بين “قفزة” الدولار في السوق السوداء إثر انتهاء استشارات بعبدا إلى حدود الثلاثين ألف ليرة، و”نقزة” النسبة الأدنى من الأصوات في تاريخ تكليف رؤساء الحكومات… كل المؤشرات التي اختزنتها مشهدية الأمس، كرّست عملياً انعدام الثقة والتفاؤل بإحداث أي خرق إيجابي في جدار الأزمة الوطنية طالما بقيت الطغمة الحاكمة، حاكمة ومتحكّمة برقاب اللبنانيين، وقادرة ومقتدرة في إدارة دفة الاستحقاقات الدستورية لصالح تكريس قبضتها على مؤسسات الدولة وإحباط أي صحوة إصلاحية تغييرية في البلد.
باختصار، استكملت السلطة “تنفيذياً” ما بدأته “تشريعياً” في إطار هجمتها المرتدة على نتائج الانتخابات النيابية، فأعادت رصّ “صفوفها الرئاسية” في صورة ثلاثية الأبعاد، جمعت الرؤساء ميشال عون ونبيه بري ونجيب ميقاتي في قصر بعبدا إثر انتهاء استشارات التكليف، تأكيداً على أنّ مَن راهن مِن اللبنانيين على صناديق الاقتراع خاب رهانه و”بقي القديم على قدمه” في ساحتي النجمة ورياض الصلح، ليبدأ من الآن فصاعداً “شحذ السيوف” للمنازلة المقبلة على ساحة استحقاق رئاسة الجمهورية، مع بدء العد التنازلي الرئاسي للولاية العونية.
فإعادة تكليف رئيس حكومة تصريف الأعمال تشكيل الحكومة لم تكن سوى “صفارة انطلاق السباق الرئاسي” وفق تعبير مصادر نيابية، مؤكدةً أنّ تكليف ميقاتي كان بمثابة “التسليم بأن عنوان المرحلة المقبلة سيكون رئاسياً أكثر منه حكومياً، وعلى هذا الأساس كان القرار بتكليفه إدارة المرحلة الانتقالية الفاصلة عن نهاية العهد إدراكاً من الجميع بعدم القدرة على تشكيل حكومة جديدة خلال هذه المرحلة“.
غير أنّ المصادر نفسها لم تستبعد أن تشهد الأسابيع الآتية “محاولات حثيثة لاستيلاد حكومة جديدة ترتكز على فكرة استنساخ حكومة تصريف الأعمال مع إضافة بعض التنقيحات الوزارية على تركيبتها بشكل يتيح لرئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل إدخال وزراء “صقور” محسوبين عليه في التشكيلة الحكومية”، معتبرةً أنّ الاتصالات والمشاورات ستنصبّ من هذا المنطلق على بلورة “مسودات ترقيعية” للحكومة الحالية، على أن يبدأ الرئيس المكلف “جوجلة الأفكار وبلورة التصورات المطروحة حيال الأسماء والحقائب المقترح استبدالها مع القوى المعنية فور الانتهاء من مشاوراته مع الكتل النيابية والنواب المستقلين والتغييريين في ساحة النجمة“.
أما الأوساط المواكبة للأجواء المحيطة بعملية التكليف والتأليف، فأعربت عن قناعتها بأنّ كل المحاولات التي ستجري لتشكيل حكومة جديدة لن تخرج عن إطار “مسرحية تقطيع الوقت” بانتظار دخول البلد في مدار الاستحقاق الرئاسي، مشددةً على أنّ “ميقاتي قد يعمل ما بوسعه لتدوير الزوايا مع رئيس الجمهورية في سبيل التوصل معه لتقاطعات معينة حيال المسودات الحكومية المقترحة، لكنه على الأغلب سيصطدم بشروط تعجيزية من باسيل تصعّب عليه محاولة التأليف، وسيبقى بالتالي في المرحلة المقبلة يعبّد الطريق صعوداً ونزولاً إلى قصر بعبدا بين الحين والآخر “لزوم المشهد” لكنه في نهاية المطاف لن يجد ما يضطره للخضوع إلى شروط باسيل للتأليف طالما أنه ضَمِن الإمساك بزمام التكليف حتى نهاية العهد“.
وكان ميقاتي إثر استدعائه إلى القصر الجمهوري لتكليفه تشكيل الحكومة الجديدة بأكثرية 54 صوتاً مقابل 25 لنواف سلام و46 “لا تسمية”، أكد استعداده لمد اليد لجميع القوى السياسية “من دون استثناء” في سبيل “إنقاذ ما يمكن إنقاذه”، وقال: “لن تنفعنا حساباتنا ومصالحنا وأنانيتنا (…) المهم أن نضع خلافاتنا واختلافاتنا جانباً وننكب على استكمال الورشة الشاقة (…) فنحن لم نعد نملك ترف التأخير والغرق في الشروط والمطالب”، محذراً من أنّ لبنان أصبح أمام مفترق طرق فإما “الانهيار التام أو الإنقاذ التدريجي انطلاقاً من فرصة وحيدة باتت متاحة أمامنا في الوقت الحاضر”، مع تشديده في هذا المجال على أنه “من دون الاتفاق مع صندوق النقد الدولي لن تكون فرص الإنقاذ متاحة“.