتصاد الخسائر، بينما هو المتّهم دائماً بأنه وحش نيوليبرالي كاره للفقراء يبقى أكثر رأفة بالمجتمع اللبناني من واضعي هذه الخطة.