عل المفارقة اللافتة، بل والغريبة، التي سيعاينها اللبنانيون اليوم “حسيا” تتمثل في ان “اتفاقا” كامل المواصفات بين لبنان وإسرائيل امكن التوصل اليه وسيجري ابرامه في وقت وشيك، فيما يتعذر على قواه السياسية وكتله النيابية الى حد الاستحالة، “التفاهم” على تحويل الأيام المتبقية من المهلة الدستورية الى فرصة حاسمة لجلسات نيابية يومية وترك اللعبة الديموقراطية تأخذ كامل مجراها لانتخاب الرئيس الرابع عشر للجمهورية اللبنانية والحؤول تاليا دون جعل الشغور الرئاسي “قدرا جديدا” من صنع الطبقة السياسية.
اذ انه حتى الجلسة الثانية لانتخاب رئيس الجمهورية المقررة اليوم تواجه احتمال عدم الانعقاد لان نصاب الثلثين لانعقادها ليس مضمونا بفعل الخلاف الذي تفجر مجددا بين “التيار الوطني الحر” ورئيس مجلس النواب نبيه بري لاصرار الأخير على تحديد موعد الجلسة اليوم متزامنا مع ذكرى عملية 13 تشرين الأول 1990 التي أطاحت فيها القوات السورية الحكومة العسكرية برئاسة العماد ميشال عون. ولكن المشهد الداخلي ظل عشية هذه الجلسة تحت وطأة ترددات التوصل الى اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، فيما سارعت الحكومة الإسرائيلية غداة تسلمها النسخة الأميركية النهائية للاتفاق الى المصادقة عليها الامر الذي سيقابله لبنان بإعلان رسمي في الساعات المقبلة على لسان رئيس الجمهورية ميشال عون بالموافقة النهائية على الاتفاق. ويفترض في ظل اعلان موافقة كل من البلدين ان يتم التوقيع بين الجانبين اللبناني والاسرائيلي في الأيام المقبلة في الناقورة برعاية الولايات المتحدة والأمم المتحدة بحيث يصبح الاتفاق ساري المفعول بعد ذلك وتبدأ عمليات التنقيب اواستخراج الغاز على جانبي الحدود المرسمة.
ويمكن القول ان نشر نص الاتفاق بعد “تسريبه” امس في كل من إسرائيل ولبنان أتاح للمراقبين ومراجعي النص معاينة الأهمية الجوهرية وليس الشكلية فقط لـ”الاتفاق” من زوايا مختلفة لم تكن واضحة قبل ذلك. اذ انه نص “مرجعي” جديد كاتفاق دائم بين البلدين وسيكون هو المعتمد لدى الأمم المتحدة مكان الوثائق التي سبق لكل من لبنان وإسرائيل ان اودعاها المنظمة الدولية لرعاية حال الحدود بين البلدين. كما يؤكد الاتفاق التفاهم على بقاء الوضع الراهن للحدود على ما هو الى ان يتم ترسيم الحدود البرية.
وينص الاتفاق في هذا السياق على الآتي :”تحدّد هذه الإحداثيات الحدود البحرية على النحو المتّفَق عليه بين الطرفين لكلّ النقاط الواقعة باتجاه البحر من أقصى نقطة شرقي خط الحدود البحرية، ودون أيّ مساس بوضع الحدود البريّة. وبهدف عدم المساس بوضع الحدود البريّة في المستقبل، فإنّه من المتوقَّع قيام الطرفين بترسيم الحدود البحرية الواقعة على الجانب المواجِه للبرّ من أقصى نقطة شرقي خط الحدود البحرية في سياق ترسيم الحدود البريّة أو في الوقت المناسب بعد ترسيم الحدود البريّة. وإلى أن يحين الوقت الذي تُحدَّد فيه تلك المنطقة، يتّفق الطرفان على إبقاء الوضع الراهن بالقرب من الشاطئ على ما هو عليه، بما في ذلك على طول خط العوّامات البحرية الحالي وعلى النحو المحدَّد بواسطته، على الرغم من المواقف القانونية المختلفة للطرفين بشأن هذه المنطقة التي لا تزال غير محدَّدة”.
وينص ايضا :”تحلّ الإحداثيات الواردة في مراسلة كلّ من الطرفين إلى الأمم المتحدة، والمشار إليها في القسم 1(ج) محلّ (أولًا) الإحداثيات الواردة في المذكّرة التي رفعتها إسرائيل إلى الأمم المتحدة بتاريخ 12 تموز/يوليو 2011 بشأن النقاط المحدَّدة 34 و35 و1 الواردة في المذكرة و(ثانيًا) الخريطة والإحداثيات التي تضمّنتها المذكّرة المرسَلة من لبنان إلى الأمم المتحدة بتاريخ 19 تشرين الأول/أكتوبر 2011 بشأن النقاط المحدَّدة 20 و21 و22 و23 الواردة في المذكّرة ذات الصلة. ولا يجوز أن يقدّم أيّ من الطرفين مستقبلًا إلى الأمم المتحدة أيّ مذكّرة تتضمّن خرائط أو إحداثيات تتعارض مع هذا الاتفاق (المشار إليه فيما يلي بـ “الاتفاق”) ما لم يتّفق الطرفان على مضمون مثل هذه المذكرة”.
…”يتّفق الطرفان على أنّ هذا الاتفاق، بما في ذلك ما هو موضَّح في القسم 1(ب)، يُرسي حلًا دائمًا ومنصفًا للنزاع البحري القائم بينهما”. ( راجع النص الكامل للاتفاق ص 5 ).
باريس
وفي باريس (النهار) وصفت الرئاسة الفرنسية اتفاق ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل بالتاريخي، وانه يعني ان دولتين دون علاقات ديبلوماسية واحداهما لا تعترف بالآخرى، عزمتا على التوصل الى الاتفاق عبر التفاوض. هو اتفاق يساهم في تخفيض التوتر في المنطقة اذ انه يكشف ان جميع اللاعبين بما فيهم “حزب الله” فضل التفاوض على المواجهة . وقالت الرئاسة عبر مسوؤل فيها ان هذا الاتفاق يساهم في استقرار وامن البلدين، وله تأثير أساسي اقتصادي. وعلى صعيد الطاقة سيتيح التنقيب عن احتياط الغاز في البحر اللبناني والإسرائيلي وسيساهم في انتعاش شعبي الدولتين وسيسمح بوصول كميات من الغاز الى أوروبا بحسب الكميات التي ستتوافر بعد التنقيب. وشرح المسؤول في الرئاسة الفرنسية مسار التوصل الى هذا الاتفاق و الدور الفرنسي الذي قام به الرئيس ايمانويل ماكرون والديبلوماسي باتريك دوريل مستشاره للشرق الأوسط. ووصف الوسيط الاميركي اموس هوكشتاين بانه قام بعمل كبير منذ سنتين وهو طلب من الرئيس ماكرون ان تتدخل فرنسا للمساعدة من جانب رئيس الحكومة الإسرائيلي يائير لابيد.
وقال ان الخارجية الفرنسية وسفيرة فرنسا في بيروت والسفير الفرنسي في إسرائيل تابعوا الملف مع المفاوض الاميركي لتسهيل الاتفاق وباتريك دوريل بطلب من ماكرون استمر في الاتصالات مع هوكشتاين بشكل مستمر لدفع المفاوضات. وتحركت فرنسا على شقين احدهما مشروع الاتفاق بين السلطات الإسرائيلية والسلطات اللبنانية وإعطاء الجانبين الرسائل المتبادلة حول الخطوط الحمراء لكل منهما وإعطاء الرسائل لـ”حزب الله” لان وحدها فرنسا لديها علاقات مع الحزب. اما الشق الآخر فهو تقني وأساسي ومرتبط بـ”توتال انرجي” المسؤولة عن التنقيب والإنتاج في قانا وقد سعى الرئيس الفرنسي الى العمل معها لكي تكون مستعدة للتنقيب في قانا في اسرع وقت. واعتبر ان هذا الاتفاق يؤكد ان اختيار “حزب الله” التفاوض افضل من خيار العنف والمواجهة. فحزب الله، ونصرالله نفسه، اكد انه اختار التفاوض. وردا على سؤال “النهار” حول توقيت بدء توتال بحفر الآبار، قال المسوؤل الرئاسي انه ينبغي أولا جلب المنصة ثم البدء بالحفر ثم التنقيب وهذا يحتاج الى بضعة اشهر وتوتال تعرف ذلك ولكن الرئيس طلب من توتال الإسراع قدر الممكن.
موافقة إسرائيل
وعصر امس اعلن ان الحكومة الإسرائيلية صادقت في جلسة خاصة وبأغلبية ساحقة على اتفاق ترسيم الحدود مع لبنان. ونقل عن رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد قوله إن الحكومة الإسرائيلية وافقت بأغلبية كبيرة على مبادئ الاتفاق مع لبنان. واكد “اننا سنبدأ باستخراج الغاز من حقل كاريش وأي هجوم عليه يعتبر اعتداء على إسرائيل”.
وفي هذا السياق اعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق نفتالي بينيت التصويت لصالح الموافقة على صفقة ترسيم الحدود البحرية مع لبنان بعد فترة من التردّد. ورأى بينيت أنّه “من المناسب الموافقة على الصفقة في أسرع وقت ممكن على الرغم من أنّ الحكومة الحالية هي حكومة موقتة”. وأشار إلى أنّ الصفقة “ليست انتصارًا ديبلوماسيًا تاريخيًا، لكنها أيضًا ليست اتفاقية استسلام”. وأضاف: “ليس كلّ ما هو جيّد للبنان سيّء لإسرائيل، فيمكن أحيانًا الوصول إلى نتيجة إيجابية للطرفين”.
اما في لبنان فاعتبر الرئيس عون ان “انجاز اتفاق الترسيم سينتشل لبنان من الهاوية التي أُسقِط فيها”. وقال امس امام زواره ان “انجاز الاتفاق سيتبعه ابتداءً من الأسبوع المقبل، بدء إعادة النازحين السوريين الى بلدهم على دفعات”.
من جانبه، وبعد زيارته لعين التينة امس ولقائه الرئيس نبيه بري، قال رئيس الحكومة نجيب ميقاتي لدى مغادرته ردا على كلمة مبروك “الهناء مشترك”. وكان ميقاتي بحث في السرايا مع السفيرة الفرنسية آن غريو، في التطورات الحاصلة عشية الزيارة التي ستقوم بها وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا لبيروت بدءا من غد الجمعة .
الجلسة الثانية
ووسط هذه الاجواء، تعقد اليوم جلسة لانتخاب رئيس للجمهورية في ساحة النجمة. وعلم ان “كتلة الوفاء للمقاومة” ستتخذ صباح اليوم قرارها في ما خص طريقة التعاطي مع الجلسة آخذة في الاعتبار مواقف مختلف الكتل ومن بينها مقاطعة “تكتل لبنان القوي” الجلسة بسبب تزامنها وذكرى ١٣ تشرين. وافيد ان التواصل استمر بين “كتلة الاعتدال الوطني” ونواب “تكتل التغيير” حول امكان التوافق على اسم او التصويت بورقة تحمل شعارا موحدا.
وفي المقابل أكد رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع امس مشاركة كتلة القوات في الجلسة اليوم والاقتراع للنائب ميشال معوض وإذ نفى أي علاقة بين ملف الترسيم والاستحقاق الرئاسي قال “أننا نفضل رئيسا مدنيا لكن لا نضع فيتو على تولي قائد الجيش العماد جوزف عون رئاسة الجمهورية واذا حصلت تقاطعات وايدته الأكثرية فلا مشكلة لدينا”. وكرر اتهام “حزب الله والتيار الوطني الحر بانهما يعطلان الانتخابات الرئاسية”. وقال:”هناك إصرار دولي وعربي على إجراء الانتخابات الرئاسية والأوروبيون قد يفرضون عقوبات على من يعرقلها”. وفي موضوع ترسيم الحدود البحرية، اعتبر جعجع، أن “الاتفاق جاء متأخرا وما حدث كان أفضل الممكن” مشيرا إلى أن “ترسيم الحدود جاء نتيجة مصالح أميركية وأوروبية التقت مع مصالح لبنان وإسرائيل”. كما رأى أن “تدخل حزب الله أسهم بتأخير الإتفاق وما يصفها بمعادلة الردع هي للإستهلاك المحلي”.
وبدوره اعلن “اللقاء الديموقراطي” مشاركته في الجلسة اليوم والتصويت للنائب ميشال معوض .