بينما كان العونيون ومعهم “حزب الله” وحلفاء النظام السوري يعتكفون أمس عن انتخاب رئيس جديد للجمهورية احتفالاً بذكرى خروج الجنرال ميشال عون من قصر بعبدا في 13 تشرين الأول من العام 1990… وبالتاريخ نفسه والصوت نفسه الذي سُمع فيه قبل 32 عاماً عبر أثير “إذاعة لبنان” وهو يطلب من عسكرييه الاستسلام، بعدما تركهم وحدهم في ساحة المعركة إثر فراره إلى السفارة الفرنسية، أطلّ عون مساءً من قصر بعبدا في 13 تشرين الأول ليزفّ إلى اللبنانيين جديد “بطولاته” على الساحة الوطنية، معلناً “الموافقة على اعتماد الصيغة النهائية التي أعدّها الوسيط الأميركي لترسيم الحدود البحرية الجنوبية” مع إسرائيل “بانتظار توقيع النصوص اللازمة من الجانبين الأميركي والإسرائيلي وفقاً للآلية المعتمدة في الاتفاق”.
وانطلاقاً من هذا الموقف اللبناني المطلوب أميركياً ودولياً لتأكيد المصادقة رسمياً على اتفاقية الترسيم من قبل “رئيس الدولة، بعد التشاور مع رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي”، لم يتأخّر عون في استغلال منبر الإعلان عن هذا “الإنجاز التاريخي” ليفرد أشرعة الإبحار في رحلة “تعويم” العهد وتياره على ظهر مركب الترسيم، فشرع في بدء عملية “الاستثمار النفطي” الرئاسي والسياسي في حقول الثروة البحرية، مجيّراً الفضل الأكبر إلى شخصه وشخص رئيس “التيار الوطني الحر” باعتبار أنّ ما تم تحقيقه لم يكن ليتم لولا وصول عون إلى سدة رئاسة الجمهورية، وأنّ “ما وصلنا إليه في الترسيم البحري ولاحقاً التنقيب والاستخراج” كان بمثابة “ثمرة مسيرة طويلة بدأت فعلياً في العام 2010” من وزارة الطاقة والمياه “التي كان يتولاها الوزير جبران باسيل”.
وسرعان ما تلقّف باسيل المبادرة لتعويم نفسه بنفسه أمام واشنطن، مصرّحاً لوكالة “رويترز” بصفته “نائباً في البرلمان اللبناني خاضعاً منذ العام 2020 لعقوبات أميركية بتهم فساد وتقديم دعم مادي لحزب الله” كما عرّفت عنه الوكالة، أنه “لعب دوراً خلف الكواليس في المحادثات التي توسّطت فيها الولايات المتحدة الاميركية لترسيم الحدود البحرية بين لبنان والكيان الاسرائيلي من خلال التواصل المباشر مع حزب الله”، مشيداً بالدور “الإيجابي” الذي لعبه “الحزب” في سبيل التوصل إلى اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع إٍسرائيل.
وإذ نفى باسيل رداً على سؤال، أن يكون لضلوعه في مفاوضات الترسيم أي علاقة بمسألة العقوبات الأميركية المفروضة عليه، لكنه أعرب عن ثقته بأنها “سترفع عنه لأنها غير عادلة”، استرعى الانتباه في المقابل تأكيد السفيرة الأميركية في لبنان دوروثي شيا لدى استيضاحها من قبل “رويترز” على عدم وجود أي تأثير لعملية التوصل إلى اتفاق الترسيم بين لبنان وإسرائيل على موضوع العقوبات المفروضة على باسيل، مشددةً على أنّ نظام العقوبات في الولايات المتحدة “لا يعمل بهذه الطريقة”، وأردفت بالقول: “نحن لا نتعاطى بهذا الشكل الرخيص”.
توازياً، وعلى وقع تأكيد الرئاسة الفرنسية أمس أنّ “الوساطة الأميركية بين إسرائيل ولبنان لم تكن لتنجح من دوننا”، وصلت مساءً وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا في زيارة رسمية إلى بيروت حيث ستعقد جولة محادثات مع الرؤساء الثلاثة ونظيرها اللبناني تتركز في جوهرها على اتفاقية الترسيم الحدودي البحري لا سيما في ظلّ الدور الحيوي الذي ستضطلع به شركة “توتال” الفرنسية في إطار عملية التنقيب المرتقبة في حقول النفط والغاز اللبنانية، وسط إبداء الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين أمله في أن تبادر في وقت قريب “توتال” مع شريكتها “ENI” إلى الإعلان عن “بدء الاستعداد للتنقيب في المياه اللبنانية”.
وأوضح هوكشتاين في مقابلة مع قناة “LBCI” أمس أنه “ليس صحيحاً أنّ هناك رابحاً وخاسراً في اتفاقية الترسيم” التي تم إبرامها بين لبنان وإسرائيل، وقال: “بالنسبة لإسرائيل فإن ما أرادوه هو خط حدودي آمن ومؤكد ويوفر الاستقرار من جانبهم وبمجرد استيفاء الشروط الأمنية الإسرائيلية وتلبية الشروط والاحتياجات اللبنانية على الصعيدين الأمني والاقتصادي بات بالإمكان للصفقة أن تتم”، مؤكداً أنّ الولايات المتحدة حرصت على “ضمان ازدهار اقتصادي للبنان وتأمين الحدود الشمالية لإسرائيل”، وأعرب عن اعتقاده بأن فوز بنيامين نتنياهو في الانتخابات التشريعية لن يؤدي إلى تراجع إسرائيل عن اتفاقية الترسيم البحري مع لبنان لأنّ “إسرائيل مثل لبنان لديها ديمقراطية نشطة للغاية مع الكثير من وجهات النظر ولكن الإجراءات الحكومية تميل إلى البقاء عليها كما هي واتباع الاتفاقات”.
حكومياً، لم يُخف مصدر واسع الاطلاع لـ”نداء الوطن” خشيته من أنّ ترتد تداعيات إبرام اتفاقية الترسيم “سلباً” على ملف التأليف تحت وطأة “النشوة” التي يشعر بها رئيس الجمهورية ورئيس “التيار الوطني الحر” جراء الانفتاح الأميركي عليهما، كاشفاً أنّ “حزب الله” نفسه بدأ في الأيام الأخيرة “التراجع خطوة إلى الوراء في لعب الدور المتوازن في الاتصالات بين الرئيس المكلف نجيب ميقاتي وباسيل، بحيث أظهر بعد الإعلان عن اتفاق الترسيم انحيازاً واضحاً إلى وجهة نظر الأخير الحكومية بالتوازي مع الإيعاز إلى وسائله الإعلامية بتسليط الضوء على الجهد الكبير الذي مارسه باسيل شخصياً في سبيل التوصل إلى اتفاقية الترسيم”، ورأى المصدر أنّ تعاطي “حزب الله” المستجد في مقاربة ملف تأليف الحكومة الجديدة على ما يبدو ينطلق من “معادلة مفادها أنّ باسيل قبل الترسيم هو غيره بعد الترسيم وما كان يقبل به حكومياً سابقاً لم يعد يقبل به اليوم”.