ما جرى امس لا يحصل مثله الا في أسوأ جمهوريات الموز. فحتى في مطالع عهد الرئيس اميل لحود المغطى بالوصاية السورية العسكرية المباشرة، لم تبلغ مطاردة الخصوم حدود مطاردة شاغل منصب بمستوى حاكم مصرف لبنان بالطريقة الخارجة عن كل الأصول القضائية المشروعة وغير المشروعة حتى الأشد حزماً، بما ينذر فعلا بمغامرة متهورة من شأنها ان تفاقم الانهيار تحت شعارات موغلة في الشعبوية الرخيصة. والحال ان ملاحقة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بوسائل اشبه ما تكون ميليشيوية في “عهد الإصلاح والتغيير” إنما يراد منه شل الحاكم بعدما استنفد العهد كل الوسائل لاقتلاعه وتعيين حاكم جديد محسوب عليه ومحاكمة سلامة منفردا دون سواه بتهمة التسبب منفردا بالانهيار عبر سياسات الانكار التي يتقنها العهد. ولعل اخطر ما سجل في الفصل الجديد من المطاردة ان “قضاء العهد” الممثل بمدعي عام جبل لبنان القاضية غادة عون وجهاز “امن العهد” الممثل بأمن الدولة انبريا لمطاردة سلامة كأنه فار من وجه العدالة وأقحما قوى الامن الداخلي وامن الدولة وجها لوجه في ما كان يمكن ان يشكل مواجهة غير مسبوقة بين الأجهزة. جاء ذلك فيما لا تزال القاضية عون ترفض ان تتبلغ دعوى ردها المقدمة من رياض سلامة، وتصر على إبقاء الملف بيدها لأنه بمجرد تبلغها الدعوى يفترض بها أن ترفع يدها عن هذه الدعوى فورا. وبذلك يتخذ هذا التطور ذروة خطورته في التداعيات التي سيرتبها على المستويات السياسية والدستورية والقضائية والمالية لان الاندفاع للتشفي من سلامة بهذه الوسائل لن يمر من دون تداعيات انهيارية إضافية. وبدا لافتا في هذا السياق ان “تيار المستقبل” وحده من سائر القوى السياسية انبرى إلى التحذير من تبعات هذا الانجراف كاشفا وقائع خطيرة عن تورط رئيس الجمهورية ميشال عون في اتخاذ قرار مطاردة سلامة. واتخذ بيان “المستقبل” بعدا في توقيته ايضا اذ جاء غداة احياء الذكرى الـ17 لاغتيال الرئيس رفيق الحريري الذي تميز بحشد كبير التف حول الرئيس سعد الحريري عند موقع الضريح في وسط بيروت. وما زاد الانكشاف الفضائحي في ملاحقة سلامة بهذه الطريقة انها جاءت على وقع تصاعد الانكشاف الرسمي سياسيا وامنيا بإزاء التحدي السافر الذي واجهته وزارة الداخلية جراء إقامة مهرجانين للمعارضة البحرينية في الضاحية الجنوبية برعاية وحماية “حزب الله” وعجز الداخلية عن ترجمة قرارتها بمنع المهرجانين إلى حد عدم إعطاء تعليمات للقوى الأمنية لمنعهما.
وافادت المعلومات ان القاضية غادة عون ابقت مذكرة الاحضار في حق سلامة مفتوحة إلى حين احضاره إلى التحقيق، بعدما أرسلت ثلاث دوريات من امن الدولة لإحضاره بالقوة للاستماع اليه، إلى مصرف لبنان ومنزله في الرابيه، وشاليه يملكه في الصفرا، ولم يجدوه. وهددت عون بالادعاء على المدير العام لقوى الامن الداخلي اللواء عماد عثمان بذريعة منع انفاذ قرار قضائي . وذكر ان عون طلبت كتابيا من عثمان جوابا عما إذا كانت هناك موانع قانونية تحول دون احضار سلامة، فإذا كان الجواب نعم، عندها ستبادر إلى فتح تحقيق فوري معه، والادعاء عليه بجنحة مشهودة تتعلق بعدم تنفيذ قرار قضائي واحالته فورا على قاضي التحقيق، أما في حال كان الجواب سلبا وأنه لا مانع من تنفيذ مذكرة الاحضار عندها ستكلف جهاز أمن الدولة مجددا ببقاء مذكرة الاحضار مفتوحة إلى حين تنفيذ مذكرة الاحضار والقبض على سلامة في أي مكان يتواجد فيه وسوقه مخفورا أمامها لاستجوابه واتخاذ القرار المناسب بشأنه. ولكن المديريّة العامّة لقوى الأمن الداخلي أصدرت بيانا أوضحت فيه أنها لم تمنع دوريّة من المديريّة العامّة لأمن الدولة من تنفيذ مذكّرة الإحضار بحقّ حاكم مصرف لبنان وان نقطة قوى الأمن الداخلي موضوعة منذ فترة بأمرٍ من الرؤساء لحماية الحاكم من أيّ تهديد أمني، وهذه النقطة الأمنيّة عناصرها غير مخوّلة التدخلّ، أو التبليغ، او حتّى منع تنفيذ أيّ مذكّرة رسميّة.
واستوقف المراقبين البيان العنيف لـ “تيار المستقبل” الذي اعتبر ان “ملاحقة الحاكم ومداهمة منازله ومكتبه في مصرف لبنان، يشكل خطوة في مسار الانهيار وليس خطوة في اوهام الحل ومكافحة الفساد”. وكشف ان “المداهمة وقرار التوقيف اتخذا في القصر الجمهوري بطلب مباشر من الرئيس ميشال عون شخصياً إلى رئيس جهاز امن الدولة اللواء صليبا، وان موعد المداهمة معروف منذ اسبوع، وجرى تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي لناشطين عونين”. واعتبر “ان الاصرار على هذا الاجراء من رئيس الجمهورية يرمي إلى تحقيق هدف في المرمى الاقتصادي لحساب التيار الوطني الحر على ابواب الانتخابات النيابية، بمثل ما يرمي إلى تبرير التقصير في المفاوضات الجارية مع صندوق النقد الدولي وتعطيل هذه المفاوضات وضرب اي امكانية لتحقيق الاستقرار الاقتصادي. لقد طالب رئيس الجمهورية شخصياً بتنفيذ قرار توقيف حاكم مصرف لبنان، وعندما جرى تنبيهه إلى احتمال اصطدام عناصر امن الدولة مع عناصر الحماية للحاكم من قوى الامن الداخلي اجاب: جروه حتى لو استدعى الامر الاشتباك مع قوى الامن الداخلي”. وأصدرت مديرية الاعلام في رئاسة الجمهورية بيانا نفت فيه اتهامات “المستقبل” لعون.
مجلس الوزراء
في أي حال غابت هذه التطورات بالكامل عن مجريات الجلسة التي عقدها مجلس الوزراء بعد ظهر امس في قصر بعبدا برئاسة رئيس الجمهورية ميشال عون الذي عاد بشكل مفاجئ ليطالب باعتماد الميغاسنتر في الانتخابات من بوابة البحث في تمويل الانتخابات. وقد ناقش المجلس خطة الكهرباء واعتمادات الانتخابات النيابية في جلسة لم تختلف مداولاتها كثيرا عن الفوضى التي طبعت الجلسة السابقة رغم ان الثنائي الشيعي تفاهم مع الرئيس ميقاتي على تجاوز اشكال إقرار الموازنة. واقر مجلس الوزراء أمس اعتمادات وزارة الدخلية المطلوبة لانجاز الانتخابات كما استمع إلى شرح من وزير الطاقة عن خطة الكهرباء التي على ما يبدو لم تقنع معظم الوزراء.
وقالت مصادر وزارية ان البند المتصل بأعتمادات الأنتخابات لم يسجل أي اعتراض وزاري. وفي موضوع الميغاسنتر، طلب الرئيس ميقاتي من وزير الداخلية إعداد دراسة بشأنه لتعرض الأسبوع المقبل، والميغاسنتر لا يحتاج إلى قانون. وافيد أن مبلغ ٣٢٠ مليار ليرة الذي أقر للانتخابات يحتاج إلى مشروع قانون يحول إلى مجلس النواب، أما مبلغ الـ ٤٠ مليار فمن احتياطي الموازنة.
وفي موضوع خطة الكهرباء قدم وزير الطاقة عرضه الشفهي باللغة العربية بشكل مفصل تحت عنوان خطة النهوض المستدام في قطاع الكهرباء وهي قصيرة ومتوسطة وطويلة المدى، لكن العرض الشرائحي والذي قدم على شاشة مجلس الوزراء كان باللغة الأجنبية، الأمر الذي لم ينل اعجاب بعض الوزراء. وفهم أن الترجمة لم تكن امينة مع النص إلا أن هذه الأمر لم يحل دون شرح الخطة. وتردد أن عددا من الوزراء قدم ملاحظاته وستستكمل لاحقا دون تحديد موعد الجلسة المقبلة لمواصلة النقاش.
الانتخابات والدول
وفي الشأن الانتخابي، كان وزير الداخلية والبلديات بسام مولوي دعا إلى “المشاركة الكثيفة ترشّحاً وانتخاباً وسيتظهّر ذلك في الحملة الدعائية التي ستُطلقها الوزارة”. وأكد أن “وزارة الداخلية قامت بمختلف الإجراءات المطلوبة وفق قانون الإنتخابات والمواعيد المحدّدة”. وتوجه مولوي خلال “منتدى الانتخابات” الذي عقد في وزارة الداخلية، وحضره حشد من السفراء، إلى المجتمع الدولي، قائلاً إن “الظروف المادية صعبة على الصعيد اللوجستي والموارد البشرية ونحن نعاني ما نعانيه بصمت من دون أن نجعل تلك الصعوبات عقبة أمامنا ونبتدع الحلول لنؤكد أنّ لا مجال لطرح التأجيل أو التمديد”، معتبراً أن “لا مجال إلاّ لتأمين الموارد لاعتمادات الانتخابات وأتوجه بطلب إلى المجتمع الدولي للمساعدة بتأمين الأموال من دون المسّ بسيادة لبنان”.
وبدورها شددت المنسقة الخاصة للأمم المتحدة يوانا فرونتسكا على أهميّة إجراء الإنتخابات في موعدها وأملت أن “يوافق مجلس الوزراء على الميزانيّة الإنتخابيّة على صعيد مكوّناتها المحليّة والخارجية حتّى يمكن المضي قدمًا بسرعة وحتّى لا يسود جوًّ من عدم اليقين حول الإنتخابات.” كما أشارت إلى أهميّة تكثيف حملات التوعية وتثقيف الناخبين، فضلًا عن الحاجة إلى مزيد من الوضوح بشأن تصويت المغتربين. ودعت السلطات اللبنانيّة إلى تمكين هيئة الإشراف على الانتخابات بكل وسيلة ممكنة حتى تتمكن من أداء دورها المكلّفة به والّذي يُعتبر بالغ الأهميّة من أجل نزاهة العمليّة الإنتخابيّة.