يكاد الرئيس فؤاد السنيورة وحده، من المرجعيات السنّية، لم يقل ماذا سيفعل قبل أيار المقبل. الرئيس تمام سلام سبق الرئيس سعد الحريري إلى الانكفاء، ثالثهما الرئيس نجيب ميقاتي غير مرشّح إلى إشعار آخر. أما ما يقوله السنيورة، فمقتضب: لن يقدّم هدية إلى أحد الآن ما سمعه مسؤول رسمي من ديبلوماسي غربي رفيع عن شكوك محتملة بإزاء إجراء الانتخابات النيابية في موعدها، أعاد الاعتبار إلى حد ما إلى الإشاعات والمخاوف من أن الاستحقاق ربما كان في خطر.
رداً على سؤال المسؤول الرسمي عن جدية الضغوط المتلاحقة التي يثابر عليها المجتمع الدولي، وتأكيد إصراره على إجراء الانتخابات النيابية في موعدها المعلن، قال الديبلوماسي الرفيع الزائر: أنا هنا أمثّل المجتمع الغربي. ضغطنا لإجراء الانتخابات النيابية الليبية التي كانت مقرّرة في نهاية السنة المنصرمة أكثر مما نضغط الآن في لبنان، إلا أنها تأجّلت وفُرض أمر تأجيلها على المجتمع الدولي الذي قَبِلَ على مضض. ماذا عسانا أن نفعل أكثر؟ ما مانع أن لا يتكرر ذلك هنا أيضاً. هذا لا يعني أننا نوافق على تأجيل الانتخابات أو نتقبّله. ماذا نفعل إذا كانت ثمة إرادة بالتأجيل فُرضت هنا؟”.
لم يرمِ الشرح الطويل للديبلوماسي الغربي الرفيع سوى إلى أن المجموعة الدولية – وإن في ظل ضغوطها المتواصلة – لا تستبعد خيار التأجيل قبل وقت قصير من الوصول إلى موعد صناديق الاقتراع. إلا أن الرجل الذي لم يكن يخدم في لبنان عام 2004، ذكّره محدّثه المسؤول الرسمي بأن لهذا البلد تجربة أدهى في عصيان الإرادة الدولية أياً بلغت وطأة تهديداتها، هو ما حصل في أيلول 2004 عندما مُددت ولاية الرئيس إميل لحود في الساعات التالية لصدور قرار مجلس الأمن الرقم 1559، وفي أحد بنوده رفض تعديل الدستور لهذه الغاية. لم يُصغَ إليه، ولم تخرب البلاد للفور إلا في وقت لاحق، بعد خمسة أشهر، باغتيال الرئيس رفيق الحريري.
عشية انتهاء ولاية مجلس النواب عام 2013، على وفرة النداءات والمطالبات التي أطلقها سفراء دول كبرى في دعوة اللبنانيين إلى الذهاب إلى صناديق الاقتراع، التأم مجلس النواب في اليوم الأخير من العقد العادي الأول في 31 أيار عامذاك، وصوّت على اقتراح قانون معجّل مكرّر بتمديد ولايته سنة وخمسة أشهر بذرائع واهية. كان في البرلمان حينذاك، كالنائب السابق نقولا فتوش، مَن تجرّأ على أن يكون أول مَن يُقدِم، ويعدّ اقتراحاً كي تلحق به الغالبية النيابية المتحفّزة في الأصل. حينذاك، على نحو قد يكون لبنان مرشحاً لأن يقبل عليه مجدداً، تقاطعت الانتخابات النيابية والرئاسية. قبل أن تنتهي ولاية البرلمان الممدّدة إلى تشرين الثاني 2014، كانت رئاسة الجمهورية شغرت منذ أيار، فترافق هذان الشغوران.
في ما يقوله المسؤولون اللبنانيون في الآونة الأخيرة، لدحض فكرة التأجيل حتى، إن أحداً من كتل البرلمان أو أحزابه لن يجرؤ بدوره على أن يكرر سابقة النائب الزحلي المستقلّ وقتذاك. ربما بسبب هذا العامل المعلن، يتصرّف زعماء الكتل والأحزاب كما لو الانتخابات النيابية واقعة في موعدها. سقط الحاجز المالي أخيراً، ولا أسباب للتذرّع بمشكلة أمنية. قبل ذلك، بَانَ من المنطقي أنها حاصلة حتماً بلا عقبات أو حجج، لو لم يفاجئ الرئيس سعد الحريري حلفاءه وخصومه في آن باعتزاله السياسة والعزوف هو وعائلته وتياره عن الترشح.
مذ اتّخذ قراره هذا في 24 كانون الثاني الفائت، حامت الشكوك مجدداً من حول مصير الانتخابات: تارة بالقول إن من غير الطبيعي القبول بإجرائها في غياب طائفة أساسية كالسنّة، إن لم تقاطعها فهي على الأقل لن تُقبل عليها، وهذا ما لم يقله الحريري الذي أخرج نفسه وعائلته وتياره من الاستحقاق وليس طائفته. وطوراً بالقول إن إفقاد الطائفة السنّية مرجعيتها التمثيلية سيضعها في مهبّ مرشحين مغامرين يخطفون مقاعدها، بلا أي مرجعية تنبثق منهم بعد إقفال صناديق الاقتراع.
يضاعف هذا القلق الاعتقاد الشائع بقرار خارجي جمّد الحياة السياسية للحريري وفريقه إلى إشعار آخر على الأقل، لم يسع الرئيس السابق للحكومة إلا الامتثال له. ليست الإجراءات التي أعلنها تيار المستقبل أخيراً حيال نوابه أو أعضاء فيه يفكرون في الترشح لانتخابات أيار، سوى تأكيد الامتثال الكامل لرئيسه لما دُعي إليه بلا تلاعب أو تحايل أو اجتزاء، بأن خيّر هؤلاء بين عدم الترشح للبقاء في التيار أو الاستقالة منه. عنى مجموع الإشارات التي عبّر من خلالها الحريري عن تسليمه بقرار اعتزاله، ليس الظنّ فحسب بالسعودية بأنها وراء كل ما حدث على أنه استكمال لما لم يكتمل حلقات في 4 تشرين الثاني 2017 والأيام التالية، بل إن الرجل فقد كذلك المرجعية العربية الاحتياطية التي مثّلتها مصر له وللسنّة اللبنانيين، تاريخياً وحديثاً. قيل إن القاهرة أحجمت عن تحديد موعد للحريري لمقابلة الرئيس عبد الفتاح السيسي، كان قد طلبه وهو في طريق عودته إلى بيروت في 20 كانون الثاني.
الأكثر مدعاة للقلق، بعد إمرار انتخابات أيار، أن الطائفة السنّية ستبدو كأنها مستبعدة عن الاستحقاق التالي بعد أشهر، وهو انتخابات الرئاسة، فلا تكون عاملاً أساسياً مقرّراً فيها، وتالياً التعامل معها على أنها على هامش هذين الاستحقاقين.
كانت السفيرة الأميركية دوروثي شيا أول مَن تلقّف هذه الإشارة وتداعيات إخراج الحريري من المعادلة الوطنية على أبواب استحقاقين دقيقين، يوم اعترفت أمام رئيس الجمهورية ميشال عون، غداة اعتزال الحريري، أنها تحدثت إليه بإلحاح قبل ساعتين من إعلانه قراره، تطلب منه التراجع عنه، فلم يستجب. يومذاك سألت رئيس الجمهورية ماذا يسعه أن يفعل؟