ليس في أفق الاستحقاقات الداخلية ما يؤشر إلى إمكان إخراجها من «مغارة التعقيدات» العالقة فيها، وتبعاً للوقائع الصدامية والانقسامية المحيطة بهذه الاستحقاقات، فإنّ العثور على مفاتيحها دونه صعوبات، لا بل استحالات. بالتوازي مع الانسداد الكلي في أفق الأزمة الكبرى التي ذهبت بالمال والاقتصاد، وأقفلت في وجه المواطن اللبناني كل السبل الحياتية والمعيشية، التي تمنّ عليه ولو بالحدّ الأدنى واليسير من العيش الكريم.
أمام هذا الواقع المسدود بالكامل، وعمداً، تنتقل الانظار تلقائياً إلى المقلب الآخر، رصداً للمفاجآت الكامنة خلف تلك المغارة، وما قد تخفيه من احتمالات. فيما مكونات الانقسام الداخلي على اختلافها في اعلى درجات التهائها في قشور مصالحها الذاتية وحساباتها السياسية والحزبية وفي اللعب بمصير البلد، وتصبّ بانقساماتها وعداواتها وارتهاناتها، الزيت على نار الأزمة، وتدفع بها نزولاً إلى منحدرات ومنزلقات سياسية وغير سياسية، تدفّع المواطن اللبناني ثمنها الباهظ في شتى مجالات حياته، وحتّى بمصيره المهدّد بالاندثار.
الفراغان .. حتماً
المشهد الداخلي، على مسافة 20 يوماً من انتهاء ولاية رئيس الجمهورية ميشال عون، محكوم بتضييع متعمّد للوقت، والنتيجة الحتمية لذلك هي سقوط البلد كلياً في الفراغين الرئاسي والحكومي اعتباراً من اول تشرين الثاني المقبل.
فأفق الاستحقاق الرئاسي مسدود بانقسامات. وعلى ما يقول مرجع سياسي مسؤول لـ»الجمهورية»، فإنّ أي كلام عن امكان تحقيق انفراج او خرق على خط هذا الاستحقاق هو نوع من التخريف السياسي. وحتى ولو عقد المجلس النيابي جلسات يومية متتالية لانتخاب رئيس جديد، من الآن وحتى آخر يوم من ولاية الرئيس عون، فلن تأتي سوى بالفشل، وهذا هو مآل جلسة الخميس المقبل إن انعقدت في 13 تشرين. ذلك انّ ثمة قراراً واضحاً ونهائياً ومريباً ايضاً لدى بعض المكونات بعدم بلوغ توافق داخلي على الرئيس الجديد، وبالتالي إحداث الفراغ في سدّة الرئاسة الاولى.
وفيما يبدو انّ القرار بعدم التوافق له بُعد داخلي مرتبط بالخريطة السياسية الداخلية وانقساماتها وأجنداتها وبـ «لا ثقة» القوى والمكونات السياسية والنيابية ببعضها بالبعض، الّا انّ مصادر سياسية موثوقة تؤكّد لـ»الجمهورية»، انّ «لهذا القرار بُعده الخارجي، رصداً لوجهة الرياح الخارجية من هذا الاستحقاق، التي لم تسلك اي اتجاه بعد، وعلى وجه الخصوص الموقف الاميركي من هذا الاستحقاق».
وعلى الرغم من الدعوات الخارجية التي تتوالى سواء بشكل مباشر او عبر القنوات الديبلوماسية سواء من باريس او واشنطن او الاتحاد الاوروبي، وآخرها من مجموعة الدعم الدولية الخاصة بلبنان، وتستعجل توافق اللبنانيين على انتخاب رئيس جديد للجمهورية، فإنّ المصادر المسؤولة تصنّفها مواقف تقليدية لا تتمتع بصفة الجدّية والإلزام، حيث لا وجود حتى الآن لأي حراك دولي جدّي ضاغط في اتجاه هذا التوافق وإتمام الاستحقاق الرئاسي في لبنان. وهذا اللاحراك، قد يكون حاكماً لمواقف بعض القوى الداخلية، التي يبدو انّها تنتظر جلاء الصورة الخارجية لتبني على أساسها قرارها النّهائي ووجهة تصويتها لمرشح معيّن، سواء من داخل نادي الاسماء المتداولة كمرشحين مفترضين لرئاسة الجمهورية او من خارجه.
لبنان ليس أولوية
وخلافاً للمقولة التي يروّجها بعض الداخل بأنّ الملف اللبناني واستحقاقاته يشكّل اولوية للمجتمع الدولي، فإنّ التقارير الديبلوماسية التي ترد من البعثات في الخارج إلى كبار المسؤولين، معطوفة على قراءات سياسية من اتجاهات مختلفة، تتقاطع عند حقيقة انّ لبنان تاريخياً حظي لسنوات طويلة بموقع الأهمية لدى اصدقائه الخارجيين، الّا انّه في الظروف التي استُجدت فيه خلال السنوات الاخيرة، وكذلك الظروف الدولية القائمة حالياً، بات لا موقع له في اولويات الدول الكبرى، ما خلا بعض الجهود الصديقة التي تبذلها باريس بين وقت وآخر، لتحقيق انفراجات في لبنان، سواء ما يتصل بالأزمة الاقتصادية والمالية، او ما يتصل بالاستحقاقات السياسية، ولكن من دون ان تصل الى نتائج مجدية للبنانيين، ومرضية للإدارة الفرنسية.
وبحسب تلك التقارير، التي عرض مسؤول رسمي رفيع لـ»الجمهورية» خلاصة منها، فإنّه لا شيء يؤشر إلى صعود لبنان إلى خانة الاولوية لدى الدول الكبرى في المدى المنظور، هذا إن سلك هذا المسار اصلاً. فالحدث الاوكراني وتداعياته وكيفية احتوائها وعدم تمدّدها إلى ما هو اخطر من الوضع القائم، هي الشاغل لتلك الدول، وباعث القلق على مجمل الكرة الارضية من انزلاقه إلى مهاوٍ تهدّد خريطة العالم.
وبناءً على تلك التقارير، أبلغ المسؤول الرسمي الى «الجمهورية» قوله: «وضعنا في هاوية مالية واقتصادية، ويعاني من اختلالات لا حصر لها، تفاقمها انقساماتنا الداخلية، إن كنا ننتظر ان تنفرج الأزمة هكذا وحدها، فهذا يعني اننا نرتكب جريمة بحق انفسنا، وبلدنا، وإن كان البعض ينتظر الخارج ليحدّد وجهة الاستحقاقات فهذه ايضاً جريمة. وتبعاً لذلك، فإنّ الف باء العلاج لأزماتنا والخروج منها يبدأ وينتهي عند اتمام كل استحقاقاتنا بالتوافق الداخلي الذي لا مفرّ منه حكومياً ورئاسياً».
الحكومة: نكد واستفزاز
اما المشهد الحكومي، فخلاصته مراوحة في مربّع النكد والاستفزاز وتوليد الشروط المانعة تأليف حكومة جديدة وكابحة لأي محاولة جدّية في هذا الاتجاه، على الرغم من ضيق الوقت واقتراب ولاية الرئيس عون من نهايتها.
وعلى رغم الانسداد الذي يبدو حاكماً لهذا الملف وأخرجه من دائرة التفاؤل الذي ساده في الايام الاخيرة، فإنّ بعض الاوساط السياسية، وكذلك بعض الوسطاء العاملين على خط تدوير الزوايا الحكومية، يحاذرون إبداء تشاؤم حيال إمكان تأليف حكومة خلال فترة العشرين يوماً الفاصلة عن انتها ولاية عون، حيث انّهم لم يخرجوا من حسبانهم إمكان حدوث مفاجآت تحمل معها ولادة الحكومة في وقت قريب.
وسألت «الجمهورية» احد الوسطاء الحاضرين بزخم على خط الملف الحكومي عن ماهية تلك المفاجآت، فقال ما حرفيته: «ليس في يدينا شيء ملموس، فحركة الاتصالات مستمرة، وهناك جهود جدّية تُبذل، وعندما نتحدث عن مفاجآت نعني بذلك اننا نتمنى ان يتجاوب الاطراف مع هذه الجهود ويفاجئوا اللبنانيين بالاتفاق على حكومة».
اتهامات متبادلة
وكما هو واضح، فإنّ تأليف الحكومة، تتجاذبه اتهامات متبادلة بتعطيله. ففريق رئيس الجمهورية، وتحديداً رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل، يلقي بمسؤولية التعطيل على الرئيس المكلّف، ويتهمه بأنّه يريد حكومة طيّعة في يده ويتحكّم بها، ويفرض مشيئته في تغيير وزراء وتعيين وزراء، مصادراً بذلك تمثيل قوى سياسية اساسية، ومتجاوزاً رئيس الجمهورية. واما فريق الرئيس المكلّف فيتهم باسيل بافتعال عقد متتالية، بدعم واضح من رئيس الجمهورية، لافتاً إلى انّ ابرز العِقَد هي مطالبة باسيل بتغيير 5 وزراء يزعم انّ «ميقاتي بلعهم»، اضافة إلى الإصرار الملتبس على تمرير مرسوم تجنيس كانت فاحت «رائحة التحضير له» قبل فترة، الامر الذي رفضه رئيس الحكومة بشدة. ويعتبر هذا الفريق انّ الامور من شأنها ان تسير في اتجاه الانفراج إذا ما توقف رئيس «التيار» عن العرقلة، واللعب على الاوتار الطائفية والتجييش الطائفي الذي لا مكان له في أحكام الدستور والصلاحيات.
يُشار في هذا السياق، الى انّ الرئيس ميقاتي، وفي لقائه الاخير مع البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، وضع البطريرك في صورة الجهود التي يقوم بها لإتمام الملف الحكومي منذ تقديمه تشكيلته الحكومية الى الرئيس عون. كما وضعه في اجواء العراقيل التي تواجه مهمته.
عون: الرئيس اولًا
وفي ما بدا انّه موقف لافت للانتباه من تشكيل الحكومة، أبلغ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون إلى الامين العام المساعد لجامعة الدول العربية السفير حسام زكي الذي التقاه في قصر بعبدا، امس، أنّ «الأولوية المطلقة يجب أن تكون راهناً لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، لأنّ وجود الرئيس اساسي لتأليف حكومة جديدة لا العكس». وقال: «انّ بلداً مثل لبنان بخصوصيته وتميزه وتعدديته لا يمكن ان تتحقق فيه الشراكة الوطنية والميثاقية في غياب رئيس للجمهورية، ما يمكن ان يعرّضه لأوضاع تؤثر على وحدته وتضامن أبنائه».
بدوره، أكّد زكي أنّ «الجامعة العربية تساند وتؤيّد حقوق لبنان في أراضيه ومياهه وتقف إلى جانبه، وهي حاضرة لكل ما يطلبه منها في كل استحقاقاته، ولكن الحديث عن مبادرة عربية قد يكون مبكراً».
ترسيم .. لا ترسيم؟!
على صعيد الاستحقاق البحري، فإنّ الكثير من علامات الاستفهام تشوب ملف ترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل، بعد تراجع منسوب التفاؤل حيال قرب توقيع اتفاق بين الجانبين، جراء ما أُعلن عن رفض اسرائيل للملاحظات التي ابداها لبنان على الطرح الاميركي، اضافة الى تعمّد اسرائيل دفع الامور الى التصعيد، عبر اعلان وزير الدفاع الاسرائيلي عن تعليمات أُعطيت للجيش الاسرائيلي بالاستعداد لتصعيد أمني على حدود لبنان.
وفيما أدرجت الاوساط السياسية اللبنانية الرفض الاسرائيلي في سياق ازمة داخلية تسود اسرائيل عشية الانتخابات النيابية فيها، وهو امر لا يعني لبنان، على ما اكّد رئيس مجلس مجلس النواب نبيه بري، فإنّ لبنان الرسمي ينتظر ان يتلقّى حرفية الموقف الاسرائيلي عبر الوسيط الاميركي آموس هوكشتاين ليُبنى على الشيء مقتضاه. وأُفيد في هذا السياق، بأنّ هوكشتاين سيسلّم نائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب الملاحظات الاسرائيلية الخطية على اقتراحه التي سبق وارسله إلى بيروت، ما يؤكّد أنّ التفاوض بين الجانبين اللبناني والاسرائيلي مستمر، وانتقل من مرحلة المفاوضات السياسية الى مرحلة درس المفردات القانونية والتقنية في اجواء هادئة بعيدة من التشنج.
التسوية ممكنة
وقد حرصت الادارة الاميركية على نفي ان يكون ملف الترسيم والتقدّم الذي ساده قد سقط، الّا انّها تقرّ انّه دخل في منطقة حرجة والمفاوضات مستمرة مع الجانبين. وقال المتحدث الاقليمي باسم الخارجية الاميركية، انّ الفجوة تقلّصت في ملف الترسيم، ونحن على اتصال وثيق مع الجانبين اللبناني والاسرائيلي، نحن في مرحلة حرجة في هذه المفاوضات، لكن الفجوة في اختلاف الآراء قد تقلّصت بالتأكيد، وما زلنا ملتزمين بالتوصل الى اتفاق حول هذا الملف. واعتقد انّ التسوية الدائمة يمكن الوصول اليها.
اسرائيل: تصعيد
إلى ذلك، بقيت الصورة في اسرائيل متأرجحة حيال هذا الملف، بين التصعيد وتصويره وكأنّه بات مترنحاً وآيلاً للسقوط، وبين الحديث من جهة ثانية عن انّ رفض الملاحظات اللبنانية لا يعني رفض الاتفاق. ولفت في هذا السياق ما ذكرته صحيفة «إسرائيل اليوم»، بأنّ «السلطات الاسرائيلية تستعد لإجراء اختبار على ضخ الغاز من كاريش قريباً جداً وربما بداية الأسبوع المقبل»، فيما اشارت «القناة 12» الإسرائيلية، أنّ «إحتمالية التصعيد في الشمال الإسرائيلي زادت بسبب الخلافات في المفاوضات مع لبنان بشأن ترسيم الحدود البحرية بينهما»، موضحةً أنّ «المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر للشؤون الأمنية والعسكرية «الكابينت» قد أوعز لوزير الدفاع بيني غانتس بإدارة الصراع مع لبنان أو «حزب الله» على خلفية الخلافات الأخيرة بين الجانبين اللبناني والإسرائيلي بشأن ترسيم الحدود».
ولفتت القناة، إلى أنّ «السلطات الإسرائيلية أبلغت الوسيط الأميركي الخاص بمفاوضات ترسيم الحدود مع لبنان، آموس هوكشتاين، بأنّها لن تقدّم أي تنازلات أخرى حيال تلك المفاوضات، وأنّ الجيش الإسرائيلي يستعد لأي تصعيد مع «حزب الله» اللبناني».
وذكرت القناة انّ وزراء إسرائيل تلقّوا خلال اجتماعهم في مجلس «الكابينت» الخميس، تفصيلًا عن آخر تفاصيل المفاوضات الجارية مع لبنان عبر الوسيط هوكشتاين، وفور إطلاعهم على تلك التفاصيل، فوّضوا بيني غانتس بإدارة الصراع مع «حزب الله»، حتى من دون الرجوع لهم.
وكانت وزيرة الداخلية الاسرائيلية أيليت شاكيد، قد قالت إنّ تل أبيب لن تستسلم لأي تهديد من «حزب الله» بشأن اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين البلدين، وأكّدت أنّه يجب على بلادها استغلال الغاز من حقل كاريش للغاز، وأن يبقى تحت السيطرة الإسرائيلية.
بدوره، وفي موقف فسّره الاعلام الاسرائيلي على انّه خارج سياق التصعيد، اشار مدير عام وزارة الطاقة الإسرائيلية، إلى أنّ «تقديرات وزارة الطاقة وشركة «توتال» الفرنسية، هي أنّ إجمالي الربح المحتمل من خزان الغاز الواقع في منطقة الخلاف مع لبنان يقدّر بحوالى 3 مليارات دولار، والمفترض أن تحصل تل أبيب على نسبة 17% فقط»، بحسب ما نقل موقع «والا» الاسرائيلي عن اربعة مسؤولين اسرائيليين حضروا الاجتماع السياسي.
وأوضح الموقع الاسرائيلي، أنّ أرباح هذا الموقع أو خزان الغاز الطبيعي في البحر المتوسط ستُقسّم أرباحه بين شركة «توتال» الفرنسية ولبنان وإسرائيل، وأنّه سبق وقدّرت أرباحه بما يزيد عن 20 مليار دولار في السابق.
الحزب
إلى ذلك، وفي ردّ لـ»حزب الله» على إعلان اسرائيل رفض الملاحظات اللبنانية والتهديد بالاستخراج من «كاريش» وإن أدّى إلى حرب، وإعلان الاستنفار على الحدود الشمالية، قال عضو شورى «حزب الله» الشيخ محمد يزبك: «ردّنا واضح، لا استخراج قبل تحقيق مطالب لبنان، لا نريد حرباً، ولكن إذا فُرضت فإننا أهلها».