كتبت صحيفة “الديار” تقول: لماذا أقرّت الحكومة اللبنانية في أخر جلسة لها خطة التعافي التي وضعها فريق التفاوض الحكومي؟ سؤال مشروع خصوصًا أن العملية تُشبه «تهريبة» لأهم مشروع قانون في تاريخ الجمهورية اللبنانية! كيف لهذه الحكومة أن تُقرّ خطّة لم تنل موافقة صندوق النقد الدولي عليها؟ أم أنها أخذت الموافقة ولم تُعلنها؟ هل سيكون بقدور الحكومة القادمة (إذا ما شُكّلت) أن تُنفّذ هذه الخطة؟ وهل التوازنات في المجلس النيابي الجديد تسمح بإقرار هذه الخطّة؟ أسئلة عديدة فرضتها طريقة وتوقيت إقرار خطة التعافي من قبل الحكومة اللبنانية في أخر جلسة لها، خصوصًا أنها تواجه معارضة قد تكون أكثر عمقًا من تلك التي واجهت خطة حكومة الرئيس حسان دياب.
موقف صندوق النقد من الدين العام
يعتبر صندوق النقد الدولي أن الدين العام اللبناني هو دين «جائر» (ناتج عن الفساد وبمعرفة المقرضين) ولا يجوز بأي شكل من الأشكال تحميله للأجيال المُستقبلية! من هذا المُنطلق يرفض صندوق النقد تحميل أي مسؤولية مالية لخزينة الدولة عملًا بمبدأ أن «دين اليوم هو ضرائب الغد»، وبالتالي يرفض إنشاء صندوق سيادي لتغطية الخسائر الناتجة عن هذا الدين الذي تصل قيمته إلى 50.1 مليار دولار أميركي بالعملة الصعبة وأكثر من 80 تريليون ليرة لبنانية بالليرة اللبنانية. الجدير ذكره أن الـ 50.1 مليار دولار أميركي دين بالعملة الصعبة موزعة على الشكل التالي (أرقام 2019): مصرف لبنان – 5.7 مليار دولار أميركي سندات يوروبوندز بالإضافة إلى 15.6 مليار دولار أميركي تسهيلات لخزينة الدولة؛ المصارف التجارية – 14.7 مليار دولار أميركي سندات يوروبوندز؛ مستثمرين أجانب – 11.8 مليار دولار أميركي سندات خزينة؛ دول أجنبية – 2.3 مليار دولار أميركي قروض مباشرة بفوائد ميسّرة.
تهدف خطّة التعافي بوضوح إلى إلغاء إلتزامات الدولة إتجاه مصرف لبنان (دين بالدولار الأميركي ودين بالليرة اللبنانية). وإذا كان إلغاء الدين بالليرة اللبنانية ينعكس تضخّمًا نظرًا إلى حجم دين الدولة، إلا أن إلغاء الدين بالدولار الأميركي يعني المس بودائع المودعين ورأسمال المصارف بحكم أن مصرف لبنان لا يستطيع طبع الدولارات. أيضًا تهدف الخطّة إلى إلغاء إلتزامات الدولة تجاه المصارف التي أقرضتها 14.7 مليار دولار أميركي وأكثر من 22 تريليون ليرة لبنانية (حينها كان الدولار يوازي 1507.5 ليرة لبنانية).
المصارف التي أودعت 79 مليار دولار أميركي في المصرف المركزي (أرقام 2019)، إستهلكت – بناءً على طلب عملائها – أكثر من هذا المبلغ في الإستيراد كما تُظهره أرقام الجمارك (79 + 13 مليار دولار أميركي). وبالتالي فإن إلغاء دين الدولة تجاه المصارف وتجاه المصرف المركزي ينعكس على الودائع في المصارف التجارية بحكم أن مجموع الأصول المصرفية لا تستطيع تغطية الدين المنوي إلغاءه!
ينطلق صندوق النقد في إعتراضه على ما سُمّي بـ «توزيع الخسائر» من مبدأ أن كبار المودعين هم من إستفادوا من «الفوائد المُرتفعة» التي كانت تدفعها الدولة. وبالتالي طلب الصندوق من الوفد المفاوض حماية صغار المودعين (الحسابات أقلّ من 100 ألف دولار أميركي بحسب رئيس الحكومة نجيب ميقاتي)، وهو ما شدّد عليه رئيس الحكومة في تصاريحه الأخيرة.
الآراء الإقتصادية مقسومة حول هذا التوجّه. فالبعض يعتبر أن تحميل الأجيال المُستقبلية عبء دين عام ناتج عن الفساد هو جريمة بحق هذه الأجيال وينمّ عن أنانية الجيل الحالي، في حين يرى البعض الأخر أن الخسائر التي تحمّلتها بعض فئات الشعب اللبناني تخطّت بأشواط الإستفادة التي حقّقوها من الفوائد التي دُفعت على الودائع. وهناك رأي ثالث ينصّ على أن هذا الدين هو بمعظمه (85%) داخلي وبالتالي كان صندوق النقد الدولي ليتصرّف بطريقة مُختلفة لو أن النسب كانت معكوسة!
الأسئلة التي تُطرح اليوم عديدة وعلى رأسها سؤال جوهري: هل ستتعامل الحكومة اللبنانية مع الدين الخارجي (11.8 مليار دولار سندات يوروبوندز + 2.3 مليار دولار ديون مباشرة) بنفس الطريقة التي ستتعامل بها مع الدين الداخلي؟ لا أحد يعلم حتى الساعة خصوصًا أن الحكومة اللبنانية وسابقتها لم تقم بأي مفاوضات مع المُقرضين بإستثناء الإجتماع الذي عقده نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي مع موظفي المصارف (عبر تقنية webex) لإعلامهم بتوزيع «الخسائر».
يبقى القول أنه على المجلس النيابي الجديد أن يطرح السؤال عن مصير الـ 27 مليار دولار أميركي المجهولة المصير في حسابات الدولة اللبنانية (تقرير وزارة المال) والـ 6 مليار دولار أميركي المهدورة في قطاع الإتصالات (ديوان المحاسبة)، وغيرها من المبالغ التي لا نعرف كيف صُرفت. والأهم أي تمّ صرف الدين العام (104 مليار دولار أميركي) من خلال قطوعات الحساب؟
موقف صندوق النقد من قانون «الكابيتال كونترول»
مُشكلة «الكابيتال كونترول» كما هو مطروح، أنه لا يأخذ بعين الإعتبار كل الطرق التي يتمّ فيها إخراج الدولارات من لبنان، ويُركّز فقط على الدولارات التي تخرج عبر القطاع المصرفي من خلال التحاويل من الحسابات القائمة (قبل الأزمة). في الواقع، بالإضافة إلى الوسيلة التقليدية (أي التحويل من الحسابات المصرفية القائمة) هناك ثلاثة طرق يتمّ من خلالها تهريب الدولارات إلى الخارج:
– الطريقة الأولى تمر عبر الحسابات الطازجة أي أن التاجر الذي يُريد إرسال الأموال للإسيتراد يقوم بشراء الدولارات من خلال منصة صيرفة أو من خلال السوق السوداء ويعمد إلى إرسال هذه الأموال إلى الخارج من دون أن يكون هناك رقابة على العملية – أي مراقبة إذا ما كان التاجر قام بالفعل بإستيراد السلع والبضائع بالقيمة التي حوّلها إلى الخارج. وقد يظّن البعض أن أرقام التحاويل هذه قليلة، إلا أن هذا الأمر غير صحيح، فهناك مليارات الدولارات التي تخرج من لبنان بحجّة عملية الإستيراد من دون أي رقيب أو حسيب. وإذا كنا في ظلّ نظام ليبيرالي يعتمد على حرية الإستهلاك والإستثمار، إلا أنه وفي ظل قانون كابيتال كونترول هذه الأموال يتمّ شراؤها من السوق اللبناني وبالتالي يتوجّب التأكد من أن التاجر قام بإستيراد سلع بقيمة المبالغ المُحوّلة إلى الخارج، وهذا الأمر يتمّ من خلال إبراز التاجر لثلاثة مستندات: ورقة التحويل، الفاتورة، والكشف الجمركي (المفروض أن يكون هناك قاعدة بيانات مركزية). وبالتالي فإن قانون الكابيتال كونترول يجب أن يحوي على هذه القيود.
– الطريقة الثانية التي يتمّ فيها إخراج الدولارات من لبنان هي عبر التصدير. فالمُصدّر عند بيعه للسلع والبضائع قد يُبقي أموال التصدير في الخارج ويُعاود شراء الدولارات في السوق اللبناني. وبما أننا في ظل إقتصاد حرّ وفي نفس الوقت في أزمة، يتوجّب على الدولة التأكد من أن الدولارات التي تمّ شراؤها من السوق اللبناني، يجب أن تعود إلى السوق.
– الطريقة الثالثة هي بواسطة التهريب إلى الخارج والتي توصل إلى نفس الآلية الموجودة في الطريقة الثانية الآنفة الذكر أعلاه، مع فارق أن المنفذين هم خارجون عن القانون. من هذا المُنطلق، يتوجّب إدراج مُكافحة التهريب في قانون «الكابيتال كونترول» حتى ولو كان البعض يعتبر أن التهريب هو بالأساس مُخالف للقانون وبالتالي لا ضرورة لإدراجه.
وهنا نطرح السؤال: ألا يعلم صندوق النقد الدولي (سواء أعطى موافقته على قانون «الكابيتال كونترول» أم لا) أن هذه الطرق موجودة في لبنان، وبالتالي أي عملية لضبط الكتلة النقدية بالدولار في السوق اللبناني في ظل إستمرار هذه العمليات هي أمر مُستحيل؟ وإستطرادًا إستحالة إستقرار سعر صرف الدولار في السوق السوداء وإستحالة توحيد سعر الصرف…
التحفيز الإقتصادي والإصلاحات
كما هو معلوم، الشرط الجوهري الذي يفرضه المُجتمع الدولي بما فيه البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، هو الإصلاحات في قطاع الكهرباء. وبالتحديد يطلب البنك الدولي رفع يدّ الدولة عن قطاع الكهرباء وتلزيم المشروع إلى القطاع الخاص مع تعيين هيئة ناظمة. هذا المشروع لم يمرّ في الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء بعدما طلب وزير الطاقة سحب الملف، وهو ما أغاض رئيس الحكومة الذي أظهر عدم رضاه عن هذه الخطوة خلال تصريحه الإعلامي.
هذا الشرط أصبح صعب المنال مع تحول الحكومة إلى حكومة تصريف أعمال وفي ظل فرضية تعثر تشكيل حكومة في وقت مقبول، فإن التغذية الكهربائية التي نعِمَ بها اللبنانيون في فترة الإنتخابات قد تنخفض إلى الصفر مع وصول الإتفاقية مع الدولة العراقية إلى نهايتها في شهر آب القادم. فما هو رأي صندوق النقد الدولي ورأي البنك الدولي في هذا التطور؟ وهل سيقبل تمويل إستجرار الغاز والكهرباء من مصر والأردن؟ الأرجح أن الجواب هو لا!
أما فيما يخصّ تحفيز النمو الإقتصادي، فالخطة خالية من أية إجراءات. والمُرجّح أن الحكومة تتوقّع أنه وبعض التوقيع على الإتفاق النهائي مع صندوق النقد الدولي، فإن البحث في مشاريع مُؤتمر سيدر سيعود إلى الواجهة، وحكمًا في هذه الحالة سيرتفع النمو الإقتصادي عملًا بمبدأ أن لا نمو من دون إستثمارات. إلا أن هذا الأمر لا يُمكن أن يتمّ إلا من خلال الإصلاحات وعلى رأسها خروج الدولة من الحلقة الإقتصادية واقتصار دورها على الرقابة من خلال الهيئات الناظمة. فهل ستقوم الحكومة بهذه الإصلاحات؟
أيضًا ومع وجود شروط سياسية باطنية من قبل المُجتمع الدولي قبل أي موافقة على مُساعدة لبنان، والإنقسام الإضافي الذي إستجدّ بعد الإنتخابات النيابية والذي يستبّعد أي تسويات سياسية على هذا الصعيد، فإن هذه الشروط غير قابلة للتنفيذ.
الجدير ذكره أن صندوق النقد الدولي وفي تقرير سابق، كان أشار بوضوح إلى ضرورة تسجيل فائض في الميزان الأولي قادر على إمتصاص الإنفاق العام بكل جوانبه. إلا أنه لا يوجد حتى الساعة أي خطّة واضحة المعالم بهذا الخصوص بإستثناء ما سُمّي بخطة ماكينزي والتي هي عبارة أكثر عن رؤية إقتصادية منها خطة إقتصادية.
الموازنة
مشروع الموازنة الذي هو من القوانين الخمسة التي من المفروض على المجلس النيابي إقرارها للبدء المرحلة الأخيرة من المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، لا يُمكن إعتباره مشروع موازنة نظرًا إلى بعده عن مُحاكاة الواقع الحالي. فهذا المشروع سقط قبل إقراره مع تخطّي العجز المستوى المُتوقّع (بسبب سعر صرف الدولار في السوق السوداء)، وبالتالي لا يُمكن السير بهذا المشروع لأن العكس يعني إستمرار عدم واقعية موازنات الدولة اللبنانية. أضف إلى ذلك أن قطوعات الحسابات منذ العام 2004 وحتى العام 2020 غير موجودة وبالتالي من غير المنطقي إقرار موازنة «إنقاذية» من دون معرفة الواقع الحقيقي لحسابات الدولة!
إلا أنه من الواضح أن قطوعات الحسابات ستفتح حكمًا باب المحاسبة وهو أمر مستبعد حاليًا نظرًا إلى طبيعة الحكومات التوافقية القائمة والتي ستجعل من كل من إستلم منصبًا عامًا عرضة للمساءلة. من هذا المُنطلق، نرى أن هناك شبه إستحالة لإقرار قطوعات الحسابات وهو ما سيُشكّل عقدة أساسية أمام مسار إستعادة الإستقرار المالي والإقتصادي.
خطّة «عفى الله عمّا مضى»
مما سبق، يُمكن الإستنتاج أن كل ما قامت به الحكومة يستثني مبدأ المُحاسبة عملًا بمبدأ «عفى الله عمّا مضى» ويُحمّل الخسائر للمودعين والمصارف. وحتى ما يتمّ تداوله بخصوص ضمان الودائع تحت الـ 100 ألف دولار أميركي، هو أمر غير واقعي في ظل عدم وجود الأموال وفي ظل غياب أي خطّة إقتصادية لسدّ هذه الودائع، وغياب الإصلاحات التي من المُستبعد أن يتوافق عليها نواب المجلس الجديد! هذه الخطّة ستكون كارثية نظرًا إلى أنها ستدك هياكل الإقتصاد على ثلاثة مستويات: مستوى المواطن الذي سيخسر ماله وبالتالي سيقبع بالفقر، مستوى المؤسسات الإجتماعية (مثال كاريتاس والمقاصد) والصحّية (المُستشفيات) والتربوية (الجامعة اللبنانية) والذي سيؤّدّي إلى كارثة إجتماعية نظرًا إلى الخدمات التي تُقدّمها هذه المؤسسات، ومستوى الإقتصاد من ناحية ضرب الإستهلاك والإستثمار!