يُعتبر قانون الموازنة العامة أهم قانون يُصَوّت عليه سنويًا في المجالس النيابية، فهو يحوي على كل العمليات المالية المتوقّعة على خزينة الدولة من إيرادات ونفقات كما واحتياطي، ويُشكّل عامل إمتصاص لأحداث غير مُتوقّعة. وفي بعض البلدان مثل الولايات المُتحدة الأميركية مثلًا، عدم إقرار قانون الموازنة في مواعيده (كانون الأول من كل عام للعام القادم) يُدخل البلد فيما يُسمى الـ «shutdown» وهو خفض كبير للإنفاق الحكومي. أما في لبنان، فإن الدستور إفترض أن الحكومة تُرسل مشروع الموازنة في مواعيده الدستورية، وإعتبر أنه في حال لم يُقرّ المجلس النيابي الموازنة حتى نهاية كانون الثاني من عام الموازنة، فيُمكنها حينذاك الإنفاق على أساس المشروع الذي أرسلته.
الموازنات التي وُضعت في الأعوام الأخيرة منذ العام 2017 وحتى اليوم، هي موازنات كسابقاتها تعتمد مبدأ الموازنة بالبنود، أي أنه يتمّ أخذ كل بند في الموازنة وزيادة أو تنقيص قيمة مُعيّنة من هذا البند نسبة إلى العام السابق، من دون أن يكون هناك رؤية واضحة على تطور الإيرادات والنفقات في الأعوام التالية. وما يؤكّد هذا فذلكات الموازنة التي ترافقت ومشاريع الموازنة المقدمة والعجز الذي يُسجّل في نهاية كل عام. الجدير ذكره أنه ومنذ العام 1993 وحتى العام 2019، سجّلت كل الموازنات عجزًا بمعدّل 3.2 مليار دولار أميركي سنويًا (أي ما يوازي 86.4 مليار دولار أميركي على كل الفترة)!
أهمية قانون الموازنة موضوع غير قابل للنقاش وهذا أمر لا جدال عليه، لا بل على العكس نطرح السؤال عن الفترة المُمتدّة من العام 2006 وحتى العام 2016، كيف إستطاعت الحكومات المُتعاقبة إدارة البلد ماليًا على أساس القاعدة الإثني عشرية والإعتمادات من خارج الموازنة! لقد إتسمت هذه الفترة بفوضى مالية هائلة سُجّل فيها عجز في الموازنات، وتحوّل إلى دين عام كان في نهاية العام 2005 يُقارب الـ 38.5 مليار دولار أميركي ليصل إلى 92 مليار دولار أميركي قبل الإنهيار في العام 2019!
شرط صندوق النقد الدولي بإقرار موازنة لا يأتي من العدم، فهو أكثر العالمين بأهمية إقرار موازنة تحوي ما يلزم لإستعادة الإنتظام المالي في الدولة بعدما فُقدّ منذ عقدين. وهنا نطرح السؤال: هل مشروع الموازنة الحالي يُرضي صندوق النقد الدولي ويُلبي شروط الخروج من الأزمة؟
مشروع الموازنة لا يعكس الواقع الحقيقي للمالية العامة
من الضروري قبل الإجابة على هذا السؤال، تسليط الضوء على بعض النقاط التي تُظهر أنه بمعزل عن أية إعتبارات خارجية، مشروع الموازنة لا يعكس الواقع الحقيقي للمالية العامة. ولكن هذا الأمر لا يُقوّض إقرار المشروع كما هو، فإمتلاك قانون موازنة هو بحدّ ذاته أمر مُهم بالنسبة لمصداقية البلد على الصعيد الدولي، وهو عنصر مُهمّ في لجم تدهور المالية العامة. من هذه النقاط نذكر:
– أولًا – تعدّد أسعار الصرف: فمشروع الموازنة هذا يحوي أقلّه على ثلاثة أسعار صرف مخفية داخله، الأول سعر 20 ألف للإيرادات، والثاني 12 ألف للدولار الجمركي، والثالث 1500 للنفقات (خاصة الأجور). وهو بالتالي يترك المجال لعمليات Arbitrage من قبل الشركات وحتى بعض المواطنين، ويغض النظر عن وجود السوق السوداء، بحكم أن توحيد سعر الصرف على منصة صيرفة (كما هو مفروض) يفترض مكافحة التطبيقات التي تُعطي أسعارًا عشوائية تُناسب المضاربين والتجار. أيضًا يفرض توحيد سعر الصرف أن تعمد الحكومة إلى السيطرة على الكتلة النقدية بالعملة الصعبة، وهو ما يعني إقرار قانون «الكابيتال كونترول» ووقف عمليات التهريب (المُقدّرة من قبلنا بنصف حجم الإستيراد) التي تُخرج الدولارات خارج لبنان من بوابة التجارة. أيضًا من شروط توحيد سعر الصرف مكافحة الإحتكار وإلزام التجار القبول بوسائل دفع أخرى غير «الكاش»، والذي له مضار كثيرة إن من ناحية المضاربة على الليرة أو من ناحية التهرّب الضريبي أو من ناحية الجرائم المالية عامة.
ثانيًا – غموض في الإيرادات والنفقات: قامت لجنة المال والموازنة بتعديلات على مشروع موازنة العام 2022 طالت عدة أجزاء من الموازنة وعلّقت أربعة عشر مادة منها بحكم غياب الإتفاق السياسي على هذه المواد. وبحسب التعديلات، بلغت إعتمادات الموازنة 37,858,866,143,000 ليرة لبنانية مُموّلة بإيرادات مُقدّرة بـ 24,312,142,000,000 ليرة لبنانية وإيرادات إستثنائية بـ 13,546,734,143,000 ليرة لبنانية. وهنا تبرز مُشكلة جوهرية من ناحية أن الإيرادات الضريبية تُشكّل أكثر من 80% من إيرادات الخزينة وبالتالي ومع الإضرابات القائمة والتهرّب الضريبي الواسع خصوصًا في الضريبة على القيمة المضافة (تُشكل أكثر من 24.5% من إيرادات الخزينة) والإيرادات الجمركية (أكثر من 8.5% من إيرادات الخزينة)، هناك أسئلة مشروعة عن إمكانية تحقيق الخزينة هذه الإيرادات؟
وفيما يخص الإيرادات الجمركية، فإن السؤال المطروح هو حول قدرة الأجهزة الحكومية على ضبط التهريب إلى الداخل اللبناني، خصوصًا مع ارتفاع الدولار الجمركي والذي يُعتبر مُحفّزا أساسيا للتهريب. ولا ننسى نسبة الجباية الضعيفة في جلب الضرائب الأخرى.
أيضًا وعلى صعيد النفقات، نرى أن هناك تناسيا (مقصودا أو غير مقصود) حول سعر صرف الدولار الأميركي مُقابل الليرة اللبنانية خصوصًا في السوق السوداء والذي مع إرتفاعه سيؤدّي حكمًا إلى نتيجة من إثنتين: خفض الإنفاق العام (خصوصًا الأجور والإنفاق التشغيلي بشكل عشوائي) أو تسجيل عجز في الموازنة وهو ما يعني عدم واقعية الموازنة.
ثالثًا – حجم وتمويل العجز: تحليل النسخة المُسرّبة في الإعلام من مشروع الموازنة يُظهر أن حجم العجز سيفوق الـ 30 تريليون ليرة لبنانية! نعم هذا ما يُمكن إستخراجه من هذه الأرقام (خصوصًا إذا ما أخذنا بعين الإعتبار الإيرادات والنفقات المُحققة سابقًا نسبة إلى تلك المتوقّعة). هذا العجز يوازي 853 مليون دولار أميركي على سعر السوق السوداء ومليار و63 مليون دولار أميركي على سعر منصة صيرفة. وبالتالي هناك إعتقاد أن يكون وضع أرقام الموازنة قد تمّ بالدولار الأميركي وتم تحويل الأرقام ودوزنتها لاحقًا بالليرة اللبنانية. وهنا نطرح سؤالا جوهريا: من سيموّل هذا العجز؟ فشروط صندوق النقد لم يتم الإلتزام بها، وبالتالي لن يمول صندوق النقد الدولي هذا العجز. أيضًا لا مساعدات مالية ظاهرة في الأفق من أي دولة من الدول بحكم إلتزامها بضرورة إتفاق الحكومة مع صندوق النقد الدولي.
إذًا ومما سبق، لم يبق إلا مصرف لبنان الذي ستُلزمه الحكومة عملًا بالمادة 91 من قانون النقد والتسليف على تمويل هذا العجز! وإذا ما تغيّر سعر صرف الدولار في السوق السوداء، فإن التمويل سيرتفع أكثر. ويبقى الأهم أنه إذا طلبت الحكومة من المصرف المركزي – وهذا من صلب صلاحياتها – الحفاظ على مستوى سعر صرف، فهذا يعني نقل عجز الموازنة إلى موازنة المصرف المركزي.
رابعًا – الدين العام: لا يُظهر مشروع الموازنة أي معالجة للدين العام، وهو ما يعني أن الحكومة ماضية في خطتها في تحميل المودعين والمصارف ومصرف لبنان دينها العام. وهذا الأمر يُظهر إلى أي مدى هناك إستخفاف بمصداقية الدولة اللبنانية على الإلتزام بتوقيعها وسيكون له تداعيات مُستقبلية على قدرتها التمويلية من الأسواق المالية.
خامسًا – القطاع العام: لم يتطرق مشروع الموازنة إلى القطاع العام وما هي نظرة الحكومة إلى المؤسسات غير المجدية والتي يصل عددها إلى أكثر من 90 مؤسسة بحسب تقرير سابق للجنة المال والموازنة. كما لم يتمّ التطرّق إلى حجم القطاع العام وإمكانية نقل موظّفين من هذا القطاع إلى القطاع الخاص في إطار الشراكة بين القطاعين العام والخاص. وهو ما يعني تأجيل مُشكلة أجور القطاع العام إلى الأعوام القادمة.
سادسًا – قطوعات الحساب: لعل هذه النقطة هي الأهم على صعيد الموازنة، حيث أنه وعلى الرغم من أن الدستور والقوانين تنصّ على إلزامية إقرار قطوعات الحساب، لا يوجد أي قطوعات حساب منذ العام 2003. وبحسب تقرير لوزارة المال، هناك 27 مليار دولار أميركي «مجهولة المصير» في حسابات الدولة، كما أن هناك أكثر من 90% من الهبات غير المُسجّلة في حسابات الدولة ما بين العامين 1997 و2002. وبالتالي كيف يُمكن للمجلس النيابي إقرار موازنة من دون معرفة الواقع الحالي للمالية العامة؟
سابعًا – نسبة النمو: تُشير حساباتنا إلى أن نسبة النمو الاقتصادي الذي سيُحققه الاقتصاد اللبناني هذا العام يفوق الـ 2%. ولم تسمح لنا المعلومات المتوافرة لمعرفة نسبة النمو المُعتمدة في مشروع موازنة العام 2022 حتى لو أن التوقّعات تُشير إلى أن سيكون أكثر من 3% نظرًا لإعتماد وزارة المال على نسب نمو تفاؤلية. إلا أنه وبغض النظر عن نسبة النمو المُعتمدة، كيف ستستفيد الحكومة من هذا النمو مع نسبة التهرب الضريبي الهائلة في ظل وجود إقتصاد نقدي كبير؟ هذا السؤال يطرح العديد من الأسئلة خصوصًا على صعيد تحقيق الإيرادات المُتوقّعة.
توجّه لإقرار المشروع كما أحالته لجنة المال
على كل الأحوال وبغضّ النظر عن الملاحظات الآنفة الذكر، من المتوقّع أن يتم دراسة مشروع الموازنة للعام 2022 في الهيئة العامة هذا الأسبوع على مدى ثلاثة أيام ستُناقش خلالها الهيئة العامة الـ 120 مادة كلٌ على حدة. وبحسب المعلومات المتوافرة لدينا، فإن هناك توجّه لإقرار مشروع الموازنة كما أحالته لجنة المال والموازنة نظرًا لعدّة إعتبارات على رأسها ضرورة إقرار موازنة لما في ذلك من أهمية لإستمرار المفاوضات مع صندوق النقد، كما وأن السنة المالية أصبحت في ربعها الأخير وبالتالي فإن المعنيين يأخذون بعين الإعتبار ما أصبح مُحقّقًا من أرقام مما يعني أن الموازنة حتى لو عُدّلت لن تُجدي نفعًا.
وبإعتقادنا، فإن صندوق النقد الدولي وعلى الرغم من معرفته بعدمّ فعّالية الأرقام الواردة في مشروع الموازنة، يُصرّ على إقرارها من قبل الدولة اللبنانية متأمّلًا أن تكون موازنة 2023 أقرب إلى الواقع من موازنة العام 2022.