فرضت “قرقعة” الانهيار إيقاعها على مجمل مناحي حياة اللبنانيين، حتى باتت يومياتهم كالسير فوق “الجمر” في متاهة من السراديب المعيشية والمالية والصحية والخدماتية بحثاً عن مقدرات العيش والصمود بلا ماء ولا دواء ولا كهرباء… أما أهل الحكم فصمٌّ بكمٌ عميٌ يتجاهلون صراخ الناس ويتغاضون عن مآسيهم ولا يعنيهم من “سدّة المسؤولية” سوى مقدار ما تمنحه من مغانم سلطوية لهذا الطرف أو ذاك، وعلى ذلك تتوالى عروض مسرحية “الإنقاذ والإصلاح” فصولاً بين أركان السلطة بينما الاقتتال مستمرّ على أشده خلف الكواليس لتنازع الحصص على “الخشبة” الحكومية.
وبالأمس، دخلت مساعي التأليف “وقتاً مستقطعاً” فرض إرجاء موعد انعقاد اللقاء التشاوري الثالث في بعبدا بين رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلف نجيب ميقاتي، تحت وطأة استمرار التباعد في المواقف حيال الخطوط العريضة لخريطة التشكيلة الوزارية الجديدة، فبردت الحماوة على أرضية التشكيل وسادت معادلة “فاصل ونواصل” حكومياً لتبرز على شاشة “أو تي في” مداخلة لرئيس الجمهورية بدت أشبه بـ”الدعاية العونية” لتسويق “منتجات” العهد في ملفي الترسيم واستجرار الغاز.
ففي حين غابت أي إشارة على لسانه تتعلق بمسار ومصير المشاورات الحكومية، حصر عون حديثه بمسألة التبشير بقرب الوصول مع إسرائيل إلى “حل قريب يرضي الجميع” في عملية ترسيم الحدود البحرية الجنوبية، مؤكداً “أننا أصبحنا على مشارف التفاهم مع الأميركيين ولم يعد هنا من مدة طويلة لإنهاء المسألة”، بالتوازي مع تشديده على “إيجابية” الجولة التي قام بها وزير الطاقة والمياه وليد فياض على كل من مصر والعراق، في ما يتصل باستجرار الغاز والنفط “لمد لبنان بمزيد من ساعات التغذية بالطاقة الكهربائية“.
أما في جوهر الموقف، فكان رئيس الجمهورية غير حاسم في إجاباته التي طغت عليها العموميات مستخدماً رداً على معظم الاستيضاحات عبارات من قبيل “لا أعلم، وعلى حدّ علمي، وما بعرف شو صار”… ففي مسألة الترسيم أجاب عون: “لا أعلم الوقت المحدد للحل”، وفي موضوع عمل باخرة استخراج الغاز في حقل كاريش قال: “على حد علمي، ما بعرف شو صار بالليل لما راحوا المسيّرات”، ولدى الاستفسار منه حول الإيجابيات التي أعلن عنها في قضية استجرار الغاز المصري والفيول العراقي اكتفى بالقول: “للحصول على التفاصيل يمكن سؤال معالي الوزير“.
وكان لبنان قد دخل أمس عملياً مخاض الـ“BLACK OUT” في ما وصفته مصادر معنية بأنه بروفا أولى لـ”السواد الأعظم” الذي سيشهده اللبنانيون في المرحلة المقبلة في ظل الانقطاع الشامل بالتيار الكهربائي، إذ توقف معمل الزهراني لإنتاج الطاقة بشكل تام تحت وطأة إعلان الشركة المشغلة لهذا المعمل ومعمل دير عمار عن التوقف عن القيام بأعمالها بسبب عدم تقاضي مستحقاتها بالدولار الأميركي، الأمر الذي فرض توقف معمل الزهراني، المنُتج الوحيد للطاقة راهناً في البلد، وانقطاع عام وشامل للكهرباء على كافة الأراضي اللبنانية، قبل أن تعود الشركة إلى وضعه في الخدمة إثر التأكد من تحويل مصرف لبنان الأموال المستحقة.
فالاعتماد المالي الذي تبلغ قيمته 60 مليون دولار وكانت الحكومة قد أقرته في 14 نيسان الفائت لمتعهدي مؤسسة الكهرباء، تم صرفه بالأمس من حقوق السحب الخاصة التي يعود التصرف بها لوزارة المالية ولا يتطلب عقد استقراض ولا مراسيم سلف… “فلماذا تركت الأمور للحظة الأخيرة؟” ما يؤشر بحسب المصادر المعنية إلى وجود “نية جدية بإدخال البلد في عتمة شاملة”، وبمعنى أوضح “ما بدهم يجيبوا الكهرباء”، وأضافت: “ما حصل كان متوقعاً بعد فترة من تأجيل القرارات التي لا تتعلق بمعملي الزهراني ودير عمار وحدهما، إنما أيضا بالشركة التي تشغل معملي الذوق والجية المتوقفين منذ 6 أشهر بسبب عدم توفر الفيول، وتسديد نفقات الصيانة وقطع الغيار”، معتبرةً أنه “بات من الواضح أنه لا يوجد أي توجه رسمي باتخاذ قرارات جدّية ومسؤولة تضع حداً للانهيار في قطاع الكهرباء”. وختمت: “اليوم دفعنا مبلغ 60 مليون دولار لحل المشكلة، لكن ماذا ينتظرنا بعد شهر أو اثنين؟” فالحل ليس مرتبطاً فقط بدفع المبلغ المؤجل، إنما هناك مشكلة الفيول بعد انتهاء العقد العراقي، وموضوع الغاز المصري، ونفاد العملة الصعبة وانهيار الوضع المالي، وعليه سنعود لنقع في الأزمة نفسها وبشكل أعنف بعد مدة ليست بعيدة“.