الصورة العسكرية في أوكرانيا بدأت تتضح، فالروس عازمون بكل قواهم على تغيير النظام في أوكرانيا وفرض نظام موال لروسيا أو بالأحرى نظام يؤمن بـ “روسيا العظمى” حيث أوكرانيا جزءٌ لا يتجزأ منها. العمليات العسكرية في يومها الحادي عشر تُظهر أن الهجوم الروسي من ثلاثة محاور رئيسية، شمالًا وشرقًا وجنوبًا، ويهدف إلى إحتلال الجزء الشرقي من أوكرانيا بما فيه العاصمة كييف والساحل المُطلّ على البحر الأسود.
مصير أوكرانيا
يقول الكولونيل دوغ ماكريغر كبير المستشارين لوزير الدفاع الأميركي سابقًا في مقابلة مع فوكس نيوز، أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لن يقبل وجود القوات الأميركية أو صواريخها على حدود روسيا، وبالتالي لن يقبل أبدًا دخول أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي. ويقول ماكريغر أن المعركة في شرق أوكرانيا تُقارب على نهايتها حيث ان 30 ألف مقاتل أوكراني محاصرون في الجنوب الشرقي من أوكرانيا وإذا لم يستسلموا خلال الـ 24 ساعة المقبلة، فإن القوات الروسية ستقضي عليهم، وهو ما يبرّر بحسب ماكريغر قبول الرئيس الأوكراني بإجراء محادثات مع الروس. ويضيف أنه سيتمّ تقسيم أوكرانيا إلى قسمين شرقي وغربي وسيطالب بوتين بأن يكون القسم الغربي محايدًا. والأخطر في كلام ماكريغر أن روسيا تخطّط لإنشاء جمهورية جديدة لأنها تاريخيًا هي جزء من روسيا، أما القسم الغربي فهو تاريخيًا ليس أرضًا روسية وبوتين يعلم ذلك وهو موافق على أن يكون الجزء الغربي دولة محايدة!
وبسؤاله عن وجود رغبة لدى بوتين بالذهاب غربًا إلى الحدود البولندية، يقول ماكريغر أن لا رغبة لدى بوتين بعبور الحدود البولندية وهو ليس مهتمًا بخوض حرب ضد الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا بحكم أن قدرته العسكرية لا توازي قدرات حلف شمال الأطلسي واقتصاد روسيا يأتي في المرتبة 11 عالميًا بعد كوريا الجنوبية، وبالتالي فإن الغرب ينسب إلى بوتين أشياءَ لا يتطلّع إليها. ونصح ماكريغر المسؤولين الأميركيين والأوربيين بالبقاء بعيدين عن هذا الصراع ووقف شحن الأسلحة إلى أوكرانيا وعدم تشجيع الأوكرانيين على الموت في صراع غير مجدٍ، وختم بالقول أن الغرب تجاهل تحذيرات روسيا بخصوص هذا الموضوع منذ سنوات. الجدير ذكره أن ماكريغر كان قد دعا في عام 2014 في مقابلة على شبكة روسيا اليوم إلى ضمّ إقليم دونباس وقال إن سكان هذه المنطقة هم في الواقع روس وليس أوكرانيين.
مواقف ماكريغر – اليميني والعنصري كما وصفته صحيفة الواشنطن بوست – إن دلّت على شيء فعلى وجود وجهتي نظر داخل المعسكر الغربي، وبالتحديد الولايات المتحدة الأميركية. والظاهر من موقف الإدارة الأميركية الحالية (والأوروبية أيضًا) هو رفضها التام للاجتياح الروسي لأوكرانيا كما يُظهره الدعم العسكري والمالي الكبير الذي تُقدّمه لأوكرانيا. إلا أن الحديث عن تأمين رئيس بديل للرئيس الأوكراني في حال تمّ إغتياله وحكومة جديدة للمرحلة المقبلة، وتصريح الرئيس الفرنسي عن أن الحرب ستدوم لفترة طويلة، يوحي بأن الغرب يستعد لفكرة ما طرحه ماكريغر – عنيت بذلك تقسيم أوكرانيا إلى دولتين – وهذا الأمر ما دونه تداعيات على عدّة أصعدة.
التداعيات السياسية
عمليا قبول العالم هذا السيناريو يعني فتح الباب أمام العديد من الدول لحذو الطريق الروسي في معالجة مشاكلها،على مثال الصين التي ترغب بكل قواها باسترجاع جزيرة تايوان إلى حضنها، كما صرّح بذلك الرئيس الصيني”شي جينبينغ” في العام 2019 حين قال ان بلاده لن تتخلى عن خيار استخدام القوة العسكرية لإعادة بسط سيادتها على جزيرة تايوان حيث يوجد فيها نظام حكم مناهض للصين. وللتأكيد على جدية الرغبة الصينية، تقوم بكين بخرق متواصل للأجواء التايوانية كما فعلت في كانون الأول 2021، وحديثًا بعد بدء الحرب بين روسيا وأوكرانيا. الجدير ذكره أن مثال الصين ليس وحيدًا، فهناك العديد من النزاعات حول العالم من هذا النوع، وهو ما يفرض تحديا كبيرا أمام الأمم المتحدة لإيجاد آليات تعامل مع هذه الحالات.
على صعيد أخر، الإنحياز في الحرب الروسية – الأوكرانية إلى فريق أو آخر له تداعيات عديدة، فروسيا تُعدّ لائحة بالدول التي قامت بأخذ موقف ضدّها في هذه الحرب بهدف أخذ إجراءات آنية أو لاحقة. في هذا الإطار من المتوقّع أن تشهد العلاقات بين لبنان وروسيا ترديا واضحا في المرحلة المقبلة على خلفية إدانة وزارة الخارجية الإجتياح الروسي لأوكرانيا وتصويت لبنان مع مشروع قرار أممي يطالب روسيا بوقف القتال والانسحاب من روسيا. وما رفض روسيا إاستقبال موفد رئيس الجمهورية إلا بداية لهذا المسار الذي من المتوقّع أن يسوء أكثر مع ما لروسيا من ثقل في لبنان من البوابة السورية. في المقابل، بدأ الغرب باستخدام أدواته الاقتصادية للتضييق على بعض الدول الأخرى التي تعاطفت أو تقف مع روسيا، كما فعل مع الإمارات العربية المتحدة عبر إدراجها على قائمة المراقبة “الرمادية” لغسيل الأموال من قبل منظمة مراقبة الجرائم المالية (FATF). كل هذا يُرجّح عودة الاصطفاف العالمي للدول بين محوري الشرق والغرب وهو ما يعني إعادة ترتيب جدّي للعلاقات الثنائية بين الدول في المرحلة المقبلة.
التداعيات الاقتصادية
لطالما شكّلت الصراعات العسكرية عاملاً رئيسياً لانعدام الأمن الغذائي. من هذا المنطلق، التداعيات الكبرى للصراع الروسي-الأوكراني تبقى على الصعيد الإقتصادي حيث من المتوقّع أن يتأثر الإقتصاد العالمي بأكمله نتيجة هذه الأزمة. هذه التداعيات تنتقل من خلال ثلاث قنوات رئيسية:
أولًا – الإنكشاف التجاري المباشر، بحكم أن الصراع المسلّح والعقوبات يضرب سوق التصدير (نتيجة الصراع العسكري) والإستيراد (نتيجة التأثير في سلاسل التوريد أو العقوبات) وهو ما قد يؤدّي إلى حدوث إختناقات في نقص العرض والإنتاج (عادة ما تُقاس نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي الإسمي).
ثانيًا – الإعتماد الصافي على الطاقة في الماكينة الإقتصادية، حيث أنه كلما زادت نسبة الإعتماد على إستيراد النفط إرتفعت الفاتورة، وهو ما يُشكّل كارثة على النمو الإقتصادي نظرًا إلى التضخّم الضمّني الذي يخلقه إرتفاع أسعار النفط. هذا الأمر لا يصحّ بالطبع للإقتصادات التي تُصدّر الطاقة حيث ان ارتفاع أسعار النفط يشكّل صدمة إيجابية لهذه الإقتصادات.
ثالثًا – وزن الطاقة والغذاء في مؤشر الأسعار على الإستهلاك: فارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية يؤدّي حكمًا إلى تآكل القدرة الشرائية للمستهلك. وهنا يجدر الذكر أن كِلا طرفيْ الصراع (روسيا وأوكرانيا) يحتلان مرتبة عالية في لائحة الدول المصدرة للحبوب والنفط.
وقبل الحديث عن تفاصيل هذه التداعيات، ينبغي التذكير أن الحقول الأوكرانية الرئيسية التي يتمّ إنتاج المحاصيل منها موجودة في مناطق الصراع حاليًا على الحدود مع روسيا وبيلاروسيا. أضف إلى ذلك أن موانئ “كييف” تمّ إغلاقها بالكامل وهناك حظر لمرور السفن التجارية في بحر آزوف (شرق شبه جزيرة القرم) والمُتصل بالبحر الأسود. ويعد البحر الأسود من أهم مناطق العالم للتجارة وبالتحديد للصادرات الزراعية والحبوب حيث يمرّ عبره 12% من إجمالي تجارة الحبوب العالمية باتجاه دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا المجاورة. وتأتي أوكرانيا في المركز الأول مع تصدير أكثر من 95% من إنتاجها الزراعي. وبالتالي، فإن الحصار المفروض على البحر الأسود سيحدّ من تصدير المنتجات الزراعية لبلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وهو ما سيؤدّي حكمًا إلى أزمة غذاء في هذه الدول.
تُعد روسيا وأوكرانيا من بين أكبر 5 دول عالميًا في تصدير القمح ودوار الشمس والذرة والبذور الزيتية والزيوت. وتُشكّل أوكرانيا وحدها ما يُقارب الـ 16% (أكثر من 40 مليون طنّ) من صادرات الذرة عالميًا و12% من صادرات القمح عالميًا. وهو ما يعني أن بلدانًا (الترتيب بحسب حجم الإستيراد) مثل الصين، هولندا، مصر، إسبانيا، تركيا، إيران، كوريا، إسرائيل، الجزائر، البرتغال، إيطاليا، بريطانيا، تونس، بلجيكا، ليبيا، إيرلندا، ألمانيا، لبنان، المغرب، ستتأثر بشكلٍ كبير.
أيضًا تُلبّي أوكرانيا وروسيا أكثر من 50% من إستهلاك الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من زيت عباد الشمس. وبالتالي فإن العراق، ومصر، والإمارات، والمملكة العربية السعودية، وتركيا، ولبنان، والسودان ستتعرّض لنقص كبير في أسواقها، كما ودولًا بعيدة كالصين، وهولندا، وإسبانيا، ، وإيطاليا، وفرنسا، وبولندا، وبريطانيا، وماليزيا، والولايات المُتحدة الأميركية…
أمّا على صعيد القمح، فالتأثير في كلٍ من مصر، وإندونيسيا، وبنغلادش، وباكستان، وتركيا، والمغرب، واليمن، ولبنان، والفليبين، وليبيا، وتايلندا، وماليزيا، وإسبانيا، وكوريا… سيكون له تداعيات كبيرة ومؤذية لشعوب هذه البلدان.
عمليًا الدول الفقيرة هي المُتضرّر الأول من تداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية، فعلى صعيد الشرق الأوسط تأتي اليمن، ولبنان، وليبيا، وتونس، ومصر، والأردن، وسوريا… على رأس الدول الأكثر تضررًا. ويستورد لبنان 50% من قمحه من أوكرانيا (و12% من روسيا)، وليبيا تستورد 43% من إستهلاكها من أوكرانيا، واليمن يستورد 22% من أوكرانيا، ومصر أكثر من 86% من روسيا وأوكرانيا، وتركيا أكثر من 75% من إستهلاكها.
أما على الصعيد الأسيوي، فإن الدول الأكثر تأثرًا بحسب وزن الطاقة والمواد الغذائية في مؤشر الأسعار، هي: تايلندا، والهند، والفيليبين، وفيتنام، وماليزيا، وإندونيسيا، واليابان، وتايوان، وسنغافورا، والصين، وأستراليا، وكوريا الجنوبية.
ولكن الأخطر في كل ما ذكر هو على صعيد الأسمدة النيتروجينية مثل الأمونيا واليوريا حيث أن روسيا وبيلاروسيا تستحوذان على أكثر من 32% من سوق الأسمدة العالمي، وبالتالي فإن العقوبات والإجراءات الإنتقامية ستحد من توريد هذه الأسمدة، مما يعني انخفاض المحاصيل وارتفاع أسعار الحبوب.
أيضًا من بين التداعيات المُتوقّعة لهذه الأزمة الهروب المُمنهج لرؤوس الأموال من الإقتصادات المتوسطة والفقيرة والتي تجد ملاذًا لها في الذهب والمعادن الثمينة على حساب أسواق الأسهم والإستثمارات المباشرة في هذه البلدان. وهو ما يقترح رفع الفائدة في العديد من هذه الدول، وبالتالي تراجع النمو الإقتصادي إذا ما وُجد.
كل هذه التعقيدات تقترح إعادة النظر في نظام التعامل (ببعديه التجاري والإستثماري) بين الدول مع ما لهذا من تداعيات على الإستيراد والتصدير، ولكن أيضًا على وسائل الدفع وحركة رؤوس الأموال.
لبنان والتداعيات المضاعفة
يستورد لبنان من أوكرانيا من الحبوب ما قيمته 184 مليون دولار أميركي (أرقام 2020) منها قمح بقيمة 133 مليون دولار وذرة بقيمة 47 مليون دولار، وشعير بقيمة 4.5 مليون دولار، وبذور عباد الشمس بقيمة 43 مليون دولار، و زيت فول الصويا بقيمة 1.8 مليون دولار. أيضًا استورد لبنان شحوما وزيوتا حيوانية أو نباتية بقيمة 4.7 مليون دولار، وبذورا زيتية وفواكه زيتية بقيمة 3.2 مليون دولار، وحيوانات حيّة بقيمة 8.5 مليون دولار، وسكريات ومصنوعات سكرية بقيمة 3.4 مليون دولار، وحديدا وصلبا بقيمة 3.7 مليون دولار أميركي.
الوقت الذي يفصلنا عن بدء الأزمة غير طويل، وبالتالي فإن المخزون لا يزال على مستوياته ما قبل الأزمة. إلا أنه ومع بدء الأزمة أخذ التجّار برفع أسعارهم بشكل غير مسبوق حتى أن بعض الفيديوهات التي تناولتها مواقع التواصل الإجتماعي، أظهرت العمال يسحبون الزيوت من على الرفوف في إحدى السوبرماركات، وتوقفّت محطات الوقود عن تسليم المحروقات بحجّة عدم صدور جدول أسعار جديد على الرغم من وجود المحروقات فيها! بالمختصر إنها فوضى عارمة ناتجة من غياب الرقابة، والأصعب حين يبدأ المخزون بالإنخفاض ولا بديل عن السوق الأوكراني والروسي، فإن الأسعار سترتفع إلى مستويات جنونية.
قانون التنافسية الذي تمّ إقراره حديثًا في المجلس النيابي لن يدخل حيز التنفيذ قبل تعيين الهيئة الناظمة وبالتالي، فإن الساحة خالية لبعض التجار الذين يتمتّعون بحمايات من قبل أصحاب النفوذ لحصد كل ما يستطيعون حصده من جيوب المواطنين. وتبقى الوعود التي تطلقها الحكومة من دون أي جدوى على الرغم من المداهمات التي تقوم بها وزارة الإقتصاد من حين إلى أخر حيث المطلوب إستراتيجية واضحة وسريعة لمكافحة الإحتكار والتلاعب بالأسعار في هذا الوقت الإستثنائي من حياة لبنان. وبغياب هذه الإستراتيجية، يبقى المواطن وحيدا في مواجهة عصابات تتحكّم بالسوق كما يحلو لها!
الرئيسية / صحف ومقالات / الديار : الأزمة الأوكرانية تضرب النظام الاقتصادي العالمي البلدان المتضرّرة عديدة ولبنان على رأسها الاحتكار والأسعار في ازدياد والرقابة عاجزة