وسط أجواء المماطلة والمناورات السياسية والغموض التصاعدي الذي يغلف مصير سائر الاستحقاقات الداخلية، سواء ما يتصل بها بالاستحقاق الحكومي الذي استفاق عليه فجأة اهل الحكم، او في ما يتعلق بالافق الشديد القتامة حيال الاستحقاق الرئاسي، عاد الهاجس المالي والاجتماعي ليطغى على مجمل المشهد الداخلي في ظل تصاعد الازمات المعيشية والاجتماعية الخانقة. ولعل اهل المناورات الرسمية الرئاسية والحكومية والسياسية لم يسمعوا ان دولار السوق السوداء راح يقفز مجددا في الأيام الأخيرة، خارقا سقوفا ملتهبة وارقاما قياسية جديدة تجاوزت الـ 34 الف ليرة للدولار الواحد، اذ ان ملهاة التجاذبات السياسية لا تبقي مجالا لاهتمامات اهل السلطة رغم ذرّ الرماد الإعلامي في عيون اللبنانيين وايهامهم ان مسؤوليهم ينصرفون الى احتواء الازمات وإيجاد المخارج الممكنة لها.
ورغم هذا المناخ “المناوراتي” في السياسة، لم تحمل الساعات الأخيرة ما يؤكد تفاؤل المتفائلين بإمكان تحريك ملف تاليف الحكومة الجديدة، او تعويم حكومة تصريف الاعمال، اذ لم تظهر أي مؤشرات عملية بعد على ان لقاء كسر القطيعة بين رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي اول من امس في قصر بعبدا، قد تجاوز هذا الاطار الى اطلاق جهد جدي مشترك بين الرئيسين نحو محاولة جدية لتاليف حكومة جديدة. وفي الوقت الذي سادت توقعات حيال لقاء ثان امس بين عون وميقاتي لاستكمال البحث في الملف الحكومي، لم يعقد هذا اللقاء. وأفادت معلومات ان ميقاتي سيزور بعبدا اليوم. وظل مصير الأجوبة التي تردد ان ميقاتي ينتظرها من عون عالقا في انتظار ما يمكن ان تحمله الساعات المقبلة، اذ ان بعض الأوساط المطلعة على مجريات الاتصالات الجارية في هذا الشأن تحدثت عن امكان بلورة بعض المعطيات المتصلة بالعادة تحريك قنوات البحث بين بعبدا والسرايا في الساعات الثماني والأربعين المقبلة. ولفتت الى ان المعطيات التي توافرت حيال التحرك الجديد تشير الى ان الرئيس المكلف نجيب ميقاتي ابدى مرونة مفاجئة في مقاربته المستجدة لملف تاليف الحكومة، اذ انه بعد ان كان لحظ في التشكيلة التي قدمها الى رئيس الجمهورية في حزيران الماضي تعديلا طاول وزارة الطاقة في شكل أساسي عاد وتراجع عنه، واكتفى بتعديل حقيبتين هما حقيبة المهجرين وحقيبة الاقتصاد تاركا لعون حرية التسمية والاختيار. وبحسب هذه المعطيات، فان ميقاتي يكون بذلك قد قطع الطريق على الاتهامات الموجهة اليه بالمماطلة في محاولة تاليف حكومة ورمى تاليا الكرة مجددا في مرمى بعبدا وهو ينتظر منذ يومين جواب رئيس الجمهورية على عرضه المعدل. وأشارت الى ان ميقاتي يرغب في تسهيل عملية التاليف من اجل استعادة صلاحيات حكومة فاعلة ونافذة وقادرة على ملء أي فراغ رئاسي محتمل بعد انتهاء ولاية الرئيس عون.
واما في المشهد السياسي – الرئاسي فبرز تطور تمثل في مضي “التيار الوطني الحر” في حملته على “القوات اللبنانية” حيث اعتبر رئيس حزب “التيار الوطني الحرّ” النائب جبران باسيل ان “غيرنا يستعمل حقّه بالتعطيل كي يمنع وصول من لا يتمتع بالمواصفات التي طرحها”، مشيرا الى “اننا حراس الحقوق والجمهورية في وجه شياطينها”. وأضاف في فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي “نحن متساوون بالجوع ولكن يجب أيضاّ ان نكون متساوين بالحقوق”.
الدولار الجمركي
وفي غضون ذلك فرضت الملفات الاقتصادية والمعيشية نفسها أولوية أساسية في ظل طرح موضوع الدولار الجمركي. واعلن وزير الاقتصاد أمين سلام “أننا بصدد إقرار موازنة 2022 من قبل مجلس النواب وسمعنا أنه سيتم تثبيت سعر الصرف على سعر الـ 20 ألف ليرة والبحث كان يجري على أسعار عديدة كي لا يكون هناك انعكاس على المواطن”. وعن الدولار الجمركي، اشار الى أنّ “موضوع الـ20 ألف ليرة ليس رسميًا، وسيتبيّن هذا الأمر خلال الساعات المقبلة بين وزير المال يوسف الخليل وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة”. ولفت الى أنّ “هناك تخوّفا من قيام التجار بتخزين المواد التي كانت على سعر الـ 1500 للدولار الجمركي ونحن بدورنا الرقابي نقوم بواجبنا وننتظر قوائم من التجار للمواد التي قاموا بشرائها سابقًا على سعر الـ 1500”.
وفي هذا السياق عقد الرئيس ميقاتي اجتماعا مع وزير المال يوسف خليل للبحث في ملف سعر الصرف المحدد على الاستيراد والالتباس الذي تسبب به تسريب كتاب رئيس الحكومة الموجه الى وزير المال. وافيد انه تم الاتفاق على استكمال البحث لاتخاذ القرار المناسب . وعلمت “النهار ” ان وزير المال يوسف خليل وبعدما تسلّم كتاب رئيس حكومة تصريف الاعمال الذي يطلب فيه اعتماد سعر عشرين الف للدولار الجمركي، عمد الى ردّ الكتاب خصوصاً وانه تم تسريب مضمونه قبل نحو ساعتين من وصوله الى وزارة المال، باعتبار انه جاء مخالفاً لما كان اتفق عليه سواء في مضمونه او في الشكل الذي سرب فيه.
الاتفاق على رفع سعر الدولار الجمركي باعتماد العشرين الف قائم وينتظر توافقاً على الالية والاخراج، ويفترض ان يترجم هذا الاتفاق اليوم الجمعة بنتيجة الاجواء التوافقية التي سادت اجتماع السرايا مساء امس وبنتيجة الاتصالات التي سبقت هذا الاجتماع على خط السرايا – عين التينة. وثمة اكثر من صيغة لاصدار التسعيرة الجديدة انطلاقا من اعتبار رفع الدولار الجمركي تشريعا ماليا ام تشريعا جمركيا. وقد اعطى مجلس شورى الدولة رأيه بانه تشريع مالي لا يمكن ان يصدر الا بقانون في حين هناك القانون الرقم 93 تاريخ 10 – 10 -2018 يمنح الحكومة حق التشريع الجمركي مما يعني ان تحديد سعر الدولار الجمركي هو من صلاحية الحكومة.
الموازنة
ولم تنه امس كما متوقعا لجنة المال والموازنة النيابية بت السيناريوات التي وضعتها بها وزارة المال حول ارقام الجباية والنفقات. وشدد رئيس اللجنة النائب ابراهيم كنعان على “أننا نريد تعزيز إمكانات الدولة ولكن في الوقت نفسه الأخذ بعين الاعتبار وضع الناس”. وقال بعد انتهاء اجتماع اللجنة “هناك ميزان جوهرجي مطلوب لتأمين استمرارية الدولة ومراعاة إمكانات الناس وحاجاتهم، لأن الموازنة لا يجب أن تكون دفترية فالأهم من تحديد أرقام هو كيفية تأمينها”. واضاف: “سألت لجنة المال وزير المال والحكومة ما هو الأثر المالي للارقام المقدمة لنا ومن يضبط الأسعار؟ فعلى الدولة ان تكون واقعية في ما تطلبه من الناس”. كما أوضح “أعطينا الحكومة ووزارة المال مهلة أخيرة حتى الأسبوع المقبل لتزويدنا بالأرقام الحقيقية للجباية والنفقات وعلى ضوء ما سيأتينا نبني على الشيء مقتضاه على صعيد الموازنة والدولار الجمركي يحدد في الحكومة ونريد معرفة أثره المالي”.
ملف النازحين
على صعيد آخر، رأس ميقاتي إجتماع اللجنة الوزارية لمتابعة إعادة النازحين السوريين الى بلدهم. وغاب عن الاجتماع وزير المهجرين عقب خلافه ووزير الشؤون الاجتماعية على الصلاحيات المتصلة بملف إعادة النازحين السوريين. واوضح وزير الشؤون الاجتماعية هكتور حجار انه جرى استكمال البحث في المقررات التي صدرت عن الاجتماع الذي عقد في القصر الجمهوري في 11 اب الجاري، “واطلعنا الرئيس ميقاتي وأعضاء اللجنة عليها وتمت مناقشتها، واتفقنا على تنفيذها ومتابعتها من قبل الوزارات والإدارات المعنية، كما جرت قراءة شاملة لملف النازحين، وكانت الآراء متوافقة وتم التأكيد على ان وزارة الشؤون الاجتماعية هي المتابِعة لهذا الملف بالتنسيق مع وزارة الخارجية، والأمور تسير على الطريق الصحيح”… وعن السجال الذي حصل مع وزير المهجرين، قال “السجال الذي حصل هو لتوضيح بعض القضايا الأساسية ان كان في موضوع الصلاحيات او مقاربة الموضوع الذي يحتاج الى مقاربة جماعية على مستوى اللجنة بسبب شموليته، وهذا هو محور الخلاف، لان الملف غير مرتبط بوزارة واحدة على الرغم من ان وزير الشؤون الاجتماعية، بحسب القانون، هو المسؤول عن هذا الملف الدقيق، لكن عددا من الوزارات مرتبط ايضا بملف النازحين، وهو يحتاج الى دقة في العمل، لانه في جانب منه يتعلق بالمؤسسات الدولية والدول والجهات المانحة ومفوضية شؤون اللاجئين”.