منذ عشر سنوات صاغ الموفد الأميركي كوسيط في ملف ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وحكومة الإحتلال، وثيقة خطية تعترف للبنان بنسبة 55% من المنطقة الواقعة بين الخطين 1 و23، ووقفت الإدارات الأميركية المتعاقبة والوسطاء المكلفين بالملف عند هذه الوثيقة وفق معادلة، أقبلوا بما يعرض عليكم لأنّ البديل هو الإنتظار الى ما لا نهاية، حتى جاءت المقاومة واستحضرت قوّتها ووضعتها على الطاولة مستفيدة من لحظة تقاطعت عندها الحاجة اللبنانية الملحّة لما يسهم في منع الانهيار الحتمي والكارثة المحققة اقتصادياً ومالياً واجتماعياً ووطنياً، مع الحاجة الأكثر إلحاحاً لأوروبا والغرب لتأمين بدائل للغاز الروسي على أبواب موسم الشتاء وخشية واشنطن من انهيارات سياسية أوروبية تحت ضغط انفجار الشارع ما لم يتمّ ذلك، ومصلحة حيوية «إسرائيلية» بالاستفادة من هذه الحاجة الأوروبية عبر الدخول كبائع للغاز من البحر المتوسط، خصوصاً في ضوء الكميات المتوقعة من حقل كاريش في بحر عكا، وبناء على هذا التقاطع وضعت المقاومة معادلتها، بأن لا غاز من البحر المتوسط ما لم ينل لبنان مطالبه، فجاءت الوثيقة الأميركية التي قدّمها الوسيط عاموس هوكشتاين أول تراجع عن وثيقة هوف رغم عشر سنوات من المماطلة والعناد والخداع من الجانب الأميركي، مع ما رافقه من حظر على عمل الشركات الدولية منا لعمل في الحقول اللبنانية، ومن سعي لتدمير لبنان اقتصادياً ومالياً وتفجيره اجتماعياً وسياسياً أملاً بفرض التراجع عن الحدّ الأدنى من الحقوق الوطنية لصالح ما رسمته الوثيقة الأميركية لحساب المصالح «الإسرائيلية».
عشر سنوات من العناد الأميركي والضغوط الأميركية قابلتها عشر سنوات من الصمود اللبناني، تخللتها عقوبات أميركية لوزراء يمثلون حلفاء المقاومة، أملاً بفرض التراجع، فكان الردّ مزيداً من الصمود، وتخللتها حملة مبرمجة رافقت الانهيار الاقتصادي والمالي المبرمج أيضاً، للقول هذا ما يُتاح لكم فاقبلوه، كما قالها هوكشتاين نفسه مطلع العام، فكان الردّ مزيداً من الثبات، ولما اقترب موعد الاستخراج من كاريش خرجت المقاومة ووضعت صواريخها على الطاولة، لتقول إنّ الأمر يستحق المخاطرة بحرب، فهل يستحقّ أمركم المخاطرة بحرب، وجاء الجواب بالتراجع الأميركي و«الإسرائيلي»، واليوم سيفحص رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الوثيقة الأميركية مع الخبراء القانونيين والتقنيين كي يكون الإنجاز كاملاً بلا نواقص وثغرات ومحصّناً بلا قطب مخفية وأفخاخ، ثم يلتقي الرئيس عون برئيسي مجلس النواب نبيه بري والحكومة نجيب ميقاتي لبلورة الردّ اللبناني على الوثيقة الأميركية، التي تتحدّث وسائل الإعلام «الإسرائيلية» عن قبول حكومة الكيان بما تضمّنته، بينما يقول رئيس الحكومة السابق للكيان وزعيم المعارضة بنيامين نتنياهو إنّ الوثيقة انتصار للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله.
السيد نصرالله كان قد أطلّ أول أمس وتناول الوثيقة الأميركية معلناً وقوف المقاومة وراء الدولة في التفاوض، كما أعلن مراراً، والتزامها بأن تكون سنداً للدولة وورقة قوة لموقعها التفاوضي دائماً، بانتظار ما سيقوله الرؤساء، بينما قال عن الاستحقاق الرئاسي في ضوء جلسة الانتخاب الأولى إنها أكدت المؤكد لجهة فشل ايّ محاولة لفرض رئيس تحدي كما أكدت الحاجة للتوافق، بينما أعاد تجديد الدعوة لتشكيل حكومة جديدة مشيراً الى التفاؤل بقرب ولادتها.
وأضاف في كلمة له خلال الحفل التكريمي للعلامة الراحل السيد محمد علي الأمين: «إذا وصل ملف ترسيم الحدود البحرية إلى النتيجة الطيبة، فسيكون نتاج الوحدة والتضامن الوطني، وإذا وفّق الله لنتيجة جيدة وطيبة فذلك سيفتح آفاقاً كبيرة وواعدة للشعب اللبناني، فنحن لدينا كنز ولا يمكن انتظار مساعدات من الخارج في ظلّ معاناة كثير من الدول من أوضاع صعبة ومنها الدول الاوروبية».
وقبيل إطلالة السيد نصرالله تسلّم الرؤساء ميشال عون ونبيه بري ونجيب ميقاتي من السفيرة الأميركية في لبنان دوروثي شيا السبت الماضي، رسالة خطية من الوسيط الاميركي عاموس هوكشتاين حول الاقتراحات المتعلقة بترسيم الحدود البحرية الجنوبية. واثر تسلمها، اتصل عون ببري وميقاتي وتشاور معهما في عرض هوكشتاين وفي كيفية المتابعة لإعطاء رد لبناني في أسرع وقت ممكن. وأثناء مغادرتها عين التينة قالت شيا: «الأمور تبدو إيجابية جداً».
وأشارت المعلومات إلى أنّ «مقترح هوكشتاين الذي يقع في عشر صفحات يتضمّن أرقاماً وإحداثيات تقنية تحتاج إلى فريق تقني ومهندسين لشرح مضمونها قبل تقديم الردّ الرسمي اللبناني عليها، وقد أحيلت نسخة منه الى قيادة الجيش لدراسته». كما تردّد أنّ المقترح يتضمن فصلاً تاماً بين الترسيم البحري والبري وإقراراً بعدم انسحاب أيّ نقطة بحرية يتفق عليها على أيّ نقطة برية قد تؤثر على ترسيم الحدود البرية لاحقاً.
وبعد اطلاع الرؤساء على مضمون النص المكتوب باللغة الانكليزية، لفتت مصادر رسمية لـ «البناء» إلى أنّ «الترسيم وضع على السكة الصحيحة وهناك توجه رئاسي للقبول بالاتفاق مع بعض التعديلات الطفيفة التي لا تغيّر بمضمون النص».
وأشارت أوساط فريق المقاومة لـ»البناء» الى أنّ «احتمالات الحرب العسكرية تراجعت بعدما أرسل الوسيط الأميركي نص الاتفاق، بالتوازي مع توجه الكنيست «الإسرائيلي» لتوقيع الاتفاق خلال أيام»، ولفتت الى «أنّ المقاومة حققت أهدافها بمنع العدو من استخراج الغاز من كاريش قبل توقيع الاتفاق والسماح للبنان باستثمار ثروته النفطية والغازية»، مشيرة الى أنّ «توقيع الاتفاق سيفتح آفاقاً كبيرة للبنان على استثمارات ونشاط اقتصادي ودخول مليارات الى البلد لإنعاش الاقتصاد المتهالك منذ سنوات بسبب الحصار الأميركي الخارجي السياسي والاقتصادي والمالية والنقدي والمصرفي والنفطي».
وتوقفت الأوساط عند الارتياح الذي ظهر في طيات إطلالة السيد نصرالله الأخيرة لجهة أنّ المقاومة ورغم كل حملات التشويه والتضليل وصلت الى الأهداف التي وضعتها لحماية البلد وثرواته من دون التوصل الى حرب مع التأكيد على أن التهديد بالحرب هو الذي أخاف العدو ودفعه للتراجع والتنازل والاذعان لحقوق لبنان.
وتشهد بعبدا اليوم سلسلة اجتماعات لدراسة الملف، وفق معلومات «البناء»، إذ تعقد اللجنة التقنية لبحث التفاصيل التقنية والإحداثيات والأرقام التي تضمّنتها رسالة الوسيط الأميركي على أن تضع تقريراً وترفعه الى رئيس الجمهورية، على أن يعقد عند الثالثة بعد الظهر لقاء بين الرؤساء الثلاثة بدعوة من عون لدرس التقرير ووضع الردّ اللبناني لتسليمه الى هوكشتاين. ويضمّ الاجتماع التقني وفق المعلومات نائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب والمدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم، ومستشار برّي علي حمدان.
وعلمت «البناء» أنّ لبنان وفور توقيع الاتفاق سيقوم بالطلب من الشركات الملزمة متابعة التنقيب تمهيداً للاستخراج وتكليف شركة ثالثة مكان شركة نوفاتك التي انسحبت من «الكونسورسيوم النفطي».
وإذ دعا مصدر نيابي عبر «البناء» الى التدقيق والدراسة المعمّقة لمسودة الوسيط الأميركي ليؤكد انتصاره في معركة المواجهة الطويلة مع العدو والتمسك بكلّ تفاصيل الحدود والثروة الغازية والنفطية»، لفت الى «أنّ هذا الإنجاز لم يكن ليتحقق لولا وحدة الموقف الداخلي واستناداً الى عوامل القوة والردع”.
وأوضح الرئيس السابق للوفد اللبناني في المفاوضات الثلاثية في الناقورة، اللواء عبد الرحمن شحيتلي لـ «البناء» أن «نص الرسالة الأميركية عبارة عن ترتيبات مؤقتة تتسم بالاستفادة الاقتصادية من طرفي النزاع اللبناني و»الاسرائيلي»، ووفق اتفاق رابح – رابح، بإزالة الفيتو الخارجي عن استثمار لبنان لثروته النفطية والغازية، مقابل إزالة التهديد الأمني للحقول الغازية لدى الاحتلال، مع تحديد حدود الحقول في كلا الجانبين والخط الذي سيستفيد منه لبنان شمالاً وتستفيد منه «اسرائيل» جنوباً، لكن النص لا يرقى الى اتفاق على حدود بحرية».
ويحذر شحيتلي من وجود أفخاخ في النص كون التجارب التفاوضية التي خضناها مع العدو مليئة بـ الأفخاج التقنية والقانونية. ودعا اللجنة النفطية وخبراء الجيش الذين سيجتمعون اليوم في بعبدا الى التدقيق بأمرين أساسيين:
*مطابقة الإحداثيات في النص الأميركي مع الإحداثيات التي سبق وسلمها لبنان للوسيط الأميركي والتي تثبت كامل حقوقه في الخط 23 وحقل قانا كاملاً وجميع الحقول الواقعة ضمن هذا الخط، والتدقيق بكافة التفاصيل التقنية فور تطبيق الاتفاق.
*التوقيع على نسخة الاتفاق بعد أن يوقع عليها الاسرائيلي والتأكد من أن النسخة هي نفسها التي وقع عليها الطرفان لكي لا يوقع العدو على نسخة ولبنان على نسخة ما يسمح للعدو بالتنصل من الاتفاق.
ويشير شحيتلي الى أنّ تسليم النص المكتوب خطوة هامة جداً وتفتح المجال أمام لبنان لاستثمار ثروته ومعالجة مشكلاته الاقتصادية.
وكان نص اتفاق الترسيم شكل محور مواقف المسؤولين الاسرائيليين الحاليين والسابقين، وكذلك احتلّ الخبر الأول في الصحافة والاعلام الاسرائيليين، وتوزعت المواقف والتحليلات بين الاحتفال لما وصفوه بالإنجاز السياسي والأمني والاقتصادي، وبين معارض له واتهامات للحكومة بالتنازل عن «السيادة الاسرائيلية» والرضوخ لتهديدات حزب الله، في اطار حملة المزايدات والاتهامات وتضارب الحسابات والمصالح الداخلية في كيان الاحتلال.
وإذ أشار رئيس وزراء الاحتلال يائير لابيد إلى أن «عرض هوكشتاين يحافظ على مصالح إسرائيل الأمنية والسياسية والاقتصادية وهو قيد المراجعة والمناقشة»، اتهم رئيس وزراء الاحتلال السابق بنيامين نتانياهو، لابيد بأنه «استسلم بشكل مخجل لتهديدات السيد نصر الله». واعتبر أنه «يفعل ذلك بدون مناقشة في الكنيست وبدون استفتاء»، وأضاف: «إذا مر اتفاق ترسيم الحدود غير القانوني فلن نكون مجبرين به»، ما يعني أن الاتفاق إن وقِع سيكون مهدداً بالفسخ من قبل الحكومة الجديدة إذا ترأسها نتانياهو.
بدوره، نقلت صحيفة معاريف عن رئيس الاستخبارات «الاسرائيلي» السابق عاموس يادلين، أن «نصرالله حصل على كل ما يريد وإسرائيل تخلت عن معايير أكثر من لبنان».
وكان السيد نصرالله قد تطرق في كلمته الى الملفات الداخلية، ولفت الى أنّ «جلسة انتخاب رئيس الجمهورية الماضية أكدت أنّه لا يوجد فريق واحد يمتلك الأغلبية في البرلمان، وأثبتت أنّ من يريد انتخاب رئيس الجمهورية يجب أن يبتعد عن منطق التحدي لصالح التشاور». واعتبر أن «الوقت بدأ يضيق، وما زلت أحمل الأمل، بأن يتم الوصول إلى تشكيل حكومة في الأيام القليلة المقبلة».
وإذ علمت «البناء» بأن المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم لا يزال يبذل الجهود على خط بعبدا – السراي الحكومي بدعم من الثنائي حركة أمل وحزب الله لتذليل العقد، توقعت مصادر مطلعة لـ «البناء» أن تبدأ الشروط والشروط المقابلة والسقوف بالانخفاض، تمهيداً لتسوية حكومية على قاعدة «لا يموت الديب ولا يفنى الغنم».
وتشير أجواء مواكبة للتأليف لـ»البناء» إلى أن «مسار تأليف الحكومة كان يسير بالاتجاه الصحيح بعد توافق الرئيسين عون وميقاتي على تغيير وزيرين أو 4 وزراء وذهب الى الأمم المتحدة بهذا الجو، لكن بعد عودته تفاجأ بتغير الشروط منها استبدال معظم الوزراء المحسوبين على رئيس الجمهورية والتيار الوطني الحر، لا سيما الذين يملكون علاقة تعاون وتنسيق مع رئيس الحكومة كوزيري الشؤون الاجتماعية والخارجية، ما يعني أننا انتقلنا من تبديل وزاري طفيف، الى تغيير وزاري جذري، وهذه مغامرة لن يدخل بها ميقاتي.
وشددت الأجواء على أن ميقاتي لن يرضخ لشروط باسيل التي ستمدّد لعهد الرئيس عون ستة سنوات اضافية من خلال فرض تعيينات في الدولة تشمل قيادة الجيش وحاكمية مصرف لبنان والجامعة اللبنانية وغيرها من الوظائف الأساسية.
وإذ تتهم أوساط التيار الوطني الحر ميقاتي بأنه يماطل بالتأليف حتى ينتهي عهد عون آخر الشهر الحالي، قالت المصادر: «لو كان ميقاتي يريد ذلك لكان شكل الحكومة اليوم وفتح النزاع على البيان الوزاري». وتشير الى أنّ «التغيير يجب أن يقتصر على وزيرين أو 4 فقط، وكل الخيارات مفتوحة على قاعدة الثوابت وليس فرض الشروط».
في المقابل رفضت مصادر التيار الوطني الحر الاتهامات التي تساق بحق باسيل عن أنه يعرقل تأليف الحكومة بشروط يضعها من هنا وهناك، وتؤكد لـ»البناء» أن «باسيل يريد تأليف حكومة وهو كان سباقاً بهذا المطلب والسعي اليه، لكن العرقلة تأتي من طرف رئيس الحكومة بعدما أراد الأخير التدخل بممثلي التيار وحصة رئيس الجمهورية.. فما الذي يتغيّر عند ميقاتي لجهة هوية الوزراء التي سيستبدلهم عون طالما يعود للرئيس ذلك؟ ولماذا لا يتدخل ميقاتي بالوزير الذي سيتبدله الرئيس نبيه بري ويتدخل بحصة رئيس الجمهورية؟ وتشير الى أن «ميقاتي وتحالفه يحاولون تعزيز حضورهم في الحكومة الجديدة واضعاف حضور ريس الجمهورية والتيار الوطني الحر للاستئثار بالحكم واتخاذ القرارات الهامة في فترة الشغور الرئاسي»، وأكدت بأن «عون لن يوقع على حكومة لا تراعي التمثيل السياسي والطائفي الحقيقي والعادل».