أصبح البلد أشبَه بغابة فالتة تحكمها فوضى متوحّشة في كل مفاصلها، لا يمضي يوم إلا وتتبدّى فيه أسباب إضافية تزيد من اختناق هذا البلد وتسدّ آفاق الانفراج لحالة مرضية مُستعصية باتت اسباب شفائها معدومة بالكامل، وما على اللبنانيين في هذا الواقع سوى ان يترقّبوا تلقّيهم للصدمة تلو الأخرى. أمّا ما تبقّى من السلطة فهو في عالم التراخي وغربة التخاذل.
كل شيء صار على الحافّة، القمح مهدد بالسقوط قريباً في الشح الكامل، والدواء، وخصوصاً أدوية الامراض المستعصية والخطيرة باتت سلعة نادرة الا في السوق السوداء التي تُتاجر بحياة الناس، وها هي الطامة الكبرى تتبدّى بالأمس مع التلويح باختفاء اجهزة غسل الكلى وهو أمر في منتهى الخطورة يهدّد حياة الآلاف ممّن هم مُبتَلون بهذا الأمر. وليس آخراً ملف الكهرباء الذي بات أفقه الاسود مفتوحاً على حرمان اللبنانيين من ساعة التغذية التي تُمَنّ عليهم، لتحلّ مكانها العتمة الشاملة التي باتت على الابواب. وهي حقيقة لا يمكن ان تنكرها التطمينات الفارغة التي ترِد على لسان هذا المسؤول او ذاك.
مفترق التحديات
في موازاة هذا الواقع البائس، يَتموضَع البلد أمام مجموعة استحقاقات داهمة، تتحدد معها الوجهة التي سيسلكها في المستقبل القريب. فالاستحقاق الحكومي تجاوزه الزمن وأسَرَته التعقيدات والاقتناعات وجَمّدته في خانة التعطيل الادراي المتعمّد من قبل القيّمين على هذا الملف، فيما الداهم استحقاق الاصلاحات المنتظر، والمرتبط بإقرار مجلس النواب لمجموعة من المشاريع ذات الصلة، الى جانب إقرار الموازنة العامة للسنة الحالية، والتي ربطَ رئيس المجلس النيابي نيابي نبيه دعوته الى جلسة انتخاب رئيس الجمهورية خلال المهلة الدستورية التي باتت على مسافة أقل من عشرين يوماً، بإنجاز هذه المشاريع التي يمهّد بعضها الطريق الى تحقيق برنامج تعاون بين لبنان وصندوق النقد الدولي.
وسط هذه الاجواء تجري الدوائر المجلسية التحضيرات لعقد جلسة تشريعية ربما خلال الاسبوع المقبل، لدراسة تلك المشاريع وإقرارها، على ان يسبقها اجتماع لهيئة مكتب المجلس النيابي خلال الاسبوع المقبل لتحدّد جدول اعمال الجلسة، مع الاشارة الى انّ اللجنة النيابية للمال والموازنة تابعت بالأمس دراسة بعض المشاريع وأقرّت تعديلات على اتفاقية قرض البنك الدولي بـ150 مليون دولار المتعلّق بتأمين القمح، فيما تجري التحضيرات على قدم وساق لإنجاز مشروع الموازنة العامة، الذي تجمع مختلف الاوساط على انه قد يحمل في طيّاته تعديلاً في ارقامها على اساس سعر صرف جديد للدولار ما بين 12 الف ليرة و14 الف ليرة، علماً انّ بعض الاصوات الحكومية ارتفعت في موازاة ذلك مقترحة ان يُصار الى احتساب ارقام الموازنة على اساس سعر دولار صيرفة.
صندوق النقد
في هذه الاجواء تعكس مصادر اقتصادية أجواء ارتياح لدى صندوق النقد الدولي حيال ما تَواتَر من لبنان عن اقرار الشروط التي وضعها لإتمام اتفاق التعاون مع لبنان. الّا انّ الصندوق بحسب هذه المصادر وإن كان يرى توجّهاً ايجابياً لتلبية مجموعة الشروط التي طرحها، الّا انّ فتح الطريق السريع الى اقرار برنامج التعاون مع لبنان يتطلّب بالدرجة الاولى والاساسية إقرار قانون “الكابيتال كونترول”، فمِن دون إقرار هذا الامر، لا مجال لإبرام اتفاق تعاون مع لبنان.
على أن الاجواء الحكومية لا تَشي بوضع مشروع الكابيتال كونترول على النار، وقالت مصادر حكومية لـ”الجمهورية”: ليس هناك من شك بأنّ إقرار الكابيتال كونترول يعدّ انجازا كبيرا جدا ويُساهم في ضبط حركة العملة الصعبة ويحول دون تفريغ لبنان منها، والتحويل او بالاحرى التهريب العشوائي لها الى الخارج، ولكن حتى الآن لم تكتمل الصيغة النهائية لهذا المشروع، والجهود منصبّة حالياً في اتجاه تذليل بعض العقبات التي تعترضه. وفور جهوزه سيُصار الى إقراره في مجلس النواب، مقروناً بخطة التعافي الحكومية.
الاستحقاق الأخطر
وإن كان الاستحقاق الرئاسي لم يدخل بعد دائرة الحسم بموضوع انتخاب رئيس جديد للجمهورية ضمن المهلة الدستورية لانتخابه بين أول ايلول واخر تشرين الاول المقبلين، فإن المناخ العام في البلد يُغلّب فرضية الفراغ الرئاسي ما بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون في 31 تشرين الاول، وذلك لسبب اساس وهو انعدام التوافق حتى الآن على اسم الشخصية التي سيتم انتخابها. واذا ما تَعمّقنا في المشهد الرئاسي، فإنّ القوى السياسية والنيابية لا تبدو على رأي واحد في هذا الاستحقاق.
وقالت مصادر سياسية مطلعة لـ”الجمهورية”: احتمالات الفراغ الرئاسي اكبر بكثير من احتمالات انتخاب رئيس الجمهورية. وثمّة مشكلة ستبرز اعتبارا من 1 تشرين الثاني المقبل، وتتجلّى في كيفية ادارة الدولة في ظل خُلو سدة الرئاسة، وحكومة تصريف اعمال، وهل يحقّ لمثل هذه الحكومة ان تُناط بها صلاحيات رئيس الجمهورية بعد انتهاء ولايته ومغادرته رئاسة الجمهورية. هذا الامر سيخلق ارباكات، ويُخشى من سجالات قانونية ودستورية لا تنتهي.
وعبرت المصادر عن تفهّمها لمواقف الاطراف الداخليين وخصوصا في الجانب المسيحي والماروني تحديدا من الاستحقاق الرئاسي، والحدة التي تبرز بين حين وآخر بين بعض الاطراف الفاعلة مسيحياً، وقالت: هذا امر طبيعي يرافق كل استحقاق رئاسي.
الا ان المصادر عينها لفتت الى انّ اطراف الداخل يبالغون كثيرا في قدرتهم على التأثير في الاستحقاق الرئاسي. فلا اسماء مرشحة حتى الآن، وإنّ المرشحين المفترضين، وعلى وجه الخصوص الجَديين منهم، ينتظرون تطورات هذا الملف، ويبدو انهم يرفضون الدخول في هذه المعمعة، التي تتبدّى في انّ القوى السياسية مستغرقة في ما تسمّى “ملهاة المواصفات”، حيث ان كل طرف يحدد مواصفات الرئيس الذي يريده، مُتناسين ان هذا الاستحقاق وكما تحكمه اعتبارات داخلية هو محكوم في العادة باعتبارات خارجية اقليمية ودولية لم تتّضِح معالمها بعد، وبالتالي فإنّ ما يجري في لبنان ربطا بالاستحقاق الرئاسي هو لزوم ما لا يلزم، وفي احسن حالاته لعب في وقت ضائع لا يقدّم ولا يؤخّر.
أيلول الترسيم!
على انّ الاكثر دقة وحساسية من سائر الاستحقاق هو استحقاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل.
وجديد هذا الملف، بحسب ما قال معنيون به لـ”الجمهورية”، انّ عودة الوسيط الاميركي آموس هوكشتاين الى بيروت مؤكدة اعلامياً، انما واقعياً لا يمكن تأكيدها او استبعاد حصولها. فحتى الآن لم نتلقّ اي اشارة ترجّح أياً من الاحتمالين.
ولفتت المصادر الى ان لا جديد يُذكر على صعيد المواقف، فحتى الآن لا توجد اي اشارات لتحريك هذا الملف الى الامام، او يؤكد ما اذا كانت الامور ذاهبة نحو العودة الى طاولة الحوار غير المباشر في الناقورة بإدارة الامم المتحدة وتحت علمها وبمشاركة الوسيط الاميركي. فبعد زيارة هوكشتاين الى اسرائيل سمعنا الشيء وعكسه، فمن جهة تعالت بعض الاصوات السياسية وتحدثت عن ايجابيات وقرب توقيع الاتفاق بين لبنان واسرائيل، ومن جهة ثانية تعالت اصوات اخرى تقول عكس ذلك وتُرجّح بقاء الامر مراوحاً في التعقيدات. وتبعاً لذلك، طرحَ لبنان موقفه بالتمسّك الكامل بالحقوق والحدود والبحرية، ولو كانت الايجابية موجودة لدى الجانب الاسرائيلي لكان هوكشتيان في بيروت اليوم قبل الغد.
وردا على سؤال عما اذا كان هوكشتاين سيعود الى بيروت خلال اسبوعين؟ قالت المصادر: هذا ما سمعناه كلاميا، انما واقعيا لا شيء مؤكدا حتى الآن.
ايلول الاسرائيلي!
على ان الانظار مشدودة وسط هذا الجو المشحون بعلامات الاستفهام الى ما ستقدم عليه اسرائيل بداية شهر ايلول المقبل، وهو الموعد التي سبق وحدّدته لبدء استخراج الغاز من حقل “كاريش”، وضمن المنطقة التي يعتبرها لبنان منطقة متنازعاً عليها.
وقَلّلت بعض المستويات السياسية من احتمالات التصعيد، خصوصا ان اسرائيل تبدو متجهة لتأجيل موعد استخرادج الغاز من كاريش ربما الى ما بعد شهر ايلول، في اشارة الى ما أعلنته وزيرة الطاقة الاسرائيلية كارين الهرار عن انّ استخراج الغاز سيبدأ عندما تكون الشركة على أتمّ الاستعداد، متجاوزة بذلك موعد ايلول ولم تقاربه كوعد حاسم. الّا ان مصادر مواكبة ابلغت الى “الجمهورية” قولها انه لا يمكن الركون لأي موقف اسرائيلي، وبالتالي فإن عدم بلوغ تفاهم على الترسيم من الآن وحتى ايلول المقبل قد يجعل المنطقة وكأنها تقترب من قنبلة موقوتة حيث لا يمكن من الآن تقدير ما قد يحصل، خصوصا مع التهديدات المتبادلة سواء من الاسرائيليين الذين لَوّحوا بردّ قاس على اي تعرّض لاعمال استخراج الغاز من حقل كاريش، او من قبل “حزب الله” الذي هدّد بمنع الباخرة التي استقدمتها اسرائيل من القيام بأي عمل في هذا الاطار، طالما ان لا اتفاق على الترسيم يؤكد الحق الكامل للبنان بمياهه وحدوده وثرواته.
نصرالله: الاستعداد
والجديد في هذا الاطار ما اعلنه الامين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله في الخطاب الذي ألقاه في ختام مسيرة العاشر من محرّم، حيث قال: نحن شعبٌ مصرٌ على الصمود، وعلى السيادة الحقيقية وليس السيادة الوهمية وليس السيادة المزيفة، نحن شعبٌ وتيارٌ نُصرّ على أن نكون سادة قرارنا ولسنا أزلاماً في هذه السفارة أو تلك السفارة، وسوف نبقى نتطلّع إلى مستقبلٍ واعد للبنان ولشعب لبنان، لكل شعب لبنان، بمسلميه ومسيحييه، نحن نتطلّع إلى لبنان القوي، السيد، الحر، العزيز، القادر على حماية سيادته وكرامته، الآمن والقادر على استخراج ثرواته الطبيعية، أن يبقى نفطه له وغازه له وماؤه له، وأن لا يسمح لأحدٍ أن يسلب منه خيراته وثرواته، وأن اليد التي ستمتد إلى أي ثروة من هذه الثروات ستُقطع”.
وقال: “في مسألة النفط والغاز والحدود البحرية، نحن على موقفنا المعروف، نحن في الأيام المقبلة ننتظر ما ستأتي به الأجوبة على مطالب الدولة اللبنانية وسنبني على الشيء مقتضاه، ولكن أقول لكل اللبنانيين وخصوصاً لجمهور المقاومة وبالأخص لمجاهدي المقاومة، يجب أن نكون جاهزين لكل الاحتمالات، يجب أن نكون جاهزين ومستعدين لكل الاحتمالات. نحن في هذه المعركة، في هذا الاستحقاق جادّون إلى أبعد درجات الجدية. وكما قلت في الماضي أعيد اليوم القَول للأميركيين الذين يقدّمون أنفسهم وسطاء وهم ليسوا بوسطاء، وأقول للاسرائيليين: لبنان وشعب لبنان لا يمكن بعد اليوم أن يتسامح بنَهب ثرواته”.
واضاف: “قلت في السابق وأعيد، نحن وصلنا إلى آخر الخط وسنذهب إلى آخر الطريق فلا يجرّبنا أحد ولا يَمتحننا أحد ولا يهددنا أحد ولا يراهن على أن يخيفنا أحد”. وأوضح: “نقول للاسرائيليين لا تخطئوا مع لبنان، ولا مع شعب لبنان ولا مع المقاومة في لبنان، لا في موضوع النفط ولا في موضوع الغاز ولا في موضوع الحدود البحرية، وأيضا لا تخطئوا في أي اعتداء”.
تحذير أممي
الى ذلك، طالبت الأمم المتحدة أمين عام “حزب الله” بأن يتجنّب في خطاباته ما من شأنه أن يزيد من “تأجيج الموقف” في المنطقة.
وخلال مؤتمر صحفي عقده المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، في المقر الدائم للمنظمة الدولية في نيويورك، حيث سُئل عن موقف الأمين العام أنطونيو غوتيريش إزاء تحذيرات أطلقها نصر الله بشأن الخلاف بين بلاده وإسرائيل حول منطقة غنية بالنفط والغاز في البحر المتوسط، فأجاب: “اننا دائما قلقون من هشاشة الوضع في تلك المنطقة، ونطلب أن يتجنّب أي شخص الخطابات التي تزيد من تأجيج الموقف”.
عون
في سياق متصل بهذا الملف، اكد رئيس الجمهورية ميشال عون امام وفد فرنسي استقبله في القصر الجمهوري في بعبدا امس “انّ لبنان متمسّك بحقوقه في مياهه وثرواته الطبيعية، وهو قطعَ شوطاً بعيداً في المفاوضات لترسيم الحدود البحرية الجنوبية والتي ستستكمل من اجل التوصل الى اتفاق في شأنها برعاية الامم المتحدة ووساطة الولايات المتحدة الاميركية”.
واعتبر، من جهة ثانية، “ان المعركة ضد الفساد ينبغي ان تستمر بالتزامن مع التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان، لأنّ ثمة مجموعة نَهبت هذا الوطن وأفقَرت شعبه، ومن غير الجائز تركها من دون محاسبة وعقاب، خصوصاً انّ اركان هذه المجموعة يحمون بعضهم البعض ويعرقلون في الوقت نفسه كل عملية اصلاحية”.
واوضح الرئيس عون انه “يتابع بانتظام ملف انفجار مرفأ بيروت الذي توقّف التحقيق فيه مع الاسف، بعد عوائق وضعت في طريق المحقق العدلي، ويستمر العمل من اجل إزالتها بهدف تحقيق العدالة ومحاسبة المرتكبين الحقيقيين”.