بأوضح صورة تعكس حقيقة المنظومة الحاكمة وتركيبتها المصلحية القائمة على “مرّق لي لمرّق لك”، أتت مجريات جلسة مجلس الوزراء في قصر بعبدا لتعيد الإضاءة على طبيعة السلطة المنفصلة عن الواقع وذهنيتها الراسخة في استعباد الناس وتسخير مقدراتهم لخدمة هدف مركزي وحيد يتمحور حول مهمة تجفيف منابع الدولة وتجييرها لحسابات توزيع المغانم والحصص بين أركانها.
فبعد نهب المال العام والخاص وسلب المودعين جنى أعمارهم، لم يتوان أركان حكومة “معاً للإنقاذ” عن التنقيب في جيوب المواطنين عن “فلس الأرملة” لتمويل عملية إنعاش السلطة وإبقائها في سدة الحكم ضمن إطار هيكلية “موازنة عامة” فاقدة لأدنى مقومات الإصلاح والنهوض، وتقوم على مجرد استدرار مزيد من الرسوم وفرضها على الخدمات الحيوية، انطلاقاً من قاعدة “بدكم تساعدونا” التي توجه بها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي إلى اللبنانيين، في معرض مجاهرته بعزم حكومته على رفع تعرفة فواتير “الكهرباء والهاتف والمياه”… أما المواطن المعدم الذي “يتساءل من أين يمكن لي تأمين الأموال إذا كانت المصارف تمتنع عن إعطائنا أموالنا”، فما عليه سوى الرضوخ وتدبّر أمره والدفع بالتي هي أحسن!
بالشكل، خرج ميقاتي من جلسة بعبدا لتكبير حجم الإنجاز المتأتي عن إقرار الموازنة العامة، فأعمى عيون الناس عن مضمونها بقنابل دخانية تركزت على مسألة التقارب بين مجموع الواردات والنفقات بعد تسجيله العجز المقدّر بـ8 آلاف مليار ليرة في خانة “احتياط الموازنة”… غير أنّ مصادر مالية استغربت هذا المستوى من “استغباء الرأي العام”، وسألت: “أين هي قيمة سلفة الكهرباء من العجز؟ وحتى لو صحّت تقديرات العجز في المشروع فهل يُعقل أن تكون نسبة احتياطي الموازنة نحو 15% منها؟ علماً أنّ المعيار المطلوب للعجز لا يتجاوز 5%، وفي أحلك الظروف التي مرّت على البلد لم يتجاوز العجز ما نسبته 11%”، معتبرةً أنّ ما جرى بالأمس ليس أكثر من “حفلة تذاكي مفضوحة لتمويه التداعيات الكارثية على المواطنين جراء إقرار موازنة من دون خطة نهوض وإجراءات إصلاحية مواكبة لرفع الرسوم، وأخطرها على الإطلاق مسألة زيادة رسم الدولار الجمركي وربطه بسعر منصة “صيرفة” التي أصبحت موازية لتسعيرة دولار السوق السوداء، بينما اللبنانيون غير قادرين على تحصيل أموالهم من المصارف على سعر المنصة، والعديد من المؤسسات تطرد موظفيها وتقفل أبوابها لأنها غير قادرة على الاستمرار في دفع الرواتب“.
وفي خضمّ حالة “الفوضى” التي سيطرت على أجواء جلسة قصر بعبدا، استرعى الانتباه الكباش الذي دار بين رئيس الجمهورية ميشال عون وفريق الثنائي الشيعي الوزاري على خلفية تمرير تعيينات عسكرية “خلسة” في مقررات مجلس الوزراء، كما عبّرت مصادر الثنائي، مؤكدةً أنّ عون تعمّد أن “يستغفلنا” في إقرار هذه التعيينات “متجاهلاً اعتراضنا الصريح على طرحها بشكل مفاجئ من خارج جدول الأعمال، ليبادر إلى إدراجها عنوةً في مقررات الجلسة من دون موافقتنا عليها“.
على الأثر، وإذ حاولت المصادر العونية التقليل من أهمية الموضوع عبر تبرير بند إقرار التعيينات بالضرورة الملحة “لمنع الشلل في المؤسسة العسكرية”، أثار استفراد رئيس الجمهورية بالقرار داخل مجلس الوزراء رغماً عن اعتراض وزراء الثنائي الشيعي استياء رئيس مجلس النواب نبيه بري، فسارع إلى تسريب معلومات ليلاً يتوعد من خلالها بـ”فرملة” المراسيم وأنه سيطلب من وزير المالية يوسف خليل عدم التوقيع عليها.
تزامناً، برز أمس استكمال أهالي شهداء وضحايا انفجار مرفأ بيروت تحركاتهم الميدانية التصعيدية للضغط باتجاه الإسراع في بت طلبات الرد المقدمة بحق المحقق العدلي القاضي طارق البيطار إفساحاً في المجال أمام استكمال تحقيقاته في القضية. وتحت هذا العنوان، اقتحم الأهالي صباحاً باحة قصر العدل في بيروت حيث افترشوا الأرض للمطالبة بأن تبادر رئيسة الغرفة الثانية لدى محكمة التمييز المدنية القاضية رولا المصري إلى البت في طلب النائبين المدعى عليهما علي حسن خليل وغازي زعيتر رد القاضي ناجي عيد الذي ينظر في طلب رد المحقق العدلي، ولم يخرجوا من قصر العدل إلا بعدما تلقوا وعداً من رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود بالعمل على تسريع الملف، مطمئناً إياهم إلى أنّ القاضية المصري مستمرة في منصبها حتى منتصف نيسان، فوافقوا على فضّ اعتصامهم وأمهلوا السلطات القضائية حتى يوم الثلاثاء المقبل للبت بطلبات الرد تحت طائل العودة إلى التصعيد.
أما في ملف ترسيم الحدود البحرية الجنوبية، فنقلت مصادر مواكبة لجولة المحادثات التي أجراها الوسيط الأميركي السفير آموس هوكشتاين مع المسؤولين اللبنانيين، أن أبرز ما خلصت إليه النقاشات تمحور حول “الموافقة الأميركية على المطلب اللبناني بعدم التشارك مع إٍسرائيل في أي حقل نفطي وغازي، فضلاً عن تجاوز مسألة الخطوط في التفاوض راهناً وحصره بمسألة توزيع الحقول الذي يسهّل ترسيم الخط البحري”، مشيرةً إلى أن “هوكشتاين سيحمل إلى إسرائيل الأجوبة النهائية من لبنان ليصوغ بعدها مقترحات مكتوبة لكي تتم مناقشتها مع الجانب اللبناني، على أن يضمن أي اتفاق في هذا الصدد وضع آلية تنفيذية تصلح في حال تحقيق اكتشافات نفطية جديدة مستقبلاً“.