وصلت ارتدادات الحرب الأوكرانية الى المنطقة سياسياً من بوابة السلاح، بعدما دخلتها من باب أزمات الطاقة، كما أظهر الخلاف الأميركي السعودي حول قرار أوبك بلاس، من جهة، واتفاق النفط والغاز الذي رعته واشنطن لتحديد المناطق الاقتصادية التي يستثمرها كل من لبنان وكيان الاحتلال، وفي الأبعاد الجديدة إعلان أميركي وأوروبي عن عقوبات تطال إيران التي يتهمها النظام الأوكراني بتسليح روسيا بالطائرات المسيّرة الحديثة، والتي كان لها حسب الاتهامات الأوكرانية الدور الأبرز في النجاحات الروسية باستهداف موارد الطاقة الكهربائية في أغلب المدن الأوكرانية بما فيها العاصمة كييف، وبالتوازي كانت موسكو تهدّد “إسرائيل” من عواقب قيامها بتسليح النظام الأوكراني وتهدّد بلسان نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي ديمتري ميدفيديف بعواقب تدمير العلاقة الروسية “الإسرائيلية”. وهو ما قرأ فيه الخبراء في كيان الاحتلال مخاطر تهدد مستقبل القدرة الإسرائيلية على مواصلة الغارات على سورية.
لبنانياً، كشف الإحياء الباهت لذكرى 17 تشرين حجم الانفكاك الشعبي عن قياداتها، التي أظهر وصول بعض رموزها الى المجلس النيابي حجم الخيبة التي مثلها هؤلاء مقابل وردية وعود التغيير، بينما يشهد المجلس النيابي اليوم تجديداً سياسياً لتفاهمات تشكيل هيئة مكتبه ولجانه، التي ستقتصر التغييرات فيها على ترجمة تفاهمات رضائيّة بين الكتل الكبرى، فيما كان الحدث الأبرز سياسياً هو زيارة رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل على رأس وفد من التكتل لرئيس مجلس النواب نبيه بري، وهو ما وصفته مصادر نيابية بأول كسر جليد حقيقيّ يفتح الباب لإحداث اختراق ممكن قبل نهاية المهلة الدستورية المتاحة أمام مجلس النواب لانتخاب رئيس جديد للجمهورية قبل نهاية ولاية الرئيس العماد ميشال عون بعد أسبوعين. وتقول المصادر إن تفاهم بري وباسيل إذا تحقق، يفتح الطريق لبحث جدي بين بري ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط وبين بري ونواب كتلة الاعتدال العشرة، بحيث يتوافر المجال لتوفير نصاب الـ 86 نائباً المطلوب لانعقاد جلسة انتخاب يفوز فيها مرشح متفق عليه بـ 65 صوتاً على الأقل، وهو ما كان لافتاً تذكير النائب باسيل به كمقدّمة لشرح الحاجة الملحة لتفاهمات لا تتناسب مع الخطاب التعبويّ الصداميّ الذي شكل سمة المرحلة السابقة في علاقة التيار الوطني الحر مع حركة أمل، بما يعزز فرضية الواقعية السياسية التي يتقنها باسيل، ويجد صعوبة في إسقاطها على الحسابات الرئاسية، حيث تفاهمه مع الرئيس بري مفتاح التقدم خطوة جدية، لرئيس صنع في لبنان، قبل أن تدخل الأيادي الخارجية على مطبخ صناعة الرئيس الجديد.
سياسياً، تابعت القيادات السياسية والوسط الإعلامي مسار التراجع السويسري عن دعوة العشاء التي كانت وجهتها السفيرة السويسرية لممثلي القوى السياسية، حيث بدا أن التراجع، الذي شمل أيضاً مدعوين للمشاركة اعتذروا عن غيابهم، لم يكن نتيجة احترام سويسريّ للسيادة اللبنانية، ولا لتمسك المعتذرين بها، بل لضغوط سعودية عبر عنها السفير وليد البخاري، الذي غرّد بعبارات ظهرت كرد على دعوة السفيرة السويسرية، التي قيل إنها تتضمن فتح حوار بحثاً عن بديل لاتفاق الطائف، بقوله، “وثيقةُ الوفاقِ الوطنيِّ عقدٌ مُلزمٌ لإرساءِ ركائزِ الكيانِ اللبنانيِّ التعدديِّ، والبديلُ عنهُ لن يكونَ ميثاقًا آخر بل تفكيكٌ لعقدِ العيشِ المُشتركِ، وزوالِ الوطنِ الموحَّد، واستبدالهُ بكيانات لا تُشبهُ لُبنانَ الرسالةَ”، وكان لافتاً تلويح السفير السعودي بزوال الوطن الموحّد إذا تمّ المساس باتفاق الطائف.
وطغى الاستنفار الدبلوماسي السعودي ضد «العشاء السياسي» في السفارة السويسرية، على المشهد السياسي وملأ مع جولة تكتل لبنان القوي على رؤساء الكتل النيابية، الفراغ حتى موعد الجلسة الثالثة لانتخاب رئيس الجمهورية الخميس المقبل.
ولم يكد السفير السعودي وليد بخاري يبدأ جولته الرئاسية، حتى أعلنت السفارة السويسرية إرجاء الدعوة الى إشعار آخر.
وجال بخاري بين بعبدا وعين التينة، وأكد بعد لقائه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون «حرص المملكة على وحدة لبنان وشعبه وعمقه العربي، انطلاقاً من المبادئ الوطنية الميثاقية التي وردت في اتفاق الطائف الذي شكل قاعدة أساسية حمت لبنان وأمّنت الاستقرار فيه»، وشدّد على «أهمية انجاز الاستحقاقات الدستورية في مواعيدها». ولفت بخاري الى ان الرئيس عون «أكد حرصه على تفعيل العلاقات بين لبنان والمملكة العربية السعودية لما فيه مصلحة الشعبين الشقيقين». وبعدها، زار السفير السعودي عين التينة حيث التقى رئيس مجلس النواب نبيه بري.
وكانت السفارة السويسرية في لبنان وسورية أصدرت بياناً، أكدت فيه أنّه «خلال الشهرين الماضيين، وبالتعاون مع منظمة مركز الحوار الإنساني التي تتخذ سويسرا مقراً لها، تواصلت سويسرا مع جميع الجهات الفاعلة السياسية اللبنانية والإقليمية والدولية للتحضير لمناقشات تشاورية وليس مؤتمر حوار». وأضافت «من التقاليد السويسرية بذل مساعٍ حميدة عندما يطلب منها ذلك، تأتي هذه المناقشات المزمع عقدها نتيجة مشاورات سابقة مع جميع الأطياف السياسية اللبنانية والإقليمية والدولية، في ظل احترام تام لاتفاق الطائف والدستور اللبناني». وأشارت السفارة في بيانها إلى أن «العشاء غير الرسمي الذي كان من المفترض أن يُقام هذا الثلاثاء في منزل السفيرة السويسرية، يهدفُ إلى تعزيز تبادل الأفكار بين مختلف الجهات الفاعلة السياسية اللبنانية»، وأردفت «الأسماء المتداولة في وسائل الإعلام لا تشمل أسماء المدعوين فعلياً، مع هذا، فقد جرى تأجيل العشاء إلى موعدٍ لاحق».
وإذ علمت «البناء» أن السفارة السعودية طلبت من بعض القوى المدعوة للقاء عدم تلبية الدعوة، أشارت مصادر سياسية لـ»البناء» الى أن السعودية تستشعر خطراً على اتفاق الطائف الذي شكل الغطاء للنفوذ السعودي في لبنان خلال العقود الثلاثة الماضية، لذلك ترى السعودية في أي دعوة خارجية للحوار بين الأطراف اللبنانية بأنها مصدر خطر وتستهدف حضورها ومكاسبها في لبنان، وبالتالي تلمست خطراً من أن يتحول العشاء في السفارة السويسرية الى لقاء في الخارج ومنصة للحوار اللبناني – اللبناني ينتج تسوية للأزمة اللبنانية تكون بديلاً عن اتفاق الطائف في ظل الخلاف الأميركي – السعودي الأخير، ويتعزز الخوف السعودي وفق المصادر بعدما خسرت حلفاء تاريخيين لها في لبنان كالرئيس سعد الحريري وآخرين وبعد تشظي القوى السنية الى كتل صغيرة مشتتة، ولذلك حاول السفير السعودي مؤخراً جمع أشلاء القوى السنية النيابية في كتلة واحدة للتأثير على قرار الطائفة السنية في الاستحقاقات المقبلة لا سيما رئاسة الجمهورية.
وبرز موقف للعاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، شدّد خلاله على «ضرورة تنفيذ إصلاحات سياسية واقتصادية هيكلية شاملة في لبنان تقود إلى تجاوز أزمته. أضاف في الخطاب الملكي السنوي لأعمال السنة الثالثة من الدورة الثامنة لمجلس الشورى أن على لبنان بسط سلطة حكومته على جميع الأراضي اللبنانية لضبط أمنه والتصدي لعمليات تهريب المخدرات والأنشطة الإرهابية التي تنطلق منها مهددة لأمن المنطقة واستقرارها».
وعشية جلسة الانتخاب المحددة الخميس المقبل، جال رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل مع وفد من «تكتل لبنان القوي»، على رؤساء الكتل النيابية بورقة «الأولويات الرئاسية»، والتقى باسيل رئيس مجلس النواب نبيه بري في عين التينة في حضور نواب من «كتلة التنمية والتحرير». وسلّم باسيل الرئيس بري ورقة «التيار الوطني الحر» للأولويات الرئاسية. وبعد اللقاء، قال «من غير الممكن أن نتفق على انتخاب رئيس للجمهورية في ظل عدم التوافق لا الثلثين ولا النصف مع أي مجموعة نيابية، فمن الضروري أن نتكلم مع بعض. لا اعتقد ان أحداً يتوهم انه من الممكن ان نصل الى نتيجة ونتجنب الفراغ من دون الحوار». أضاف «انا سعيد اننا وجدنا لدى الرئيس بري كل التفهم والاستعداد والإيجابية اللازمة للقيام بهذا الحوار. وأعتقد ان لديه دوراً في هذا المجال. فالرغبة في التحاور موجودة ليس فقط على المرحلة انما ايضا على الأسماء».
كان وفد من التكتل زار ايضاً اللقاء الديمقراطي، ثم كتلة “الوفاء للمقاومة” وسلمها ورقة الأولويات الرئاسية.
وأوضح النائب ألان عون، بعد اللقاء، أن «كل فريق لديه قناعاته وتصوره لرئيس الجمهورية ولكن المصلحة برئيس توافقي”، مشيراً إلى أن “العنوان الأساسي في هذه المرحلة التوفيق وليس الدخول في معارك وتحديات ولمسنا واقعية في تعاطي حزب الله مع الموضوع الرئاسيّ“. وأضاف: “نتعاطى مع الاستحقاق الرئاسي بواقعيّة، ونعمل على دعم المرشحين لتسهيل ونجاح عملية الانتخاب”.
وأوضح مصدر في التيار الوطني الحر لـ»البناء» أن جولة التيار تنطلق من قناعة التيار بضرورة الحوار مع كافة الأطراف السياسية إلا من يستبعد نفسه ويرفض منطق الحوار كالقوات اللبنانيّة، لكننا نهدف الى أوسع توافق بين الكتل على رئيس لتسهيل الانتخاب ولتجنب الشغور الرئاسي والذي سيواكبه فراغ حكومي في ظل عدم صلاحية حكومة تصريف الأعمال بإدارة البلد بظل الشغور الرئاسي، وبالتالي لن نقبل بأن تتسلم صلاحيات الرئيس وتمارسها، ما سيخلق اشتباكاً دستورياً وتوتراً طائفياً نحن بغنى عنه، لذلك الأجدر بالجميع العمل لانتخاب رئيس في وقت قريب أو تأليف حكومة أصيلة لاحتواء الأزمة المقبلة.
وأشارت أوساط مواكبة للمشاورات في الملف الرئاسي لـ»البناء» الى أن هذه المشاورات واللقاءات لا بد منها قبل الوصول الى العشرة أيام الأواخر من المهلة الدستورية، وبعدها يبدأ التفاوض الجدّي بين الكتل النيابية والقوى السياسية، والشغور الرئاسي يستدرج تدخلات وعروضاً خارجية لتسوية شاملة تشمل رئيساً توافقياً مع حكومة جديدة وبرنامج وخريطة عمل تواكب الإنجاز الذي تحقق بترسيم الحدود البحرية والانفتاح الأميركي على لبنان المتمثل بالاتصال الذي أجراه الرئيس الأميركي بالرئيس عون. وتوقعت الأوساط أن يتكرّر سيناريو الجلسة الأولى لانتخاب الرئيس، بغياب أي توافق على رئيس حالياً.
إلا أن الأوساط شدّدت على أن الوضع الحكومي لا زال على حاله ولكن الاتصالات ناشطة على خط الحكومة لتذليل بعض العقد للوصول الى حكومة ولو معدلة حتى نهاية الأسبوع، لكن الأوساط استبعدت تأليف حكومة في ما تبقى من فترة ولاية الرئيس عون، إلا إذا حصلت تنازلات متبادلة بين الرئيسين عون ونجيب ميقاتي.
على صعيد آخر، من المتوقع أن يصدر المجلس الدستوري نتائج الطعون الانتخابية بأكثر من دائرة انتخابية وسط معلومات يتم تداولها بتوجه لإبطال نيابة أكثر من نائب، لكن مصادر مطلعة على الملف تنفي هذا الأمر لـ»البناء» مشددة على أن مداولات المجلس سرية ولم تُحسم النتيجة بعد.
وأوضحت مصادر قانونية لـ»البناء» الى أن احتمالات قرار المجلس يتلخص باحتمالين: «إما رد الطعن، وإما قبول الطعن، وفي هذه الحالة يقرّر المجلس الدستوري إما اعلان فوز المرشح المستحق، وإما إعلان المقعد شاغراً حيث يتعين الدعوة إلى انتخاب فرعي لملء الشغور خلال شهرين».