دخلت أوكرانيا نفقاً مظلماً قد لا تخرج منه في المدى المنظور، وسيترك ندوباً عميقة في الجسم المجتمعي الأوكراني لأجيال وأجيال. نفق مليء بدماء الأبرياء ودموع الأمهات الثكالى، يروي كلّ يوم مئة قصّة وقصّة حول المآسي الإنسانية التي تعصف بشعب قرّر المقاومة في وجه احتلال لا يعرف رأفة ولا رحمة… من قصّة رضيع لفظ أنفاسه الأخيرة في أحضان والديه جرّاء شظايا القذائف الروسية، مروراً بقصّة مدنيين عالقين تحت أنقاض مساكنهم التي هدّمتها صواريخ “القيصر” فلاديمير بوتين الباليستيّة، وصولاً إلى قصّة عائلة تتشتّت على الحدود الأوكرانية – البولندية، فتُغادر الزوجة والأولاد نحو بلاد الغربة ليعود الوالد للقتال والدفاع عن أرض الأجداد. وكان آخر القصص المأسوية بالأمس مقتل 13 شخصاً في قصف طاول مخبزاً صناعيّاً في ماكاريف على بُعد 50 كلم غرب كييف، وفق ما أفادت أجهزة الإسعاف الأوكرانية التي أنقذت 5 أشخاص كانوا عالقين تحت أنقاض المصنع الذي كان متوقفاً عن العمل.
ووسط جحيم القتال العنيف وشتاء “الحديد والنار” الذي تُمطره الآلة العسكرية الروسية فوق رؤوس الأوكرانيين في مدنهم وقراهم، كشف الوفد المفاوض الأوكراني “تحقيق بعض النتائج الإيجابية في شأن لوجستية الممرّات الإنسانية”، بينما رأى الروس أنها لم تكن “بمستوى التطلّعات” آملين في التمكّن من تحقيق تقدّم أكبر في المرّة المقبلة، ما يضع تفعيل “الممرّات الإنسانية” تحت رحمة “النيران الروسيّة”، وذلك في ختام الجولة الثالثة من المفاوضات الروسية – الأوكرانية مساء أمس، في وقت تحدّثت فيه اللجنة الدولية للصليب الأحمر عن أن عملية إجلاء المدنيين من مدينة ماريوبول المحاصرة في جنوب شرق أوكرانيا فشلت بسبب الأعمال العسكرية وعدم وجود إتفاق دقيق حول طريق آمن، إذ فشلت في الأيام الأخيرة محاولتان لإجلاء مدنيين من ماريوبول، حيث القصف الروسي عنيف جدّاً.
وفي اليوم الثاني عشر من الغزو الروسي لأوكرانيا، أعلنت موسكو “وقف إطلاق نار” في أماكن محدّدة وفتح ممرّات إنسانية للسماح بإجلاء مدنيين من مدن أوكرانية عدّة، من بينها العاصمة كييف المطوّقة من القوات الروسية، وخاركوف، ثاني أكبر المدن الأوكرانية إلى الشمال الشرقي، والتي تتعرّض لقصف شديد لكسر عزيمة المدافعين عنها عن المقاومة. غير أن نصف الممرّات المقترحة تُربط بروسيا وبيلاروسيا، التي استخدمتها القوات الروسية للعبور إلى أوكرانيا عند شنّ هجومها في 24 شباط، ما دفع الحكومة الأوكرانية فوراً إلى رفض هذا الاقتراح، في حين دان الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون “استهزاء” بوتين بالمبادئ “السياسية والأخلاقية” باقتراحه إقامة ممرّات إنسانية لسكان مدن أوكرانية عدّة “لنقلهم إلى روسيا”، واصفاً الأمر بـ”الخطاب المنافق“.
واستبعد الرئيس الفرنسي إمكان التوصّل إلى “حلّ حقيقي” للنزاع عبر مفاوضات بين موسكو وكييف في الأيام أو الأسابيع المقبلة، مرجّحاً استمرار الحرب، ومؤكداً أن البلدان الأوروبّية لن تنخرط بشكل مباشر في النزاع لأنّ “الحرب مع روسيا ستكون حرباً عالمية مع قوة تمتلك السلاح النووي”. كما أقرّ بأن “النقاش صعب مع بوتين لأنّه يرفض وقف إطلاق النار”، مشدّداً على أن هذا الأمر هو “شرط مسبق لأي حوار حقيقي” بين موسكو وكييف. وفي تأكيد على أن الحرب ما زالت في بداياتها، نقلت صحيفة “وول ستريت جورنال” عن مسؤولين أميركيين أن روسيا تُجنّد مرتزقة سوريين من ذوي الخبرة في حرب العصابات بالمدن، للقتال في أوكرانيا، حيث تواجه القوّات الروسيّة مشكلات عدّة، معنويّة ولوجستيّة.
وبينما تدور معارك ضارية حول كييف، قُتِلَ رئيس بلدية غوستوميل حيث تقع قاعدة عسكرية في شمال غرب العاصمة، على يد الجيش الروسي، بحسب ما أفاد مجلس البلدية. وكتبت مدينة غوستوميل في بيان عبر صفحتها الرسمية على “فيسبوك”: “توفي رئيس البلدية يوري إيليتش بريليبكو أثناء توزيع الخبز والأدوية على المرضى ومؤاساة الجرحى”، فيما كشف المتحدّث باسم الكرملين دميتري بيسكوف أن روسيا أبلغت أوكرانيا بأنها ستُنهي عمليتها العسكرية “في لحظة” إذا قبلت كييف بشروط موسكو، التي تعني استسلام أوكرانيا، في حين حذّرت نائبة وزير الخارجية الأميركي ويندي شيرمان من أن دعم أوكرانيا بالأسلحة التي نجحت الدول الغربية في تسليمها لها حتى الآن، قد يُصبح أكثر تعقيداً في الأيام المقبلة و”سيتعيّن علينا إيجاد طرق أخرى“.
توازياً، إلتقى وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن نظيره الإسرائيلي يائير لابيد في عاصمة لاتفيا ريغا، لمناقشة الغزو الروسي لأوكرانيا ومفاوضات إحياء الإتفاق النووي الإيراني. وفي بداية الاجتماع الذي جرى داخل فندق في ريغا، قال لابيد: “لوقف الحرب يجب التفاوض”، مشيراً إلى أن “إسرائيل تجري محادثات مع الجانبَيْن، مع كلّ من روسيا وأوكرانيا، ونعمل بتنسيق كامل مع أكبر حلفائنا الولايات المتحدة، ومع شركائنا الأوروبّيين”، فيما شكر بلينكن لإسرائيل جهودها لإيجاد مخرج من الحرب.
وعلى خطّ العقوبات والضغوط الغربية ضدّ موسكو، أكد الرئيس الأميركي جو بايدن وماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتز ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون “عزمهم على مواصلة زيادة الكلفة” التي تتكبّدها روسيا ردّاً على اجتياحها أوكرانيا، وفق بيان أصدره البيت الأبيض بعد مؤتمر عبر الفيديو عقده القادة الأربعة، في وقت بدا فيه أن الجبهة الموحّدة للغربيين على صعيد العقوبات الاقتصادية تشهد تصدّعاً، ولو موَقتاً، بسبب قضية فرض حظر على واردات الغاز والنفط من روسيا، الأمر الذي ترفضه ألمانيا، خصوصاً كونها تُعوّل بشكل كبير على إمدادات الغاز الروسي حتّى اللحظة.
وفي السياق، أوضح البيت الأبيض أن بايدن “لم يتّخذ قراراً حتّى الآن” في شأن احتمال فرض حظر على الغاز والنفط الروسيَّيْن، بينما حذّرت موسكو من “عواقب كارثية” على سوق النفط العالمية في حال فرض حظر على صادراتها النفطية، معتبرةً أنه “لن يكون من الممكن التكهّن بارتفاع الأسعار التي قد تصل إلى أكثر من 300 دولار للبرميل، بل ربّما أكثر”، في حين ذكرت كوريا الجنوبية أنها ستُعلّق كلّ التعاملات المالية مع المصرف المركزي الروسي. كما كشف رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو عن عقوبات جديدة بحق 10 روس قال إنهم “متواطئون” في الغزو “غير المبرّر” لأوكرانيا، بينما وضعت السلطات الروسية لائحة بـ”دول معادية” ستُمكّن الشركات والأفراد الروس من تسديد مستحقاتهم لها بالروبل الذي فَقَد 45 في المئة من قيمته في الآونة الأخيرة.