سلّمت السفيرة الأميركية دوروثي شيا مسوّدة ترسيم الحدود البحرية الجنوبية إلى كل من رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس المجلس النيابي نبيه برّي ورئيس الحكومة المكلف نجيب ميقاتي. هذه المسودة التي أعدّها الوسيط الأميركي في المفاوضات عاموس هوكشتاين تحوي على عشر صفحات من البنود العامة والتقنية على مثال فصل الترسيم البحري عن البرّي، وأغلب الظن أنها أخذت الموافقة «الإسرائيلية» قبل إرسالها إلى المسؤولين اللبنانيين.
الشق التقني يتطلّب دراسة سيقوم بها خبراء الجيش اللبناني – المتقدّمون عمليًا وعلميًا في هذا المجال – على أن تُسلّم نتائج هذه الدراسة إلى الرؤساء الثلاثة قبل اجتماعهم اليوم في قصر بعبدا لتحضير الردّ اللبناني الموحد على هذا العرض المقدّم من قبل هوكشتاين.
الضغوط الاقتصادية والمعيشية الكبيرة وتعويل قسم من المسؤولين على هذه الثروة للخروج من الأزمة، تدفع باتجاه القول إن الرؤساء الثلاثة سيوافقون على هذه الاقتراحات من دون اعتراضات كبيرة. وبالتالي يمكن القول إنها مسألة أيام أو أسابيع قبل الموافقة على ترسيم الحدود، الذي وبحسب مصادر متابعة، ان هذا الترسيم سيأخذ طابعا رسميا من خلال إرسال لبنان و»إسرائيل» رسائل رسمية إلى الأمم المتحدة بالموافقة على المقترحات الأميركية حول الترسيم، من دون أن يكون هناك توقيع لأي اتفاقية أو معاهدة مشتركة.
وبغض النظر عن التفاصيل التقنية الموجودة في مسودة الاتفاق، يجب معرفة أن الكميات الغازية الموجودة في هذه المناطق كبيرة جدا، بحسب مسح الـ USGS الذي قامت به في العام 2010 (بالطبع العبرة في التنقيب). هذا الأمر يترافق مع عمق كبير للبحر في هذه المنطقة، والحاجة إلى وقت لتأهيل مكامن الغاز الموجودة تحت البحر على أعماق مختلفة، وهو ما يعني أن هذه العملية ستأخذ وقتًا لن يكون أقلّ من خمس سنوات، إذا تمّ إلزام الشركات بدء التنقيب عن الغاز في المنطقة
الاقتصادية الخالصة التابعة للبنان فور توقيع الاتفاق.
الشروط السياسية التي قد ترافق توقيع الاتفاق هي خارج إطار هذا المقال، إلا أن ما يجب القيام به من قبل المسؤولين اللبنانيين هو مصارحة الشعب بكل الاتفاقات الجانبية التي قد ترافق الاتفاق على ترسيم الحدود البحرية من باب الشفافية تجاه الشعب وخوفًا من حكم التاريخ!
الإصلاحات الاقتصادية
أسواق الغاز اللبناني في حال استخراجه هي الأسواق الأوروبية، بالإضافة إلى السوق المحلّي. وهذا الأمر يُعيدنا إلى الإصلاحات الاقتصادية الواجب القيام بها لجعل الاقتصاد اللبناني قادرًا على مواكبة حقبة استخراج الغاز. فعملية الاستخراج هذه تتطلّب بنى تحتية قادرة على تلبية الطلب المتزايد من طرقات وكهرباء واتصالات وغيرها، ولكن أيضًا تتطلّب تحضير القطاعات الاقتصادية للاستفادة من الصناعات التي عادة ما تواكب استخراج النفط والغاز مثل الصناعات البتروكيماوية وغيرها.
إذًا الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة كثيرة، وهي تأتي في شق كبير منها بالتوازي مع الإصلاحات المالية والنقدية والإدارية. والأهم يبقى بدون أدنى شكّ خطّة التعافي التي قامت بها الحكومة من خلال تحضير مشروع قانون من واحد وعشرين مادة مقسّمة على أربعة أقسام تهدف إلى «إعادة التوازن للنظام المالي»:
إعادة رسملة مصرف لبنان: وتشمل تدقيقا محاسبيا في حسابات مصرف لبنان بهدف تحديد الفجوة المالية الناتجة من إنفاق الدولة اللبنانية، وإعادة رسملة المصرف المركزي بمليارين ونصف المليار دولار أميركي، واستعادة الأموال الناتجة من جرائم الفساد، وإطفاء العجز في رأسمال مصرف لبنان بالعملة اللبنانية بشكلٍ تدريجي، وإلغاء الأعباء المؤجّلة الناتجة من تطبيق مبدأ «سك النقود» وشطب سائر الخسائر المؤجّلة…
معالجة الواقع الحالي للودائع المصرفية: وتشمل إعادة هيكلة المصارف، وتصنيف الودائع، وآلية رد الودائع، وحسم فائض الفوائد المستحقّة التي تمّ دفعها منذ سنة 2015، وإصدار أدوات رأسمالية أو تملّك أوراق مالية، وتحويل الودائع «غير المؤهلة» إلى الليرة اللبنانية، وإقرار قانون الكابيتال كونترول، وتصفية المصارف غير القادرة على الاستمرار…
إنشاء «صندوق استرجاع الودائع»: ويهدف إلى المساهمة في سد الودائع «المؤهّلة»، وتحديد آلية عمل «الصندوق»، وكيفية تمويله، وإصدار سندات أو أوراق مالية لمصلحة المودعين…
أحكام مختلفة قانونية وتشمل إلزامية تعديل مبلغ الضمانة للودائع، وإلزامية وضع مرسوم تطبيق للقانون، وتصنيف القانون على أنه «إستثنائي»، وإلغاء كل النصوص المخالفة على أن يكون العمل به فور نشره في الجريدة الرسمية.
النصّ المسرّب يدل على الطابع الإلزامي للقيام بإصلاحات موازية على الصعيد الاقتصادي (مثل القطاع العام، والكهرباء وغيرهما)، وإذا كان النص يفتقر إلى الطابع الإلزامي الزمني، إلا أن هذا يمكن تفسيره على أنه مشروط بعملية توافق سياسي على القيام بالإصلاحات. أيضًا يمكن ملاحظة أن كل بند تقريبًا في هذا القانون هو موضوع مشروع قانون أو مرسوم، وبالتالي فإن العمل التشريعي والتنظيمي سيأخذ حيزًا كبيرًا في المرحلة المقبلة إذا ما سارت الأمور كما يجب. ولا يجب نسيان ان هذا المشروع يبقى عرضة لانتقادات حادة في ما يخص الملكية الخاصة.
ضغط صندوق النقد الدولي
عمليًا خفض سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار من ألف وخمسمائة ليرة إلى خمسة عشر ألف ليرة لبنانية يعكس ضغط صندوق النقد الدولي الذي يعتبر أنه يجب على الحكومة تحرير سعر صرف الليرة بالكامل من دون أي تدخل من قبل المصرف المركزي. وهو ما يعني اعترافا رسميا بالخسائر الحاصلة وتثبيتها عند رقم يكشفه التدقيق المحاسبي في حسابات مصرف لبنان والمصارف. هذا الأمر لم تستطع الحكومة القيام به في الماضي، قبل أن تُتاح لها الفرصة خصوصًا مع المزايدة التي قام بها بعض النواب في ما يخص القطاع العام وهو ما أظهر عجزًا كبيرًا لم يكن بالإمكان تغطية قسم منه (دفتريًا) إلا من خلال رفع سعر الصرف في العمليات التي تتناول إيرادات الدولة وخصوصًا الدولار الجمركي ودولار الضريبة على القيمة المضافة والضرائب والرسوم الواردة في الموازنة.
سعر الـ 15 ألف ليرة أتى كحل وسطي بين متطلبات صندوق النقد الدولي بتحرير كامل لسعر صرف الليرة وبين الضغوط السياسية التي كانت تطالب بدولار جمركي لا يتعدّى الـ 12 ألف ليرة. ولولا الأجور التي أصبحت كلفتها الشهرية 3 تريليون ليرة لبنانية، لما قبل النواب الذين صوّتوا على الموازنة بالتصويت لمصلحتها.
التداعيات لتعديل سعر صرف العملة الرسمي كثيرة، ولهذا السبب وتفاديًا لأي مفاجآت، قررت وزارة المال ومن خلفها الحكومة تطبيق هذا الرفع على مرحلتين: الأولى تبدأ مع بداية شهر تشرين الثاني حيث تصبح كل إيرادات الدولة الاتية بالدولار محتسبة على سعر الخمسة عشر ألف ليرة لبنانية. وفي خلال هذه المرحلة، لن يكون هناك تعديل في دولار المصارف والقروض وغيرها، على أن تبدأ المرحلة الثانية بالتزامن مع بدء تنفيذ خطة الحكومة الإنقاذية (أي بعد التوقيع مع صندوق النقد الدولي؟!) ويبدأ فيها مصرف لبنان برفع السعر تدريجيًا. بذلك يصبح امتصاص التداعيات من قبل السلطات المالية والنقدية والاقتصاد أسهل.
يبقى القول إن رفع السعر هذا سيتبعه حكمًا رفع لسعر الصرف الرسمي تدريجيًا حتى يتمّ تحرير بالكامل الذي قد يكون في فترة لا تتخطّى الأشهر إذا ما تسارعت الأمور بالشكل الإيجابي أو «السلبي الحاد».
وهنا تظهر صعوبة التكهن بما قد تؤول إليه الأمور في المرحلة المقبلة حيث إن المشهد السياسي يوحي بإيجابية من ناحية تشكيل الحكومة وسلبية من ناحية انتخاب رئيس جديد للجمهورية. السيناريو التشاؤمي قد ينشأ من باب عدم إتمام الاستحقاقين في آن واحد، وهو ما سينعكس حكمًا على كل الشؤون والملفات الاقتصادية والمالية والنقدية والمعيشية والاجتماعية.
الوضع المعيشي المتردي
التحاليل تشير إلى أن ميقاتي يدفع باتجاه توقيع اتفاق مع صندوق النقد الدولي وهو ما تُثبته مشاريع قوانين الكابيتال كونترول، والموازنة، واستعادة الانتظام المالي، وإعادة هيكلة القطاع المصرفي التي إن دلّت على شيء تدلّ على رغبة في توقيع الاتفاق مع صندوق النقد الدولي.
هل سيتمكّن ميقاتي من توقيع الاتفاق مع صندوق النقد الدولي؟ الجواب ليس بسهل، خصوصًا أن هناك عاملًا قاهرًا وهو الوضع المعيـــشي الذي يتردّى بشكل مستمر في ظل غموض سياسي يخيّم على المرحلة المـــقبلة. وما قوارب الموت التي تحمل مواطــنين يبحــثون عن لقمة العيش في بقاع أخرى، إلا دليل على مدى التردّي الاقتصادي الذي وصل اليه المواطن اللبــناني بعد مرور ثلاثة أعوام على بدء ثالث أكبر أزمة اقتصادية في تاريخ البشرية منذ مئة وخمسين عامًا.
بالطبع الأيام والأسابيع المقبلة ستُظهر ترجمة الواقع السياسي الموجود أمام ثلاثة سيناريوهات:
1- لا تشكيل حكومة ولا انتخاب رئيس جمهورية.
2- لا انتخاب رئيس جمهورية وهناك تشكيل حكومة.
3- تشكيل حكومة وانتخاب رئيس جمهورية.
وبغضّ النظر عن السيناريو الذي سيتحقّق، هناك حقيقة مرّة هي عمق الفقر الذي بدأ يزداد شيئًا فشيئًا، حيث انه وبعد أن سجّل لبنان رقمًا تاريخيًا من ناحية الفقر المدقع مع أكثر من 40% من الشعب اللبناني وبدء سقوط الطبقة الفقيرة في هذا الفقر المدقع، أصبح واضحًا أن عمق الفقر وتجذّره سيُصعّب على الحكومة العتيدة أو الحكومات المستقبلية أي عملية نهوض وإنماء في المجتمع اللبناني. وحتى لو أن لبنان بدأ باستخراج الغاز وحصد المداخيل، هناك مشكلة جوهرية تتعلق بدينامية التفاعل بين المجال الاقتصادي والإنمائي التي ستجعل من الصعوبة على شعوب عاشت الفقر سنوات طويلة النهوض بسهولة.