كتبت صحيفة “الأخبار” تقول: كلما اقترب موعد الانتخابات النيابية في 15 أيار، على مسافة 19 يوماً فقط، تتضاءل الاحتمالات الفضفاضة بإمكان تعذّر حصولها لسبب ما. يضيق يوماً بعد يوم الثقب المُراهن عليه عند أكثر من فريق لتأجيلها. كأن ثمة مَن يرتقه
لن يصبح حظ تعطيل انتخابات 15 أيار صفراً إلا عند الوصول إلى صناديق الاقتراع. بعض العلامات الإيجابية أن الأفرقاء جميعاً أضحوا في الطور الأخير في هذا الاستحقاق. أنجزوا تحالفاتهم وأعدّوا قواعدهم وفتحوا خزائنهم، وانتقلوا أكثر من أي وقت آخر إلى احتساب الأرقام: الحاصل المؤهِّل للفوز والصوت التفضيلي المفضي إلى المقعد.
البعض الرسمي المعني يتوقّع تذليل العراقيل اللوجسيتية والتقنية المعروفة: اعتراض القضاة والأساتذة وشح الموارد وتوفير الكهرباء. يجزم بأن ما بعد الانتخابات بات هو الأهم الآن، وكذلك ما سينبثق من البرلمان المنتخب.
خشية واحدة تكمن في أذهان هؤلاء، هي حصول صدمة غير محسوبة. كأن يقال، من باب التقدير، حدثاً أمنياً أو حادثاً أمنياً. الأول جسيم، والثاني ذريعة. كلاهما يشكّل فرصة محتملة للتراجع عن إجراء الانتخابات في موعدها. في المقابل، ثمة واقع احترازي، هو أن مجلس النواب لا يزال في عقده العادي الأول كي يلتئم عند الضرورة حتى 31 أيار. إلا أن المشكلة الموازية هي أن المهلة الفاصلة ما بين موعد صناديق الاقتراع في 15 أيار، وانتهاء ولاية البرلمان الحالي منتصف ليل 21 أيار، ضئيلة للغاية. بالكاد ستة أيام. قبل الوصول إلى 21 أيار، اليوم الأخير في ولاية البرلمان الحالي، يفترض أن يكون ثمة برلمان منتخب، وأن يدعى البرلمان المنتخب في هذا اليوم إلى الانعقاد للمرة الأولى لانتخاب رئيسه ونائب للرئيس وهيئة مكتب المجلس، إيذاناً بممارسة صلاحياته الدستورية.
ما لم يتوافر هذان الشرطان، السابقان لاختتام الولاية، وتالياً الوصول إلى 21 أيار دونما انتخاب مجلس نواب جديد، فإن المصيبة الكبرى تكون قد وقعت. وهي أن السلطة الاشتراعية، بانتهاء ولاية السنوات الأربع بالتمام والكمال، تفقد كل كيان دستوري لها وتصبح عديمة الوجود.
أكثر من أي وقت مضى، بات الكلام المعمَّم أن الانتخابات واقعة حتماً. قلّت ذرائع التأجيل وتكاد تختفي. الأهم في ذلك أن أحداً لم يعد يرسم علامات استفهام على ميثاقية إجرائها، مقدار ما بات يعبّر سلفاً عن تخوفه من الواقع المقبل للميثاقية المتوقعة من النتائج والأحجام التي سيفضي إليها الاستحقاق. المحسوم أن الطوائف كلها منخرطة فيه بما لا يعرّضها إلى الطعن. لم يتوقف الكلام عما سيكون عليه الموقف السنّي المترجح بين قائلين بالمقاطعة ومتحمسين للمشاركة، دونما تغليب إحدى وجهتي النظر هاتين. عزز انقسام الرأي ما دار في أوساط الطائفة من تناقض في تفسير القبول بالتصويت أو الامتناع عنه. طُرحت فكرة التصويت السلبي في وجهتين: أولى الامتناع الكامل عن الاقتراع، وثانية الاقتراع ضد المرشحين السنّة الذين يدعمهم حزب الله وحزب القوات اللبنانية.
عند المسيحيين والدروز والشيعة التصويت إيجابي لاختيار مَن يراد أن يُنتخب، وعند السنّة – وهو ما يتفردون به الآن ولم يسبق أن خبروه – هو تصويت سلبي ضد مَن يراد أن لا يُنتخبوا. ذلك جزء لا يتجزأ من التداعيات المباشرة والمكلفة لتعليق الرئيس سعد الحريري وتياره في كانون الثاني الفائت العمل السياسي. إذاً الطائفة للمرة الأولى منذ انتخابات 1996، عندما ترشح والده الرئيس رفيق الحريري، تفقد وحدتها وتماسكها ومرجعيتها، ويُشتتها التجاذب الدائر داخلها، كما الاستقطاب لها من الخارج. لعل الظاهرة اللافتة في ما يُفترض أن السنّة يشكون منه ويتشكون، أنهم في ثاني اختبار مؤلم لهم بعد اغتيال الحريري الأب، يتحولون – أو يراد لهم أن يتحولوا – إلى طائفة هامشية، قليلة الفاعلية، فاقدة المرجعية، بعدما عُدّت الأقوى على أثر انتهاء الحرب اللبنانية، فجنت ثمارها دونما أن تنخرط فيها، وربحت معظم الصلاحيات الدستورية في النظام.
إلى وقت غير بعيد، لم تفارق الشارع السنّي أكثر من محاولة لإيجاد ذريعة لتأجيل حصول الانتخابات في الموعد المقرر لها، بدعوى افتقارها إلى الميثاقية بسبب تغيّب طائفة كبرى عنها. سرعان ما اصطدمت المحاولة هذه بحملة مضادة أفصحت عنها وفرة الترشيحات واللوائح والمتنافسون على مهاجمة حزب الله أو المصوِّرون أنفسهم أنهم حرصاء على إرث الحريري الأب، فأضحى الوصول إلى 15 أيار محتوماً بمَن حضر من السنّة. بات الأمر أكثر صدقية مع عودة السفير السعودي وليد البخاري إلى بيروت أخيراً، وتحرّكه غير المسبوق لأشهر خلت.
أُعطيت هذه العودة أكثر من تبرير: البعض ربطها بإعادة تطبيع العلاقات اللبنانية – السعودية دونما أن يكون قد طرأ تطور ملموس عليها، أو تنازلات جدية أقدم عليها لبنان. البعض الآخر ربطها بالاستحقاق الوشيك. رغم جولة السفير العائد على الرؤساء في مقارهم، وخصوصاً رئيس الجمهورية ميشال عون المشكو من تحالفه مع حزب الله، لم تتعدَّ أحاديثه معه طابع اللياقة والإطار البروتوكولي. سرعان ما تكشّف الجانب الموازي للعودة هذه: استقبالاته المرشحين، تلبيته إفطارات، دعوته هو إلى إفطارات مماثلة ابتعد بعضها عن المرشحين كالأمنيين وممثلي الطوائف.
في حصيلة الأيام الأولى لحركة البخاري ترسّخ اعتقاد أنه تمكن، إلى حد، من «شدشدة» الشارع السنّي وتشجيعه على المشاركة في الاقتراع، تجاوزاً لما كان نادى به الرئيس السابق للحكومة. كانت تلك الرسالة الفعلية لحكومته أنها باتت الآن، في المرحلة القريبة، معنية بانتخابات 15 أيار. بيد أنها ستكون معنية أكثر في المرحلة المقبلة بإيجاد المرجعية السنّية الجديدة بمواصفات مختلفة، تطوي نهائياً المرحلة الحريرية التي لم يسعها إبصار النور إلا من المملكة وفي ظلها.
لا يقتصر تفسير عودة البخاري على هذا الشق على أهميته، بل يذهب إلى ما هو أبعد بكثير: إخراج الحريري من المعادلة السياسية، موقتاً أو طويلاً، يقتضي أن لا يقترن بإخراج السنّة كلهم منها بما يمثلون كفريق سياسي يمكن أن يكون مستقلاً عن الرئيس السابق للحكومة، ولا بإخراجهم من مجلس النواب، ولا بإقصائهم عن المشاركة في الاستشارات النيابية الملزمة لتأليف الحكومات المتتالية في الولاية الجديدة، وكذلك موقفهم من اختيار الرئيس المكلف، أي رئيس مكلف، وهو سنّي في الأصل يخرج من طائفته ولا يهبط عليها، ومن بعد تأليف الحكومة والتمثيل السنّي فيها. الأدهى في ذلك أن هذا الفريق لن يحضر الانتخابات الرئاسية المقبلة، بعد أكثر من عقدين ونصف عقد من المشاركة الفعلية والمؤثرة في هذا الاستحقاق.