بدأ صخب الماكينات الانتخابية يعم أجواء البلاد مع اقتراب موعد اقفال باب الترشيح للإنتخابات النيابية منتصف الشهر الجاري، وذلك على رغم الانشغال بالحرب الروسية ـ الاوكرانية وما يمكن ان تكون لها من انعكاسات على لبنان والمنطقة والعالم، فيما الحكومة تواصل العمل على جبهات عدة لتلمس طريقها الى إنجاز خطة التعافي والوصول الى لاتفاقات المطلوبة مع صندوق النقد الدولي، من دون ان تهمل التطورات السياسية وما يتطلبه انجاز الاستحقاق النيابي من تحضيرات. وفي هذه الاجواء زارت السفيرة الاميركية في لبنان دوروثي شيا مقر جريدة “الجمهورية” في العمارة بعد ظهر أمس حيث استقبلها رئيس مجلس ادارتها السيد ميشال الياس المر في حضور رئيس التحرير جورج سولاج وعدد من الزملاء الاعلاميين، وقد حضر اللقاء ايضاً مدير الاعلام في السفارة الاميركية السيد مايكل كايسي بونفيلد، وأُجريت جولة أفق حول عدد من القضايا والمسائل المهمة المطروحة على الصعد السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية والاعلامية.
في موازاة ارتفاع منسوب الخطوات الجدية نحو الانتخابات، تحتدم المؤشرات التي تجعل هذا الاستحقاق الدستوري في منتهى الصعوبة، واذا أسقطنا العامل السياسي فإن الامور الادارية واللوجستية اصبحت اخطر بكثير في ظل المشكلة التي تعانيها ادارات الدولة والمؤسسات.
وعلمت “الجمهورية” ان هذا الامر يطرح بقوة خلف الكواليس، وان عددا كبيرا من القضاة ورؤساء الاقلام ولجان القيد يرفضون الالتحاق بهذه المهمة. كما ان المعلمين الذين سيُستعان بهم في اقلام الاقتراع لن يتحركوا من أماكنهم اذا لم يحصلوا على تغطية للنقل وبدل اتعاب، وهذا الامر سيتطرق اليه مجلس الوزراء في جلسته عند الثالثة بعد ظهر اليوم في القصر الجمهوري وعلى جدول اعمالها 26 بندا ابرزها التقرير الذي سيعرضه وزير الداخلية والبلديات بسام المولوي حول اعتماد آلية مراكز الاقتراع الكبرى الـ mega center، والذي سيؤكد فيه استحالة انجاز هذا الامر خلال المدة الفاصلة عن موعد الانتخابات لأنه يحتاج الى فترة زمنية لإانجازه أقلها 5 اشهر، عدا عن الكلفة المالية العالية المقدرة بنحو 6 ملايين دولار وضرورة المرور بمجلس النواب لإجراء التعديلات القانونية اللازمة على القانون 44 / 2017 نظرا لارتباط الامر بالبطاقة الممغنطة، بالاضافة الى الحاجة للعديد البشري والتجهيزات التقنية وتأمين الكهرباء طوال مدة الاقتراع…
وفي سياق متصل يتوقع ان يقر المجلس مشروع قانون معجّل يرمي الى تمديد ولاية المجالس البلدية والاختيارية لمدة سنة بما يؤجّل انتخاباتها المقررة مطلع الصيف المقبل.
على انّ بند الـ mega center ليس الوحيد الذي سيأخذ حيّزاً من النقاش على طاولة المجلس اذ هناك بند آخر مكهرب هو طلب وزارة الطاقة والمياه الموافقة على آلية الـ “spot cargo” لزوم شراء مادتي “الغاز اويل” و”الفيول اويل” لمصلحة مؤسسة كهرباء لبنان، الامر الذي سيعيد النقاش في مصادر التمويل وتوفير الدولارات لشراء الكميات اللازمة.
الموقف من الحرب
وعلمت “الجمهورية” انّ وزراء “الثنائي الشيعي” سيثيرون مجددا موقف لبنان من الحرب الروسية ـ الاوكرانية خصوصا بعد ان قفز من مجرد بيان لوزارة الخارجية الى تصويت في الجمعية العمومية للامم المتحدة ضد روسيا حيث كان يمكن للبنان ان يمتنع عن هذا التصويت على غرار 35 دولة وازَنَت بين الشرعية الدولية وبين علاقاتها ومصالحها.
تسهيلات اميركية
والى ذلك، قالت اوساط سياسية لـ”الجمهورية” ان تصويت لبنان في الجمعية العمومية للأمم المتحدة الى جانب قرار يندّد بروسيا يعكس قرارا رسميا بإرضاء واشنطن في مقابل التعويل على كسب تسهيلات اميركية في مجالي ترسيم الحدود البحرية والحصول على مساعدات من صندوق النقد الدولي.
وكانت السفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا قد سلّمت رئيس الجمهورية العماد ميشال عون عرضاً مكتوباً من الموفد آموس هوكشتاين حول مقاربته للحدود والتي عرضها خلال زيارته الأخيرة لبيروت، وهي مقاربة أوحت جهات رسمية بأنها “مقبولة ويمكن البناء عليها”.
الموقف الفرنسي
وفي اطار الحراك الديبلوماسي الأوروبي الغربي لمواكبة الحرب الروسية ـ الاوكرانية وتوضيح الموقف الأوروبي مما يجري في أوكرانيا، زارت السفيرة الفرنسية في لبنان آن غريو أمس رئيس الجمهورية ميشال عون وأجريا جولة أفق تناولت مواضيع الساعة، ومنها العلاقات اللبنانية – الفرنسية، والتطورات العسكرية بين روسيا الاتحادية وأوكرانيا وموقف لبنان في الجلسة التي عقدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد ظهر أمس في نيويورك وما صدر عنها من قرارات.
الخطة الفرنسية – السعودية
كذلك، أطلعت غريو رئيس الجمهورية على تفاصيل الاتفاق الذي تم بين وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان ونظيره السعودي الأمير فيصل بن فرحان خلال لقائهما قبل أيام في باريس، على تمويل مشاريع إنسانية أولية عدة لمساعدة الشعب اللبناني التي تُعنى خصوصاً بتوفير مساعدة مباشرة لعدد من المستشفيات ومراكز الرعاية الصحية الأولية في لبنان ورفع مستوى الرعاية الصحية الموجهة لمكافحة جائحة “كورونا” وبعض المنشآت التعليمية الأساسية، فضلاً عن المساهمة في تمويل أعمال المنظمات العاملة على توزيع حليب الأطفال والغذاء للفئات الأكثر تضرراً.
صندوق مشترك
وقالت مصادر واسعة الاطلاع لـ”الجمهورية” انّ غريو طرحت على عون بالتفصيل المبالغ التي رصدت في المرحلة الأولى من الخطة السعودية – الفرنسية المشتركة التي تحدثت سابقا عن صندوق مشترك يقدّم العون للبنان. ولفتت الى أن الصندوق المشترك ينطلق من مبلغ كبير نُواته 36 مليون دولار أميركي من السعودية على ان تقرر فرنسا حصتها من المساهمة في المؤسسة في وقت لاحق. وتطرق البحث الى ملف ترسيم الحدود البحرية الجنوبية بعدما أطلعها عون على العناوين الرئيسية في الورقة التي سلمها هوكشتاين الى المسؤولين اللبنانيين أمس الأول، وان البحث جار للوصول الى موقف لبناني موحد بشأن المقترحات الأميركية.
كما جرى استعراض للتحضيرات الجارية لإجراء الانتخابات النيابية في شهر أيار المقبل وقضايا مختلفة تعني البلدين.
صندوق النقد
على صعيد آخر أجرى رئيس الجمهورية تقويما أوليا لنتائج زيارة وفد صندوق النقد الدولي الاخيرة للبنان مع نائب رئيس الحكومة ورئيس لجنة المفاوضات مع الصندوق نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي، الذي أوضح الحاجة الى ورشة عمل حكومية برلمانية لتنفيذ بعض الإصلاحات الضرورية للوصول الى اتفاق مع صندوق النقد، خصوصا ان بعض هذه الإصلاحات يحتاج الى تشريعات من مجلس النواب.
وأشار الشامي الى “انّ العجلة في العمل بين الحكومة ومجلس النواب ضرورية للوصول الى اتفاق قبل الانتخابات النيابية، وان اي تأخير في البَت ببعض القوانين الاساسية يُعيق المفاوضات في المراحل المقبلة مع الصندوق”.
التسوية آتية
في غضون ذلك، بَشّر رئيس تيار”المردة” سليمان فرنجيّة بـ”مرحلة جديدة بعد نهاية عهد رئيس الجمهورية ميشال عون لا نعرف ملامحها بعد”، وقال: “على اللبنانيين التفاؤل ففي استطاعتهم تغيير الواقع أو الاستمرار في النهج ذاته”.
وقال فرنجية في حديث الى برنامج “صار الوقت” للزميل مارسيل غانم على قناة “MTV” انّ عون “لم يسمح لأحد بمساعدته لتحقيق إنجازاته، وعلى كل رئيس أن يفكر، خلال عهده، في ما سيتركه من إرثٍ لوطنه”. وأضاف: “لا يمكن تحميل العهد مسؤولية كل ما يجري بل يعود ذلك إلى السياسات الاقتصادية المعتمدة منذ تسعينات القرن الماضي”. ودعا الى “تحويل الأزمات التي نشهدها فرصة لابتكار حلول ومبادرات لإنقاذ لبنان والمواطنين”. وأكد ان “التسوية آتية لا محالة وعلينا استغلالها للنهوض بلبنان ضمن نظام جديد لإدارة الدولة”. وقال: “نتفهّم الناس الذين انتفضوا في 17 تشرين لأنهم انتفضوا على واقع خاطىء”، داعياً الى “الحفاظ على النظام المصرفي وليس المصارف”.
وقال فرنجية :”المسيحيون باقون هنا لأن لبنان بلد الحريات والتنوع”. وأكد “أن أول خسارة للمسيحيين كانت خلال حرب الإلغاء”. وقال: “أنا عربي ومع الوفاق الوطني ومع العيش المشترك مهما تبدلت الظروف وتغيّرت”. وإذ شدّد على أن “الشعبوية ستحول دون رفع الضرائب قبل الانتخابات ورفع الحد الأدنى للأجور أصبح ضرورة ملحّة”، قال: “لن يكون هناك تغيير استراتيجي في الانتخابات، فالنظام الحالي يمنح الطوائف إمكانية ضرب الميثاقية والرئيس عون انتُخِب بالثلث وليس بالنصف”. واضاف: “إذا كان من سيحصل على أكبر كتلة نيابية سيتبوّأ سدة الرئاسة فلا حاجة لإجراء انتخابات رئاسية”. ورأى ان “رئيس الجمهورية يجب ان يكون معروفاً على الأقل وليس بالضرورة صاحب اكبر كتلة مسيحية في المجلس النيابي”. وقال: “أنا بِعمُل قناعتي مع حلفائي واذا وصلنا الى الانتخابات الرئاسية وكان الظرف ظرفنا مِنشوف بِوَقتها”. واضاف: “اذا كانت الانتخابات الرئاسية ستكون معركة كباش فلن تحصل” (…) أنا لا أشحَد الرئاسة ودوماً كرامتي قبل الرئاسة”.
المطارنة الموارنة
أمّا المطارنة الموارنة فقد أعربوا خلال اجتماعهم الشهري أمس في الصرح البطريركي في بكركي، برئاسة البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، عن “ألمهم وحزنهم لفشل جميع المحاولات السياسية والديبلوماسية من أجل تجنّب الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا”. واعتبروا أنّ “ما تخلِّفه من ضحايا وخراب، دليل على الاستسلام لمنطق النزاع والعنف”.
وقالوا انهم يترقبون “إقرار المجلس النيابي مشروع الموازنة العامة في مدى قريب. ويرجون أن تأتي مناقشة بنوده في المستوى المطلوب في هذا الظرف العصيب، بحيث تؤكِّد على الصالح العام، وتأخذ في الاعتبار واقع البلاد وقدرة اللبنانيين على الاحتمال والاستجابة لموجباتها، ولا ترضخ للزبائنية، التي طالما أفسدت الدور المطلوب من الدولة”. ودعوا إلى “تعزيز الأجواء السياسية والأمنية الكفيلة بإجراء الانتخابات النيابية على قواعد الحرية والديموقراطية”، وحَضّوا المسؤولين على “عدم العودة إلى ربط الطموحات الانتخابية بالإضرار بالمالية العامة وبالتعيينات الإدارية من خلال تعزيز المصالح الخاصة والفئوية على حساب الخير العام”.
أيام صعبة
إقتصادياً، كأنّ اللبناني لا تكفيه المآسي الناتجة من الانهيار المالي والاقتصادي وحال الفقر المدقِع المنتشرة في المجتمع، حتى تُضاف اليها اليوم تداعيات الحرب الروسية ـ الاوكرانية، التي بدأ يتّضح انها ستكون أقسى وأصعب مما ظَنّه المسؤولون الذين لم يتخذوا اجراءات فعلية، واكتفوا ببيانات اعلامية أشبَه برفع العتب. وما هو واضح حتى اليوم ان اللبنانيين سيواجهون التداعيات الآتية:
اولاً – شح في القمح الذي اذا تأمّن ستكون كلفته اكبر من السابق بنسبة لا تقل عن 50 في المئة. وهذا يعني استنزافاً أسرع لما تبقّى من نقدٍ بالدولار في مصرف لبنان المركزي. واذا أضفنا ارتفاع كلفة الرغيف، فهذا يقود الى القلق حيال أزمة خبز قاسية في الاشهر المقبلة.
ثانيا – ارتفاع اسعار الطاقة في العالم، ووصول سعر البرميل امس الى 120 دولارا، واحتمال استمرار ارتفاعه وصولا الى 150 دولارا أو اكثر وفق تقديرات الخبراء، بما يعني ارتفاع كلفة المعيشة بنسبة كبيرة. واذا كان ذلك صعبا على كل اقتصاديات العالم، فإنّ لبنان صاحب الاقتصاد الهَش والمفلس مالياً سيواجه المواطن فيه كارثة من خلال تراجع قدراته الشرائية بنسبة قد لا تقل عن 30 الى 40 في المئة.
ثالثا – سترتفع فاتورة النقليات، وترتفع اسعار كل السلع، وترتفع الكلفة على دعم الكهرباء، وستزيد فاتورة مولدات الكهرباء بحيث سيصبح المعدل الشهري لفاتورة المولد اكثر من مليوني ليرة، ما يعني حرمان السواد الاعظم من اللبنانيين الكهرباء.
رابعا – سيفقد لبنان بعضاً من الاهتمام الدولي به. ومن البديهي انّ صندوق النقد الدولي ستكون لديه اولويات اخرى تتعلق بدعم اقتصاديات كثير من الدول التي ستتأثر بتداعيات الحرب في اوكرانيا. وبالتالي، سيصبح لبنان مهمّشاً الى حد ما على هذا الصعيد.
في النتيجة، تبدو الايام المقبلة اكثر سواداً من المرحلة السابقة، ولا يبدو انّ الفرج الذي كان ينتظره اللبناني من خلال بدء تنفيذ خطةٍ للتعافي وَشيك، وعليه أن يتحضّر لظروف أقسى قد يواجهها، خصوصاً عندما يصبح متعذراً على مصرف لبنان الاستمرار في تنفيذ خطة دعم الليرة التي بدأها في كانون الاول الماضي، ومستمر فيها بكلفة مرتفعة لا يمكن ان تستمر لوقت طويل.