عتمة وصفر كهرباء، جوع، فقر، عطش، احتكار، غلاء فاحش وفوضى اسعار وغرف سوداء، تشليح وعصابات، ومعدلات الجريمة على اختلاف انواعها في مستويات غير مسبوقة في تاريخ هذا البلد، لا دولة، لا مؤسسات، لا طبابة، لا ضمان، لا أمان، لا خدمات، لا اقتصاد، لا مال، لا مرافئ ولا مرافق، ادارة مشلولة، وقضاء متخبّط، ومؤسسة عسكرية مستمرة بشق النفس، وقوى أمنية تعاني الأمرّين، واداؤها وظائفها ومهماتها مهدّدة بالتوقف جراء افتقارها ولو إلى الحدّ الأدنى من مقومات استمرارها..
اما في السياسة، فالبلد كله معلّق على حبل طويل من الفضائح؛ انشقاقات وانقسامات حادة، وأجندات متصادمة، ومكونات مفخخة طائفيًا ومذهبيًا وبانعدام كامل للوطنية الصادقة، وبنزعة الافتراق حتى على البديهيات، والتضحية بما يُعتبر أجمل الاوطان، على مذبح المصالح الخاصة والحسابات والحزبيات ولقاء مكاسب ذاتية على حلبة الاستحقاقات. ومسار الانحدار متسارع نحو قعر الدرك الأسفل.
تلك هي صورة لبنان، صورة وطن كئيب يعاني متلازمات مرضيّة من النوع الذي يستحيل علاجه، وطن لم يعد يشبه أيّ وطن في العالم، بل لم يعد ثمة وطن على وجه الكرة الارضية يمكن ان يُقارن به. وأمّا اللبنانيون المنكوبون، فأصبحوا عراة، يصارعون جوعهم، وفقرهم، وتفليسهم، وأمراضهم، ولقمتهم، ونسمة هواء يتنفسونها للبقاء على قيد الحياة!
أمام هذه الفاجعة، ينبري السؤال: هل سقط هذا البلد نهائيًا؟ وهل بتنا نعيش لحظة الارتطام الكارثي؟
فلنتوقّع الأسوأ!
في هذا السياق، قال مصدر سياسي مسؤول لـ«الجمهورية»: «نحن امام فاجعة حقيقية، وحريق أشعل كل فئات الشعب اللبناني وكواه في كل مفاصل حياته. ولا اقول انني خائف، فحسب، بل انا مذعور مما ينتظرنا في المستقبل القريب».
واضاف: «مشكلة لبنان انّه اصبح يتيمًا بكل ما لهذه الكلمة من معنى. فمع بلد بلا رأس مدبّر له، وبلا سلطة حاكمة حكيمة، واسترخصته ذهنيات وسياسات عبثية، وأنانيات من يفترض انّهم قيّمون عليه في السلطة وخارجها، من الطبيعي جدًا توقّع الأسوأ له، والترحّم مسبقًا على مصيره الأسود. كيف لا، وثمّة تعمّد مفضوح منذ بداية الأزمة المشؤومة، لبث السموم السياسية في جسم البلد، ورهن مصيره لإرادة خبيثة لتعطيل الحياة فيه».
واعتبر المصدر عينه، «أن لا عذر على الاطلاق لتشكيل الحكومة، حتى ولو كانت ولايتها يومًا واحدًا»، كاشفًا انّ «تعطيل تأليف الحكومة ليس مرتبطًا بشروط من هنا وهناك، بل هو ناجم عن كيديات وأحقاد دفينة. ولو كانت النوايا صادقة، ولو كان هناك قدر قليل من الشعور بالمسؤولية تجاه وطن يعاني أسوأ الأزمات في تاريخه، لما شهد البلد هذه المسرحية المملة والخلاف على قشور، والمماحكات الفارغة، لا بل اقول الهجومات السياسية المفتعلة والمشبوهة، فيما الأزمة تزداد عمقًا، والناس ينحدرون في معاناتهم الى بؤس قاتل».
«حمل خادع»
وفي السياق، أبلغ مرجع سياسي إلى «الجمهورية» قوله، «انّ موضوع الحكومة قد طوي نهائيًا منذ تقديم الرئيس المكلّف نجيب ميقاتي تشكيلته الوزارية إلى رئيس الجمهورية وتسريبها من قِبل فريق الرئيس، وبالتالي ما حصل اخيرًا على مسار التأليف، لم يكن سوى حمل خادع لا أساس له».
أضاف المرجع: «المطلوب حكومة اياً كان شكلها او مضمونها. فالعالم كله يجمع على حاجة لبنان اليها لتدير على الأقل أزمته، الّا في لبنان، يحيدون هذه المسؤولية عن ظهورهم، وهذه قمة العقوق بحق هذا البلد. فضلًا عن انّ المشكلة ليست فقط في تعثّر التأليف، بل هي في عدم قيام حكومة تصريف الاعمال بواجباتها كما يجب، والذي يدفع الثمن هو الشعب اللبناني».
وردًا على سؤال حول السجال المسبق على مرحلة الفراغ الرئاسي ودور حكومة تصريف الاعمال فيه قال المرجع: «كل الامور مكشوفة، فثمة من هو مستعجل على رحيل الرئيس عون، وثمة من هو غير مصدّق، بل غير قابل انّ ولاية الرئيس عون ستنتهي وسيغادر قصر بعبدا. وتبعًا لذلك، ما نسمعه من مطولات ومطالعات واجتهادات لن يغيّر في واقع الحال شيئًا. فالانفعالات التي نراها لا تنفع، فضلًا عن انّ كل تلك الاجتهادات والانفعالات والمطالعات ايضًا، تسقط كلها امام النص الدستوري الذي يرعى حالات الفراغ الرئاسي إن حصل لأي سبب كان».
خريطة طريق
إلى ذلك، ومع اقتراب بدء سريان مهلة الـ 60 يومًا لانتخاب رئيس الجمهورية خلالها بدءاً من اول ايلول وحتى 31 تشرين الاول المقبلين، تتجّه الانظار في اتجاه عين التينة، وما سيقرّره رئيس مجلس النواب نبيه بري في ما خصّ الدعوة إلى انتخاب رئيس الجمهورية. علمًا انّ رئيس المجلس سبق له ان اعلن انّه لن يدعو إلى جلسة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية إلّا بعد إقرار قوانين الإصلاح التي يطلبها صندوق النقد الدولي.
ووجهة القرار الذي سيتخذه بري، ستتحدّد في الخطاب الذي سيلقيه الاربعاء المقبل في المهرجان الذي سيُقام في صور في ذكرى تغييب الامام موسى الصدر ورفيقيه، وفي المكان الذي يكتسي رمزية كبرى، تعني ما تعنيه في التاريخ والجغرافيا، ومرتبطة بانطلاقة حركة «امل» وخطاب القَسَم الذي القاه الامام الصدر في المكان ذاته في ايار من العام 1974.
واكّدت مصادر واسعة الاطلاع لـ«الجمهورية»، أنّ خطاب بري الاربعاء على جانب كبير من الأهمية، يرتكز على دقة ما بلغه وضع لبنان والمخاطر التي تحدق بحاضره ومستقبله، ويتضمن خريطة طريق الخروج من صحراء الجنون القائمة في هذا البلد. يضع من خلالها كل الأطراف الداخليين امام مسؤولياتهم حيال وطن يعاني الوجع في كل مفاصله، والاختيار بين ان يبقى لبنان ويستمر وطنًا كريمًا عزيزًا جامعًا لشمل كل اللبنانيين، وبين ان يذوب ويندثر ويذهب معه الماضي والحاضر والمستقبل. وهذا يتطلب بالحدّ الأدنى وقف المضاربات السياسية، وان يكون كل اللبنانيين على اختلاف تلاوينهم الطائفية والسياسية للوطن ومع الوطن، وبشراكة جماعية صادقة ومندفعة الى حفظ أمانة لبنان ودمل جراحه ومنحه مناعة يحتاجها قبل فوات الاوان.
كارثة تنتظر لبنان
إلى ذلك، نقل اقتصاديون عن مسؤول مالي دولي تقييمًا جديدًا حيال مستقبل الوضع في لبنان، وخصوصًا على المستويين المالي والاقتصادي.
واكّد هؤلاء الاقتصاديون لـ«الجمهورية»، انّ ما اورده المسؤول المالي مقلق للغاية، كاشفًا عن انّ ثمة تقريرًا جديدًا سيصدر في وقت قريب عن مؤسسة مالية دولية كبرى حول لبنان، يتضمن تصنيفًا في منتهى الخطورة يعادل الكارثة الكبرى.
وردًا على سؤال، رفض الاقتصاديون تأكيد ما إذا كان التقرير المنتظر يتضمن اعلان لبنان دولة فاشلة، الّا انّهم المحوا إلى انّ كل الامور واردة بما فيها هذا التصنيف.
وعكس الاقتصاديون تخوف المسؤول المالي من الوضع المالي في لبنان، ودعوته الملحّة إلى السلطات السياسية والمالية في لبنان إلى اعتماد خطوات تكبح انفلات الوضع المالي، وفوضى السوق السوداء التي تتحكّم بهذا المجال، وهذه الخطوات لا تعني ان تكون خطوات جذرية، بل خطوات علاجية جراحية عاجلة يتطلبها الاقتصاد اللبناني، والّا فات الأوان، بحيث قد يصل هذا البلد إلى وضع لا يستطيع فيه اللحاق بالأزمة وتحليق سعر الدولار والانهيار الكامل لليرة اللبنانية.
الدولار الجمركي
ماليًا، وفي جديد الدولار الجمركي، لفت اقتراح جديد لنائب رئيس حكومة تصريف الاعمال سعادة الشامي حيث قال: «معظم المعاملات في لبنان لا تتمّ على سعر الصرف الرسمي، بل على سعر صرف السوق باستثناء الضرائب والرسوم الجمركية التي تشكّل السواد الأعظم من موارد الخزينة، مما ينتج فجوة شاسعة بين الإيرادات والنفقات. بالإضافة لذلك، وجود أسعار صرف متعددة يفسح مجالاتٍ وفيرة للتلاعب ويخلق تشوهات كبيرة في الاقتصاد الوطني. لذلك من المفضل ربط «الدولار الجمركي» بسعر الصيرفة، والذي سيصبح السعر الرسمي الوحيد عندما تُلغى جميع أسعار الصرف الأخرى، لتتحول منصّة صيرفة إلى منصة فعلية لتلقّي العرض والطلب على الدولار والعملات الأجنبية الأساسية الأخرى، وذلك تبعًا لبرنامج الإصلاح الاقتصادي الذي أقرَّته الحكومة اللبنانية. فمن الضروري توحيد أسعار الصرف تمهيدًا لاعتماد سعر صرف مَرِن يعكس الأساسيات الاقتصادية والمالية والنقدية. إن ربط «الدولار الجمركي» بسعر صرف المنصة سيؤدي الى تَحَرّكِهِ بشكل تلقائي، ويُغني عن اللجوء دوريًا الى نقاش وسجالات تؤدي إلى ضياع المزيد من الوقت الذي نحن بأشدّ الحاجة اليه».
الهيئات الاقتصادية
من جهته، قال رئيس الهيئات الاقتصادية محمد شقير: «نحن نعارض بالمطلق رفع الدولار الجمركي إلى 20 ألف ليرة دفعة واحدة، لأنّ ذلك سيشكّل صدمة قوية للاقتصاد والمؤسسات وللقدرة الشرائية للمواطنين. لكن في المقابل نؤكّد ضرورة رفعه إلى ما بين 8 آلاف و10 آلاف ليرة لزيادة إيرادات الخزينة، بما يمكنها من تلبية إحتياجات تشغيل إدارات الدولة وأجهزتها وكذلك زيادة رواتب العاملين في القطاع العام».
واعتبر شقير «أنّ عدم رفع الدولار الجمركي جريمة موصوفة بحق العاملين في القطاع العام» مشيرًا إلى «التداعيات الكارثية التي ستنتج من عدم رفعه سريعاً ومن دون أي تأخير، لزيادة مداخيل الدولة ومنع «ضياع الكيان»، المهدّد من باب انهيار القوى العسكرية والأمنية التي تعاني من مشاكل كبيرة على مختلف المستويات نتيجة تآكل مداخيل العسكريين والصعوبات التي تواجهها لتأمين ابسط إحتياجتها المختلفة، لا سيما الأساسية».
جنبلاط: 3 اسئلة
وبرزت في هذا السياق تغريدة لرئيس الحزب «التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط قال فيها: «أليس افضل ان يُعدّل الدولار الجمركي وقد اغتنى تجار لبنان وسوريا على حساب المواطن اللبناني؟ أليس افضل رفع تعرفة الكهرباء ووضع نظام جباية فعّال وقد ازدهر اصحاب المولدات فوق التصور؟ أليس افضل تمرير ما تبقّى من قوانين الإصلاح الاساسية بدل هذا السيل من الحقد والتزوير من سلطة فاشلة؟».
ابراهيم: أخطار مهولة
على صعيد آخر، وجّه المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم كلمة الى افراد وعسكريي الأمن العام لمناسبة الذكرى السابعة والسبعين للأمن العام، قال فيها: «إنّ صمودكم وتمسّككم بمناقبيتكم العسكرية هو محلُ تقدير تستحقونَه لما تبذلونَه من جهدٍ وتضحيات في ظل أوضاعٍ حالكة. ما تفعلونَهُ من خدمةٍ وتضحية إلتزاماً بقسمكم يجب أن يبقى لأنكم درعٌ من دروعِ الوطن التي يحتاجها لبنان اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى. كلنا يعرفُ حجمَ الأخطارِ التي تحيطُ بنا من الخارجِ ومن الداخلِ على السواء. على المستوى الخارجي، يخوضُ لبنان معركةً مقدّسة من اجلِ إستعادةِ حقوقهِ البحرية من العدو الإسرائيلي، وكذلك في ضبط ِالمعابرِ البرية إنفاذاً للقوانينِ والتعليمات. لأنّه لا استنسابية في تطبيقِ الأنظمة، ولا تعسّف باستعمالِ السلطةِ من أجلِ الحقِ الوطني. على المستوى الداخلي، نحنُ أمامَ أخطارٍ مهولة، يبعثُ عليها الإنهيارُ الاقتصادي والاجتماعي، وهو انهيارٌ أتى على كل المؤسساتِ فراحت هياكلُ الدولة تتآكل، وهذا ما يدعونا إلى التنبّهِ وإلى التزامِ أعلى درجاتِ الاستنفارِ والحيطةِ دفاعاً عن لبنان واللبنانيين وحيثما نكون».