للمرة الأولى منذ توقف المصارف اللبنانية عن العمل في مطالع انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 لفترة انقطاع ساهمت آنذاك في تضخم حجم الانهيار المالي حين كان في بداياته، ومن بعدها لاحقا مع مطالع تفشي جائحة كورونا، اتخذت حملة الضغوط القضائية التي ترقى الى مستوى حصار جدي وحقيقي متدحرج حيال العديد من المصارف ابعاداً وانعكاسات غير مسبوقة تنذر بمزيد من المفاجأت الكبيرة التي لا تتصل فقط بواقع المواجهة القضائية – المصرفية بل تتجاوزها الى اهداف سياسية خطيرة. اذ ان الإجراءات القضائية التي توالت فصولا امس عقب الحجز على مصرف “فرنسبنك” وشلّه تماماً، لم تقف غداة هذا التطورعند حدود إلحاق مصرف آخر به هو “الاعتماد المصرفي” فحسب، بل ان التطور الاخر الذي حبس الانفاس و”جمح” بدلالات المواجهة الى الابعد تمثل في توجيه الضربة الأقسى حتى الان الى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة نفسه من خلال اقدام النائب العام الاستئنافي في جبل لبنان القاضية غادة عون على توقيف رجا سلامة شقيق الحاكم وإشاعة معلومات عن اتجاهها الى ملاحقة الحاكم حتى توقيفه.
والواقع ان هذا التطور اطلق العنان لسيناريوات الاحتمالات التصعيدية وابعاد “الهجمة” القضائية التي تتولاها جهات محسوبة مباشرة على العهد بحيث لم يعد ممكنا حصر هذه المواجهة وما يمكن ان تفضي اليه من تداعيات واسعة النطاق في الاطار المالي والمصرفي فقط، بل تجاوزت خط القضاء والمصارف الى الصراع الكبير داخل السلطة حول موقع وشخص حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. وذهبت أوساط مواكبة لهذه التطورات ذات الطابع الاستثنائي الى الحديث عن “انقلاب” يجري تصعيد إجراءاته من منطلقات بالغة الخطورة سياسيا ولا ترقى الى الأصول الحذرة والمدروسة واللازمة لدى التعامل مع القطاع المصرفي حتى لو كانت مساءلة هذا القطاع من أولويات الإصلاح كما من ضرورات توفير الحقوق للمودعين من دون تشكيل اخطار جديدة وإضافية عليها. وحذرت هذه الأوساط من شبهة يتعالى الكلام عنها في كواليس الداخل السياسي، كما في كواليس البعثات الديبلوماسية، من ان ما يجري يعكس هدفين أساسيين يدفع نحوهما من يقبض على زمام تسخير الجهات القضائية التي تتولى هذه الحملة. الهدف الأول هو تصعيد الهجمة على حاكم مصرف لبنان من خلال الضغط على مجمل القطاع المصرفي لحمله على التسليم بإقالة سلامة واستبداله بشخصية محسوبة على العهد . والهدف الثاني توسل الإجراءات القضائية ضد المصارف في لعبة تجيير الشعبوية لحسابات انتخابية معروفة وربما تبلغ هذه الحسابات حدود التسبب باضطرابات اجتماعية واسعة تطيح الانتخابات وترحلها الى موعد اخر.
وفي غضون ذلك أوقفت القاضية غادة عون رجا سلامة شقيق حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. وقال محامو مجموعة “الشعب يريد إصلاح النظام” انه تم توقيف رجا سلامة شقيق رياض سلامة أثناء استجوابه في قصر العدل وسيتم استدعاء حاكم مصرف لبنان رياض سلامة.
وقالت القاضية عون في تصريح تلفزيوني أن توقيف شقيق حاكم مصرف لبنان رجا سلامة جاء بتهمة “الإثراء غير المشروع” . واعتبرت “أن الحاكم استخدم اسم أخيه وشركاتٍ وهمية كان قد أنشأها رجا بإسمه لتسجيل عقارات في فرنساً، قاربت قيمتها الـ 12 مليون دولار”.
ورداً على سؤال عن استدعاء الحاكم سلامة قالت عون: “سبق واستدعيناه وشفتو شو صار سنعاود الإتصال به، وإذا لم يحضر منشوف شو منعمل، بركي إجا هالمرة”.
وليلا أفيد ان القاضية عون استدعت حاكم مصرف لبنان مرة جديدة إلى دائرتها الإثنين للتحقيق معه في الإخبار المقدّم من الدائرة القانونية لمجموعة “رواد العدالة” في ضوء الإفادة التي أدلى بها شقيقه رجا سلامة أمامها في جلسة تحقيق مع الأخير انتهت بتوقيفه. يُشار إلى أنّ القاضية عون أصدرت في وقت سابق قراراً قضى بمنع الحاكم من السفر وأصدرت مذكرة بإحضاره للتحقيق معه في ملف آخر ولم تنفّذ.
كما اصدرت عون قراراً بمنع سفر رئيس مجلس إدارة بنك “الاعتماد المصرفي” وتجميد أصول البنك في إطار التحقيق. كما وضعت عون إشارة منع تصرف على أسهم بنك “الاعتماد” وحصصه وعقاراته وسياراته في جميع الشركات التجارية، في الشكوى المقدَّمة ضدّ المصارف من مجموعة “الشعب يريد اصلاح النظام”. وهو المصرف السادس الذي تتّخذ القاضية عون هذا التدبير في حقه بعد مصارف “بنك بيروت” و”سوسييتيه جنرال” و”بنك ميد” و”بنك عوده” و”لبنان والمهجر”.
وتفيد المعلومات ان جمعية المصارف ستعقد جمعية عمومية اليوم وسط توجّه إلى اتخاذ خطوات تصعيدية اعتباراً من الأسبوع المقبل، بما فيها إعلان الإضراب العام، “إذا لم تتخذ السلطات السياسية التدابير الآيلة إلى الكف عن المخالفات القانونية في حق المصارف ووقف التمادي الفاضح لبعض الجهات لاسيما القضائية في مخالفة القوانين والاستمرار في الممارسات التعسفية والغوغائية التي تؤدي إلى الفوضى القضائية”.
صندوق النقد
أما المفارقة التي سجلت في هذا السياق فتمثلت في اعلان المتحدث باسم صندوق النقد الدولي جيري رايس امس ان الصندوق يواصل العمل مع السلطات اللبنانية من أجل إصلاحات اقتصادية، مشيرا إلى أنه من المقرر أن يرسل الصندوق بعثة أخرى من الخبراء هذا الشهر. وأضاف رايس “ما زلنا على تواصل وثيق مع السلطات اللبنانية. ونحاول العمل معها لصياغة برنامج إصلاح يمكن أن يتصدى للتحديات المالية والاقتصادية الشديدة التي يواجهها لبنان”.
وتابع قائلا “أود أن أقول إن المناقشات تتقدم بشكل جيد، لكن هناك حاجة إلى عمل مكثف في الفترة المقبلة. تحديات لبنان عميقة ومعقدة وستتطلب وقتا والتزاما”، دون أن يدلي بمزيد من التفاصيل.
مجلس الامن
كما عقد امس مجلس الأمن الدولي جلسة مشاورات مغلقة بشأن تقرير الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيوغوتيريس حول تنفيذ القرار 1701 والوضع في لبنان. واستمع المجلس إلى إيجاز من كل من المنسقة الخاصة للأمم المتحدة في لبنان يوانا فرونِتسكا ووكيل الأمين العام لعمليات حفظ السلام السيد جان بيار لاكروا.
وقد رحّبت المنسّقة الخاصّة “بدعم مجلس الامن القوي والمستمر للبنان وهو يصارع الأزمة ويتّجه نحو مسار الإصلاحات، وحول ضرورة الحفاظ على الاستقرار بين لبنان وإسرائيل”. وقدّمت إحاطة عن الاستعدادات الجارية للانتخابات النيابية في لبنان المقرر إجراؤها في 15 أيار، مؤكّدة “الحاجة إلى الموثوقية والقدرة على التنبؤ، لا سيما فيما يتعلق بوضع اللمسات الأخيرة على ميزانية الانتخابات والإطار التشريعي وفعالية هيئة الإشراف على الانتخابات”. وقالت المنسّقة الخاصّة: “إنّ الناخبين اللبنانيّين يحتاجون ويستحقون اليقين والقدرة على إسماع أصواتهم”، آملةً بالأخص أن تشارك النساء بفاعليّة في الانتخابات كناخبات ومرشحات.
واشارت بقلق إلى استمرار التدهور الاجتماعي والاقتصادي ومعاناة الشعب اللبناني وتآكل القطاع العام، وأكّدت الضرورة الملحّة لتنفيذ إصلاحات ملموسة. وشدّدت على أهمية وجود “رؤية اقتصاديّة وماليّة عادلة وذات صدقية، وإدارة ماليّة سليمة، وإصلاحات ملموسة لقطاع الكهرباء، واتفاقيّة مع صندوق النقد الدولي، وسلطة قضائيّة مستقلة، فضلًا عن الحوكمة الرشيدة وتدابير لمكافحة الفساد.” وحثت على التقيّد الكامل بقرار مجلس الأمن 1701 في جميع أحكامه، مؤكدةً هشاشة الهدوء النسبي بين لبنان وإسرائيل. وشجّعت الدول الأعضاء في المجلس على مواصلة تقديم دعمها للجيش اللبناني ولكل مؤسّسات أمن الدولة، مشيرةً على وجه الخصوص إلى تأثير الأزمة وإلى الدور الذي تلعبه هذه المؤسسات في توفير الأمن والاستقرار خلال الفترة الانتخابيّة المقبلة. وكرّرت دعوات الأمم المتحدة لإجراء تحقيق محايد وشامل وشفّاف في انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020 للوصول إلى الحقيقة ولتحقيق العدالة للضحايا. واعادت التأكيد أن الأمم المتحدة تقف إلى جانب لبنان وشعبه.