فعلها قيصر روسيا فلاديمير بوتين وهاجم أوكرانيا مُشعلًا بذلك فتيل أكبر حرب برية في أوروبا منذ العام 1945. إنخراط قوى غربية بشكلٍ مباشر في الحرب الروسية – الأوكرانية، كان ليضع قوى عظمى في مواجهة مباشرة فيما بينها وبالتالي إنتقال الحرب من حرب إقليمية إلى حرب عالمية، لكن هذه المخاوف تبدّدت سريعًا مع إعلان كل الدول الغربية عدم إرسال جنود إلى أوكرانيا للمشاركة في القتال. القراءة الأولية لهذه الحرب تُظهر مدى سهولة الحرب وصعوبة المُحافظة على السلم في هذا العالم، وفي نفس الوقت أظهرت هذه الحرب مدى تعلّق إقتصادات الدول القريبة والبعيدة بقرارات الحرب.
خلفية الأزمة الروسية الأوكرانية
تعود أسباب الهجوم العسكري الذي شنّته روسيا في 24 شباط الجاري على جارتها أوكرانيا إلى تراكمات سلبية في العلاقة بين الجارين. فبعد تفكّك الإتحاد السوفياتي في العام 1991 وإنفصال أوكرانيا عن روسيا، قبلت أوكرانيا (ثالث أكبر دولة من ناحية الترسانة النووية آنذاك) بالتخلّي عن ترسانتها النووية في العام 1994 مقابل ضمانات أمنية من الجانبين الشرقي والغربي بعدم إستخدام قوة تُهدّد السلم الإقليمي وأمن الدولة الأوكرانية. ووقعت كلٌ من روسيا والغرب على ميثاق الأمن الأوروبي في إسطنبول في العام 1999 والذي يُؤكّد حق كل دولة في حرية إختيار أو تغيير إعتباراتها الأمنية. وبالتالي إحتفظت الجارتين بعلاقات جيدة إمتدّت حتى العام 2008، حيث أظهر تصريح للرئيس بوتين آنذاك أن روسيا تعتبر أوكرانيا إمتدادًا طبيعيًا لنفوذها وبالتالي فهي ضد إنضمام اوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي.
وشهدت أوكرانيا في العام 2013 إحتجاجات شعبية أدّت إلى إسقاط الرئيس يانوكوفيتش (الموالي لروسيا) وظهور إعتراضات في كلٍ من إقليميّ دونيتسك ولوهانسك (في شرق أوكرانيا) اللذين يقطنهما سكّان من أصول روسية ولكن أيضًا في شبه جزيرة القرم التي ضمّتها روسيا لها بالقوّة في العام 2014!
المشهد بقي مُستقرًا إلى أن أقرّ الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي في أيلول من العام 2020، إستراتيجية الأمن القومي لأوكرانيا والتي نصّت بوضوح على تطوير العلاقة من حلف شمال الأطلسي بهدف الدخول إليه. وتبع ذلك في أذار 2021 قرارً أخر للرئيس الأوكراني نصّ على إستعادة شبه جزيرة القرم.
هذا الواقع لم يُعجب القيادة الروسية التي تؤمن بأن الروس والأوكرانيين هما شعب واحد (مقال للرئيس الروسي في تموز 2021). وبدأت الأمور منذ ذلك الوقت تأخذ منحًا تصعيديًا حيث أعلنت روسيا إنَّ انضمام أوكرانيا المحتمَل إلى حلف شمال الأطلسي وتوسيع الحلف إلى حدودها يُشكل تهديدًا واضحًا لأمنها القومي. أما أوكرانيا ومن خلفها الدول الغربية، فقد إتهمت بوتين بمحاولة إعادة إحياء الأمبراطورية الروسية خصوصًا أن الروس نشروا في أذار 2021 ما يقارب المئة الف عنصر مع عتادهم على الحدود مع أوكرانيا.
الجيش الروسي والوحول الأوكرانية
على الرغم من سحب قسم من هذه الحشود في حزيران وآب من العام 2021، إلا أن الأزمة عادت إلى أوجها في أواخر تشرين الأول مع حشد روسيا لمئة ألف مقاتل على الحدود الأوكرانية هدّدت من خلالها أوكرانيا والغرب بأنه سيكون لها ردّ عسكري في حال لم تحصل على ضمانات بعدم إنضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي وتخفيف القدرات العسكرية للحلف في أوروبا الشرقية. هذه المطالب تمّ رفضها من قبل الحلف الأطلسي ومن قبل أوكرانيا، وعلى الرغم من المفاوضات المباشرة التي حصلت بين رؤساء غربيين وبوتين، فشلت الديبلوماسية بحلّ هذه الأزمة وأطلق بوتين حملته العسكرية بدءًا من إقليم دونباس لتُصبح في اليوم الثاني ثلاثية المحاور: شمالًا (من الأراضي البيلاروسية) ومن الشرق (من الأراضي الروسية) ومن الجنوب من شبه جزيرة القرم والبحر.
الواضح من الإستراتيجية العسكرية على الأرض، أن الهدف الأساسي للروس هو إسقاط النظام الأوكراني الحالي وإحياء نظام موالٍ له. فإستراتيجية الهجوم نصّت على الخرق السريع للخطوط الأوكرانية من الشمال بإتجاه العاصمة القريبة من الحدود البيلاروسية، ومن الشرق بإتجاه خاركيف – ثاني أكبر مدن أوكرانيا، ومن الجنوب. على هذا الصعيد، ونظرًا إلى حجم الماكينة العسكرية الروسية وبالتالي إلى غياب ميزان في القوى عسكرية، كان من المتوقّع أن تصل روسيا إلى هدفها خلال عدّة أيام.
بالفعل إنهارت القوى الأوكرانية في البدء، وتوغّل الجيش الروسي في الأراضي الأوكرانية إلى حدّ الوصول إلى أبواب العاصمة كييف ودخول مدينة خاركيف. حتى أن الرئيس الأوكراني طلب من نظيره الروسي الجلوس حول طاولة الحوار لحلّ الأزمة ديبلوماسيًا وهو ما أُعتبر إشارة إلى عدم قدرة أوكرانيا على الصمود في وجه الماكينة العسكرية الروسية. أيضًا تلقى الرئيس الأوكراني عرضًا من الأميركيين بنقله خارج البلاد وهو ما رفضه رفضًا تامًا نظرًا إلى التحولات الميدانية.
على الأرض، أظهرت القوات الأوكرانية مقاومة شرسة أمام الجيش الروسي، كما أن المواطنين الأوكرانيين شاركوا بالدفاع عن بلدهم بقنابل المولوتوف وهو ما رفع من عزيمة الجيش والشعب بالتوازي. المقاومة الأوكرانية لم تكن لتفرض نفسها لولا المستشارين العسكريين ونوعية الأسلحة التي قدّمها الغرب لأوكرانيا والتي حوت على أسلحة يُمكن القول أنها لا تُستخدم إلا في عددٍ قليل جدًا من البلدان (18 بلدا) على مثال صاروخ ستينغر التي لعب دورًا حاسمًا في الحرب الأفغانية ضدّ الروس. ولهذه الصواريخ التي تلقّت منها أوكرانيا المئات، فعالية عالية ضد الطائرات وصواريخ كروز تصل إلى 5 كيلومترات حيث أُسقط عدد كبير من الطائرات الروسية. وبحسب تقديرات الخبراء العسكريين، فإن أوكرانيا ستحصل على عدة ألاف من هذه الصواريخ في المرحلة المُقبلة نظرًا إلى دورها الحاسم في تعديل المعطيات على الأرض وعلى المواقف! حتى أن ألمانيا التي أعربت منذ أسبوع عن رفضها تزويد أي دولة في نزاع عسكري بأسلحة، عادت وتخلت عن موقفها وأعلنت عن أنها ستزود أوكرانيا بالأسلحة والآليات العسكرية.
الظاهر من حصيلة عدة أيام من الحرب، أن المعارك ستطول! هذا ما صرّح عنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي بالطبع يستند إلى تقارير عسكرية لإصدار مثل هذه المواقف. وهو ما يعني أن الحرب ستتحوّل إلى حرب شوارع خصوصًا في المدن الكبيرة. بالتوازي، أعلن القائد الأعلى لحلف شمال الأطلسي الجنرال ولترز عن تفعيل القوة مُتعدّدة الجنسيات المكونة من قوات برية وجوية وبحرية وقوات العمليات الخاصة والتي يُمكن أن تنتشر بسرعة في دول الحلف، تحسبًا لأي طارئ على الأرض.
يقول عميد مُتقاعد في الجيش اللبناني، أن قدرة الرئيس بوتين على التفاوض حول مطالبه كانت لتكون أقوى لو إكتفى بالإقليمين اللذين أعلنا إنفصالهما. أما اليوم وبعد أن تمّ فرملة التقدم العسكري الروسي، فيُتوقّع، بحسب العميد المُتقاعد، أن يكون هناك حرب شوارع ضارية نظرًا إلى أن الحرب بالعتاد من طائرات وصواريخ يُقابلها عتاد مُتطور تُقدمه الدول الغربية لأوكرانيا وهو ما يفرض توازنا في الحرب. وهذا ما يُمكن إستنتاجه – بحسب العميد المُتقاعد – من إقدام روسيا على جلب مُقاتلين شيشان إلى المدن الأوكرانية لخبرتهم في قتال الشوارع ولعدم إستنزاف الجيش الروسي.
الردّ الغربي: العقوبات الإقتصادية
المواقف الغربية (أميركية وأوروبية) بدأت بإدانة العملية العسكرية الروسية وبفرض عقوبات إقتصادية على روسيا. فبريطانيا، وألمانيا، وفرنسا، وكندا، والولايات المُتحدة الأميركية، وأستراليا، والإتحاد الأوروبي، ولاتفيا، واليابان… فرضت عقوبات إقتصادية على روسيا طالت مصارف كبيرة وأشخاصا مثل بوتين ووزير خارجيته وأفراد قريبين منه (تخطّى العدد الـ 150 شخصا)، كما وشركات تُعتبر ممولًا أساسيًا للكرملين. أيضًا طالت العقوبات خط أنابيب الغاز نورد ستريم 2 الذي أوقفت ألمانيا تراخيص تشغيله، والتصدير الروسي إلى عدد من البلدان مثل كندا واليابان التي حظرت التجارة مع روسيا ومنعت شراء سندات خزينة روسية وعلقت إصدار تأشيرات دخول للمواطنين الروس. وأغلق عدد كبير من البلدان أجوائه أمام الطيران الروسي، وقام الإتحاد الأوروبي بتعليق صادرات النفط الروسي إلى الإتحاد الأوروبي ومنع تصدير مكونات الطيران الأوروبية والمكونات الإستراتيجية إلى روسيا وفرض عقوبات على الشركات العسكرية الروسية وجزء كبير من الشركات المصرفية الروسية. أما من جهة المنظمات الرياضية العالمية، فقد حثت اللجنة التنفيذية للجنة الأولمبية الدولية جميع الاتحادات الرياضية الدولية على إلغاء أو نقل أي أحداث مخطط لها في روسيا أو بيلاروسيا. وقام الاتحاد الدولي للشطرنج بنقل جميع المباريات الرسمية، بما في ذلك أولمبياد الشطرنج المقرر في موسكو، إلى خارج روسيا. وعلق الإتحاد الدولي للجودو الرئاسة الفخرية للرئيس بوتين.
عمليًا الإقتصاد الروسي تلقى ضربة كبيرة نتيجة هذه العقوبات. فالصادرات الروسية التي بلغت 489.8 مليار دولار أميركي في العام 2021، مُهدّدة بالإنخفاض إلى أكثر من النصف، وهو ما يعني حرمان هذا الإقتصاد من مداخيل كبيرة من العملة الصعبة التي يحتاجها الإقتصاد. أيضًا منع الشركات والمصارف الروسية من الولوج إلى الأسواق المالية يعني حرمان الإقتصاد من رؤوس الأموال التي تُعتبر وقود النمو الإقتصادي. أكثر من ذلك، فإن الناتج المحلُي الإجمالي الروسي والبالغ 1.7 تريليون دولار أميركي مُهدّد بالإنكماش بشكلٍ كبير نتيجة الإجراءات التي إتخذها المُجتمع الدولي ضد روسيا.
من جهة أخرى، تكثر الأحاديث عن إقصاء روسيا عن نظام سويفت (Swift) وهو النظام الأكثر إستخدامًا في العالم للتجارة الدولية، وهذا الأمر إن حصل، سيُشكّل ضربة قاضية للإقتصاد الروسي. وتبقى المخاوف أن مثل هذه الخطوة قد تدفع بالقيادة الروسية إلى أخذ قرارات عسكرية خطيرة قد تؤدّي إلى حرب ذات نطاق أوسع. من هنا نرى أن هناك تروّيا كبيرا لدى الرئيس الأميركي بخصوص هذا الموضوع نظرًا إلى تداعيات هذا القرار عسكريًا ولكن ماليًا من خلال دفع الروس إلى إستخدام أنظمة بديلة وهو ما يُضعف من هيمنة الدولار في التجارة العالمية. لذلك عمدت الدول الغربية إلى فرض عقوبات جزئية (أي على شركات ومصارف فقط) لإستخدام نظام سويفت وبالتالي سيتمّ رفع عدد المقصين من النظام تدريجيًا.
الجدير ذكره أن الصينين أنشأوا نظامًا خاصًا بهم يُدعى الـ CIPS (Cross-Border Interbank Payment System) والذي يعتمد على تقنية البلوك تشين كنظام بديل وقد تمّ إستخدام هذا النظام في 17% من التبادل التجاري بين روسيا والصين. أيضًا للروس نظامهم الخاص بهم والذي يُدعى SPFS (Sistema peredachi finansovykh soobscheniy) وهو نظام يعتمد أيضًا على تقنية البلوكتشين. إلا أن هذين النظامين يبقيان غير كافيين لتفادي تداعيات إقصاء روسيا عن نظام سويفت بحكم أن الصين لا تُشكّل إلا 20% من حجم التبادل التجاري لروسيا مع العالم.
على صعيد أخر، تبقى الأنظار مُسلّطة على الإحتياطي الأجنبي للمصرف المركزي الروسي الذي بلغ 630 مليار دولار أميركي في أواخر كانون الثاني 2022، منه 469 مليار دولار عملات أجنبية نصفه سيتمّ تجميده بسبب العقوبات. هذا الإحتياط يُشكّل عنصرًا جوهريًا خلال الحروب إذ يجب عليه الدفاع عن العملة الوطنية وتغطية مصاريف الحرب (التي من المفروض أنها غير موجودة في الموازنة). وبالتالي فإن هذا الحجم غير كافٍ للدخول في حرب إستنزافية في أوكرانيا والدفاع عن الروبل الذي يتهاوى يوميًا في ظل العقوبات الغربية. وهو ما يدفعنا إلى القول إن روسيا لن تتأخر في الجلوس على طاولة الحوار.
التداعيات على الإقتصاد العالمي
لا يُمكن القول أن هناك رابحًا من هذه الحرب، فكل الدول ستتضرّر من أكثر من باب أولها وبدون إستثناء إرتفاع أسعار النفط التي ستزيد الكلفة على الإقتصادات العالمية بالإضافة إلى التضخّم الذي سيقتل النمو الإقتصادي أينما وُجد.
النفط الذي ترتفع أسعاره نتيجة الأزمة، يفرض زيادة المعروض في الأسواق وهو ما يعني أن على دول الأوبك إعادة النظر بحجم إنتاجها. هذا الأمر سيفرض نفسه في المحادثات الثنائية بين الولايات المُتحدة الأميركية ودول الأوبك وعلى رأسها المملكة العربية السعودية. فهل ستقبل دول الأوبك برفع إنتاجها؟ من الصعب معرفة ذلك نظرًا إلى العلاقات الصعبة بين الولايات المُتحدة الأميركية من جهة وبين دول الأوبك من جهة أخرى. لكن من المتوقّع أن يكون هذا الموضوع حديث الساعة في الأيام والأسابيع المُقبلة.
على الصعيد الأوروبي وخصوصًا الألماني، تلقى الإقتصاد ضربة كبيرة مع مُشكلة الغاز الروسي الذي تعتمد عليه دول الإتحاد بنسبة 40%. وبالتالي من المتوقّع أن يتراجع العديد من هذه الإقتصادات بالتزامن مع التضخّم وهو ما سيزيد حكمًا عجز الموازنات. أيضًا سيتضرّر قطاع الطيران الذي ينتمي إلى الدول التي أقفلت مجالها الجوّي مع روسيا بحكم أن الطائرات ستضطر إلى تعديل مساراتها وهو ما سيؤدّي إلى كلفة أعلى.
من جهة الدول العربية، فإن الدول المنتجة للنفط ستشهد مدخولًا إضافيًا نتيجة إرتفاع أسعار النفط، إلا أن هذا الأمر له تداعيات سلبية على المدى المتوسط والبعيد مع زيادة الإعتماد على الطاقات البديلة وهو ما يوحي بخسائر مُستقبلية. أضف إلى ذلك التضخّم الذي سيتغلّغل في هذه الإقتصادات، بالإضافة إلى حاجة بعض البلدان إلى مصادر بديلة للحبوب.
أمّا من جهة البلدان العربية غير المُنتجة للنفط، فإنها ستكون عرضة لنقص حاد في الحبوب وعلى رأسها القمح والذرة وغيرها بالإضافة إلى إرتفاع أسعار المحروقات وإرتفاع التضخم وكلها عناصر غير مؤاتية ستزيد حكمًا من الفقر في هذه المُجتمعات. ولعل لبنان الذي يرزح تحت أزمة مُتعدّدة الأبعاد هو الأكثر تضرّرًا من الأزمة الروسية الأوكرانية نظرًا إلى الوضع المالي والإقتصادي والنقدي الذي يعيشه.