إختلط أمس السياسي بالمالي والقضائي والمصرفي على وَقع الاستعدادات الجارية لإنجاز الاستحقاق النيابي منتصف ايار المقبل، والذي تتجاذبه التكهنات والمخاوف من إمكان تأجيله خصوصاً بعدما بدأ الخطاب السياسي لبعض القوى السياسية المنخرطة فيه يَعنف وينطوي على تحريض متبادل يمكن ان ينعكس على الشارع ويهدد بحصول اضطرابات قد يشجّع عليها ايضا استمرار الانهيار الاقتصادي والمالي والمعيشي المتفاقم. وينتظر ان يعود ملف ترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل من خلال اجتماع رئاسي سيُعقد اليوم في القصر الجمهوري ويضم رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي، وهو مخصّص لبحث التقرير الذي رفعته اللجنة التي تولّت دراسة اقتراح الوسيط الأميركي هوكشتاين في شأن الترسيم. وفي معلومات لـ«الجمهورية» انّ اللجنة أعدّت مسودة جواب على اقتراح الوسيط الاميركي تناولَ الجوانب التقنية والفنية والقانونية كافة، وسيطلع عليه الرؤساء الثلاثة للبَت فيه.
وعلمت «الجمهورية» انّ هذا الاجتماع الرئاسي يمكن ان لا يتم التوصّل خلاله الى قرار نهائي وان يبقى مفتوحا لمزيد من الدرس قبل إعطاء الموقف النهائي اللبناني الرسمي، علماً انه لا يزال هناك متّسع من الوقت حتى نهاية آذار الجاري موعد تسليم هذا الرد الى الوسيط الاميركي.
وفي سياق متصل أبلغت مصادر واسعة الاطلاع الى «الجمهورية» ان لبنان يواجه محكاً مفصلياً، محذّرة من أنه إذا لم يتم التوصّل الى حلول مستدامة عبر الاتفاق مع المؤسسات الدولية وصندوق النقد الدولي لبدء المعالجات الحقيقية للازمة الاقتصادية المالية فإنّ لبنان سيخسر الاهتمام الدولي به وبالتالي سيُصرف الانتباه عنه.
ونقلت المصادر عن مسؤول رسمي تَنبيهه الى انّ إضاعة هذه الفرصة تعني انه قد لا يكون في مقدور لبنان العام المقبل شراء علبة كبريت، خصوصا مع استمرار استنزاف ما تبقى من دولارات لدى مصرف لبنان. واعتبرت المصادر ان توقيف رجا سلامة، شقيق حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، يتحمّل تفسيرين، فإمّا انه توطئة للوصول إلى رأس الحاكم قريباً وامّا انه آخر المطاف، بمعنى ان يجري الاكتفاء بها ويُطوى معها ملف رياض سلامة حتى إشعار آخر.
«رواد العدالة»
وكانت النائبة العامة الاستئنافية في جبل لبنان القاضية غادة عون قد أصدرت امس قرارا قضى بتوقيف رجا سلامة شقيق حاكم مصرف لبنان، بعد الاستماع اليه والتحقيق معه لثلاث ساعات في حضور وكيله القانوني، وذلك على خلفية إخبار تقدمت به الدائرة القانونية لمجموعة «رواد العدالة» ممثلة بالمحامي هيثم عزو ومجموعة من المحامين بجرم تبييض اموال وإثراء غير مشروع على حساب خزينة مصرف لبنان.
وأحالت عون رجا سلامة إلى قاضي التحقيق، وفق مصدر قضائي، للتحقيق «في شبهات تتعلق بجرائم تبييض أموال واختلاس وإثراء غير مشروع وتهريب أموال طائلة إلى الخارج»، وهي الشبهات نفسها التي تلاحق فيها عون حاكم مصرف لبنان المركزي.
ويعود إلى قاضي التحقيق أن يقرر الإبقاء على رجا سلامة موقوفاً أو التحقيق معه بعد إخلاء سبيله.
ونقلت قناة «الجديد» عن عون قولها انّ حاكم مصرف لبنان «استخدم اسم أخيه وشركاتٍ وهمية كان قد أنشأها رجا بإسمه لتسجيل عقارات في فرنسا، قاربت قيمتها 12 مليون دولار».
ورداً على سؤال عن استدعاء رياض سلامة قالت عون: «سَبق واستدعيناه «وشِفتو شو صار»، سنعاود الإتصال به، وإذا لم يحضر «مِنشوف شو منعمل، بركي إجا هالمرّة».
الدولة تتفرّج
من جهة ثانية قالت مصادر متابعة للمواجهة القائمة حالياً بين المصارف وجزء من القضاء لـ«الجمهورية» انه لا يمكن وصف هذه المواجهة سوى بالفوضى، والفوضى هي العدو الاول للاقتصاد، تضربه في مقتل. اذ تتوالى الاحكام القضائية في حق مصارف، في غياب قانون ينظّم الفوضى التي نشأت في الاساس منذ لحظة اعلان الدولة اللبنانية التوقّف عن الدفع (الافلاس)، ولم تستتبع ذلك بإجراءات توضح فيها مصير اموال الناس، ومصير القطاع المصرفي، ومصير مصرف لبنان… ولا يزال قانون «الكابيتال كونترول» مجرد سراب، وغياب القانون حتى الآن يسمح بهذه الفوضى التي لم يعد واضحاً الهدف منها، ولا الى اين يمكن ان تصل.
وفي السياق، حذّر رئيس منظمة «جوستيسيا للإنماء وحقوق الإنسان» بول مرقص، عبر «الجمهورية»، من تداعيات القرارات القضائية المتفرقة في حق المصارف، «وان كنّا مع حماية حقوق المودعين وتحصيلها الا اننا نخشى من ان تأتي هذه القرارات القضائية، والتي وان كانت خلفية البعض منها حميدة وتهدف الى الانتصار لحقوق المودعين، مُؤذية لهم وان ترتد سلباً عليهم ان لم يكن الشخص المعني بالقرار كسائر فئات المودعين، اذ يمكن ان يكون القضاء انتصر لِحقّ مودِعٍ معين انما قد يتخذ المصرف المعني قراراً بالتزام القرار القضائي وان لا يسهل الامور امام المودعين بحيث يُبقي على الحجز القائم ويمتنع عن التعاملات المصرفية وصولاً للاضراب في القطاع المصرفي ككل، فضلاً عمّا تبقّى من مخاطر السمعة وتداعياتها على تعاملات المصارف المراسلة مع المصارف اللبنانية التي ستحاذر اكثر في تعاملاتها معنا».
مخطط مَشبوه
الى ذلك، بدأت تنتشر اجواء مقلقة في البلد توحي بوجود مخطط مَشبوه في ملف المواجهات المفتعلة بين بعض القضاء والمصارف. وتُطرح تساؤلات حول التوقيت المريب الذي تفجرت فيه هذه المواجهة. وفي السياق هناك قراءتان في تفسير التوقيت كلتاهما تؤدّي الى «خراب البصرة»: القراءة الاولى، تتحدث عن اهداف انتخابية اذ يعتقد فريق في المنظومة الحاكمة انّ هذا النهج في تفجير الوضع في وجه المصارف، يخدم في جذب اصوات اضافية في الانتخابات النيابية. في حين ان القراءة الثانية تتحدث عن مخطط يهدف الى دفع المصارف الى الاضراب، ومن ثم نشر الفوضى في الشارع على خلفية عرقلة مصالح الناس وعدم تَمكّنهم من تحصيل حقوقهم المالية (رواتب وودائع وخلافه…)، وينتهي الامر الى فوضى شاملة واضطرابات تسمح بتبرير تأجيل موعد الانتخابات.
في كل الاحوال، يبدو الوضع مريباً ويدعو الى القلق، وقد يقود الى تعميق مآسي الناس في المرحلة المقبلة.
صندوق النقد
في غضون ذلك، يزور وفد من خبراء صندوق النقد الدولي بيروت قبل نهاية الشهر لاستكمال المحادثات مع السلطات اللبنانية، وفق ما كشفه امس المتحدث باسم صندوق النقد جيري رايس، وقال: «ما زلنا على تواصل وثيق مع السلطات اللبنانية، ونحاول العمل معها لصياغة برنامج إصلاح يمكن أن يتصدى للتحديات المالية والاقتصادية الشديدة التي يواجهها لبنان».
أضاف: «أود أن أقول إنّ المناقشات تتقدم بشكل جيد، لكن هناك حاجة إلى عمل مكثّف في الفترة المقبلة. تحديات لبنان عميقة ومعقدة وستتطلب وقتاً والتزاماً»، من دون أن يُدلي بمزيد من التفاصيل.
مشاورات مغلقة
من جهة ثانية، عقد أمس مجلس الأمن الدولي مشاورات مغلقة في شأن تقرير الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش حول تنفيذ القرار 1701 والوضع في لبنان. واستمع المجلس إلى إيجاز مِن المنسّقة الخاصة للأمم المتحدة في لبنان السيدة يوانا فرونِتسكا ووكيل الأمين العام لعمليات حفظ السلام السيد جان بيار لاكروا.
وقدّمت فرونِتسكا إحاطة عن الاستعدادات الجارية للانتخابات النيابية، مؤكّدةً «الحاجة إلى الموثوقية والقدرة على التنبؤ، لا سيما في ما يتعلق بوضع اللمسات الأخيرة على موازنة الانتخابات والإطار التشريعي وفعالية هيئة الإشراف على الانتخابات». وقالت: «إنّ الناخبين اللبنانيّين يحتاجون ويستحقون اليقين والقدرة على إسماع أصواتهم»، آملةً خصوصاً «في أن تشارك النساء بفاعليّة في الانتخابات كناخبات ومرشحات». وأشارت بقلق إلى استمرار التدهور الاجتماعي والاقتصادي ومعاناة الشعب اللبناني وتآكل القطاع العام، وشددت على «الضرورة الملحّة لتنفيذ إصلاحات ملموسة». كذلك شدّدت على أهمية وجود «رؤية اقتصاديّة وماليّة عادلة وذات صدقيّة، وإدارة ماليّة سليمة، وإصلاحات ملموسة لقطاع الكهرباء، واتفاقيّة مع صندوق النقد الدولي، وسلطة قضائيّة مستقلة، فضلاً عن الحَوكمة الرشيدة وتدابير لمكافحة الفساد».
وحَضّت فرونتسكا على التقيّد الكامل بقرار مجلس الأمن 1701 في كل أحكامه، مؤكدةً «هشاشة الهدوء النسبي بين لبنان وإسرائيل». وشجّعت الدول الأعضاء في المجلس على مواصلة تقديم دعمها للجيش اللبناني ولكافّة مؤسّسات أمن الدولة، مشيرةً خصوصاً إلى تأثير الأزمة وإلى الدور الذي تلعبه هذه المؤسسات في توفير الأمن والاستقرار خلال الفترة الانتخابيّة المقبلة. وكرّرت دعوات الأمم المتحدة الى «إجراء تحقيق محايد وشامل وشفّاف في انفجار مرفأ بيروت للوصول إلى الحقيقة ولتحقيق العدالة للضحايا».