هل كان ضرب بيروت في بداية الحرب اللبنانية عبثياً الى هذا الحد؟ وهل كان انفجار المرفأ بريئاً وسببه الاهمال ليس اكثر؟ وهل جعل بيروت بلا روح خلال التظاهرات غير العفوية والاعتصامات المقيمة دهرا صدفة؟
ثمة اسئلة كثيرة وكبيرة كانت تطرح بصوت خافت، لكن الصوت ارتفع بعد الانفجار الذي اصابنا في الصميم، بشراً وحجراً، ولعلنا نجد الاجابة الشافية عمن اقترف ويقترف الجريمة تلو الاخرى بحق “ست الدنيا”.
واذا كانت الجريمة تنفذ بادوات عدة، وتتكرر، فان الابرز منها هو القدرة على التصدي والصمود واعادة البناء وعودة الحياة الى العاصمة الجامعة كل الاطياف وملتقى الثقافات والاديان. ربما لانها كذلك، يريدون تدميرها لمحو هذا التراث، فهو لا يشبههم، بل يعيشون ويتغذون بنقيضه.
قومي يا بيروت، عبارة تتكرر، وهي ليست قصيدة بل واقعا، اذ ان ما اصاب هذه المدينة لم تعرفه ربما عاصمة اخرى في العالم، في فترات متقاربة الى هذا الحد. المهم ان بيروت تسمع النداء، وتلبيه، لتقوم من جديد.
بعد انفجار المرفأ، ضرب الاحباط كثيرين، ولا غرابة في الامر، فالحياة لم تكن تطاق، اذ ترافقت مع انهيارات على كل المستويات وفي كل القطاعات. والخسائر فادحة، ولا تزال ماثلة امامنا، تحفر في الوجع العميق.
لكن السؤال الاخر المطروح: هل نستسلم للواقع الاليم؟ الجواب يأتيك من الاكثر تألماً. لقد قرروا المواجهة. ولبسوا ثوب الايمان. الايمان بلبنان الذي سيعيدوا بناءه بعدما جبل بدماء احبائهم. افهم تماما كيف يفكرون. فقد عشت التجربة نفسها.
امام هذا الواقع الذي يحث على الحياة، كان لا بد من مبادرات، وهي كثيرة لاعادة الروح للعاصمة ومحيطها، وقد انطلقت مبادرات فردية ومن جمعيات ومنظمات محلية ودولية، للمساعدة في اعادة اعمار المنازل والمؤسسات، وفي ترميم الانكسارات والانهيارات النفسية والاجتماعية.
وايمانا من “النهار” التي اصابها الكثير قبل الانفجار وخلاله، وهجّر العاملون فيها بسبب الخراب والدمار، اطلقت مبادرات عدة، تزرع الامل من جديد في النفوس. واذا كانت عملية اعادة الاعمار تسير ببطء شديد بسبب ضعف الامكانات والموارد، فان ما يتقدمها هو ترميم الانسان، واعادة بناء القدرات الذاتية والمجتمعية للوقوف في وجه الة التدمير وتغيير وجه البلد وصورته وهويته.
هذا العدد، اردناه لا لتذكر الضحايا فحسب، اذ اعتمدنا في “النهار” مرافقة الاهالي في اليوم الرابع من كل شهر، لعدم اضاعة التحقيق وموت العدالة. ولم نشأ التركيز على الدمار، والالم الذي لا ننكره، بل اردناه رسالة حياة وامل، لتحريك القوة الايجابية الكامنة في كل انسان جعل البلد خياره النهائي، فنتساعد ونتعاون لكي لا يتسلل الندم الى من اتخذوا هذا القرار.
الصرخة في هذا العدد الذي تصدره “النهار” تتحوّل مشروعاً لإعادة الإعمار وإلباس بيروت ثوب الحياة. ففي رسالة أمل من “النهار” وIMPACT BBDO ضمن حملة RedressLebanon#، ابتكر المصمم العالمي زهير مراد فستاناً فريداً من الشبك المستعمل في ترميم الأبنية المتضررة جراء انفجار 4 آب، يعرض اليوم، قبل ان يباع بطريقة رقمية (NFT)، على أن يعود ريع المبيع الى جمعية “إدراك” لدعم قضية الصحة النفسية ومساعدة المتضررين من الانفجار.
في هذا المشروع الكثير من الامل، من الفرح، من الحب، من التفاؤل، من النهوض، والنهضة، من خلع الماضي الثقيل، وتجاوزه، لا نسيانه، والتطلع الى الغد.
هذا العدد ثمرة تعاون بين ثلاثة اطراف، تجمعهم قضية لبنان، وقضية الانسان فيه، ليقدموا اجمل ما عندهم، وافضل ما عندهم، لتكون الحياة افضل ايضا لمن سيتلقون الرعاية والمساعدة. شكرا للمبدع زهير مراد الذي تلقف الفكرة بعدما احجم عن فكرة هجر لبنان بعد الكارثة التي اصابته في مكان عمله قبالة المرفأ، وشكرا لـ IMPACT BBDO التي صارت تجمعنا بها خبرة طويلة في التعاون الخلاق، وشكرا لاسرة “النهار” التي تعمل بفرح رغم المصاعب وتحقق الانجازات.
واذا كانت “النهار” تدخل اليوم عامها التسعين، فهذا تأكيد اضافي على قبول التحدي، ومواجهته بفرح وتفاؤل، اذ ان “النهار” واجهت صعوبات مماثلة، مثل بيروت ومعها، وعرفت القتل والخطف والاعتداءات واحتلال مكاتبها وتعطيل صدورها والتضييق على صحافييها وصولا الى قتل العديد منهم، وظلت وفية لمبادئها، وتحدت الصعاب، وهي اذا كانت فخورة بماضيها، فانها تتطلع الى مستقبلها. فنحن ابناء الحياة.
في هذا اليوم نرفع شعار: حنرجع الامل لقلب بيروت ونلبسا ثوب جديد.