واقعياً لم تنقص حظوظ اتفاق الترسيم الحدودي البحري بين لبنان وإسرائيل ولم ترتفع خلال الساعات الأخيرة، بل بقيت متساوية على سكة “تدوير الزوايا” بمعيّة الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين، لكن ما حصل عملياً هو أنّ إبرام الاتفاق بالتوقيت الذي أرادته السلطة الحاكمة في لبنان تعرّض إلى “انتكاسة” موضعية حتّمت على الأرجح ترحيله إلى ما بعد الانتخابات التشريعية الإسرائيلية، بعدما نجح بنيامين نتنياهو في فرملة اندفاعة يائير لابيد والوقوف بالمرصاد لتوقيع اتفاقية الترسيم البحري تحت ضغط “حزب الله”، متباهياً أمس بالقول: “الضغط الشديد الذي مارستُه أنا وأصدقائي جعل لابيد ينسحب من اتفاقية الاستسلام مع لبنان في الوقت الحالي“.
وإذ تبدو عبارة “انسحاب” مبالغ بها من قبل نتنياهو لزوم مفردات معركته الانتخابية، تذرّع لابيد بورقة “الملاحظات اللبنانية” التي تسلّمها من هوكشتاين لتبرير تراجعه خطوة إلى الوراء على طريق إنجاز اتفاقية الترسيم في الوقت الراهن، مؤكداً أنّ حكومته ليست في وارد “التنازل عن مصالح إسرائيل الأمنية والاقتصادية حتى ولو كان ذلك يعني أنه لن يكون هناك اتفاق قريباً” مع لبنان. وبالتوازي مع تجديد لابيد العزم على “استخراج الغاز من كاريش في أقرب وقت ممكن” بمعزل عن إبرام اتفاق الترسيم من عدمه، تولى وزير دفاعه بني غانتس إطلاق التهديدات العسكرية متوعداً لبنان بأن يدفع “ثمناً باهظاً في حال استهدف “حزب الله” البنية التحتية الإسرائيلية”، وأعطى على هذا الأساس توجيهاته إلى قيادة الجيش الإسرائيلي بالاستعداد “لتصعيد محتمل على الحدود الشمالية” مع الجنوب اللبناني.
أما في بيروت، وبُعيد إطلاق تل أبيب العنان للتسريبات الإعلامية حول رفض “تعديلات لبنان المقترحة على مشروع الترسيم البحري”، جاء ردّ السلطة اللبنانية متحفظاً “يتكمّش” بالاتفاق المبرم عبر الوسيط الأميركي كما بدا من تصريح نائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب الذي رفض تصديق “التقارير الإعلامية الإسرائيلية” أو التعليق عليها، واكتفى بالإشارة إلى أنه على اتصال مع هوكشتاين “كل ساعة” لحلّ المشكلات العالقة في الاتفاق، مشدداً على “إنجاز 90% لكن نسبة 10% المتبقية هي الحاسمة”. بينما نقلت “رويترز” عن مسؤول لبناني قوله: “نريد أن نعرف ما إذا كان الرفض الإسرائيلي نهائياً أو قابلاً للتفاوض”، وذلك بموازاة إعلان مصدر في رئاسة الجمهورية اللبنانية لقناة “الحدث” أنّ الوسيط الأميركي أكد أنّ “الإسرائيليين رفضوا بعض الملاحظات ولم يرفضوا الاتفاق“.
وعلى المستوى الرسمي الأميركي، أكد المتحدث باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض أنّ واشنطن ستبقى على “اتصال وثيق مع الإسرائيليين واللبنانيين” وقال: “نحن في مرحلة حرجة في المفاوضات والوسيط الرئاسي الخاص يواصل مشاركته المكثفة لإنهاء المناقشات حول تحديد الحدود البحرية بين البلدين”. كما جددت وزارة الخارجية الأميركية مساءً التزام الولايات المتحدة “بالتوصل إلى حل في المفاوضات بين لبنان وإسرائيل”، مؤكدةً وجود “إمكانية لتسوية دائمة“.
في الغضون، تتواصل حالة التدحرج اللبناني على منحدرات الانهيار السياسي والمؤسساتي والمالي، ليبرز قبيل منتصف الليلة الماضية تسريب قرار جمعية المصارف إقفال أبواب كافة فروعها اليوم “على امتداد الوطن والاكتفاء بخدمة الصراف الآلي للأفراد وخدمة الزبائن للشركات”، وذلك في خطوة يراد منها بشكل واضح “معاقبة المودعين” رداً على توالي عمليات اقتحام البنوك لتحرير الودائع بالقوة، والتي كان آخرها أمس استحصال المودع يحيى بدر الدين بعد اعتصامه قرابة 11 ساعة في فرع بنك “ميد” في النبطية على مبلغ 11 ألف دولار أميركي و750 مليون ليرة من أصل وديعته، سلّمه إلى نجله قبل أن يسلّم نفسه إلى فصيلة قوى الأمن الداخلي في المنطقة.
أما في الملفين الرئاسي والحكومي، وإذ حرص رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي على “تبييض” صفحته الحكومية صباحاً في بكركي شارحاً للبطريرك الماروني بشارة الراعي مستجدات الأمور على مستوى التأليف مع تشديده على أهمية “انتخاب رئيس جديد للجمهورية في هذا الظرف”، تولّى رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل عصراً عملية قصف جبهتي الاستحقاقين الرئاسي والحكومي بإطلالته المتلفزة، فجدد التشديد على كون حكومة تصريف الأعمال برئاسة ميقاتي لا يمكنها تسلّم صلاحيات رئيس الجمهورية ملوّحاً في المقابل بـ”الفراغ الملّيق” في حال عدم تشكيل الحكومة لأنّ المؤشرات التي لديه تشي بأنّ هناك “مشكلة في انتخاب رئيس جديد للجمهورية وإذا دخلنا في الفراغ نخشى من استدامته“.
وحيال الاستحقاق الرئاسي، عرض باسيل ورقة “الأولويات الرئاسية” التي ينبغي على أي مرشح التقيّد والالتزام بها بغية نيل دعم “التيار الوطني”، ساعياً بشكل غير مباشر إلى “توريط” بكركي بمخطّطه الرئاسي من خلال إبداء نيته زيارة البطريرك الراعي لتسليمه هذه الورقة ودعوته إلى رعاية “أي جهد ممكن للقيام بالتواصل الإفرادي أو أي نوع من اللقاءات لمحاولة توحيد الكلمة والصف” الماروني في مقاربة الاستحقاق الرئاسي، مع دعوته في الوقت نفسه إلى “عقد حوار حول انتخاب الرئيس الجديد برعاية أي مرجعية وعلى رأسها رئيس الجمهورية” الذي شارفت ولايته على الانتهاء ميشال عون.