بعد أكثر من ثلاثة عقود على اقتحامه الساحة السياسية بسلاح التمرّد الذي دمّر الحجر والبشر أواخر الثمانينات وانتهى في 13 تشرين الأول من العام 1990 إلى خروج مذلّ من قصر بعبدا على متن ملالة عسكرية إلى السفارة الفرنسية بعد تهشيمه المنطقة المحرّرة وتسليمها باليدّ إلى الوصاية السورية، أتى الخروج الثاني للجنرال ميشال عون من قصر بعبدا في 30 تشرين الأول من العام 2022 مختلفاً بالشكل على “سجادة حمراء” وفي “ليموزين رئاسية”، لكنه في الجوهر لم يختلف كثيراً عن خروجه الأول بعدما خلّف وراءه انهياراً شاملاً على أرضية الوطن وسيخلّد التاريخ ذكراه بوصفه رئيس الجمهورية الذي سلّم لبنان تسليم اليد إلى وصاية “حزب الله” ومحور الممانعة.
وعلى قاعدة “اللي استحوا ماتوا”، بدت مسيرة “تشييع” العهد من بعبدا إلى مثواه الأخير في الرابية بمثابة “الرقص العوني فوق القبور” في ظل ما شهدته من احتفاليات استفزازية لمشاعر اللبنانيين المنكوبين والآباء المقهورين العاجزين عن تأمين القوت اليومي لأسرهم والأمهات الثكلى اللواتي طمرن أولادهن تحت أنقاض انفجار 4 آب… هذا الانفجار الذي لم يأت عون على ذكره في خطبته الوداعية إلا من باب ترهيب القضاء لإطلاق سراح المحسوبين على العهد وتياره الموقوفين على ذمة التحقيق العدلي في جريمة تفجير مرفأ بيروت، مقابل تحييده الفاضح لمسؤولية حلفائه في 8 آذار الذين كبلوا المحقق العدلي وشلّوا تحقيقاته وعطلوا الوصول إلى كشف الحقيقة في الجريمة، ولعل أبلغ صورة عن غضب أهالي الضحايا تجاه العهد وحلفائه تجسدت بتمزيق والدة مفجوعة أمس صورة رئيس الجمهورية في “ساحة ساسين” في الأشرفية، وهي تصرخ أمام الكاميرات: “بس صور شهدائنا بيستحقوا ينرفعوا بالعالي”.
أما في البعد السياسي لمشهدية الأمس، فحرص رئيس الجمهورية على الخروج من قصر بعبدا “على صهوة” حملة دعائية تحاكي تحقيق المزيد من “الإنجازات” في مرمى الخصوم السياسيين، فاستهل خطابه بدغدغة مناصريه بعبارة: وجّهت اليوم صباحاً رسالة الى مجلس النواب بحسب صلاحياتي الدستورية ووقّعت مرسوم اعتبار الحكومة مستقيلة”، مؤكداً بذلك خرقه العرف الدستوري الذي يقضي بتوقيع مرسوم استقالة الحكومة بالتزامن مع مرسوم تأليف الحكومة الجديدة، وذلك بالتوازي مع تحريضه مجلس النواب على نزع التكليف عن رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي باعتباره ينوي أن “يؤبّد حالة التصريف ويفاقم الفراغ فراغاً ويسطو على رئاسة الجمهورية”.
أما على ضفة الرئيس المكلف، فاستبق ميقاتي الرسالة العونية برسالة مضادة إلى رئيس المجلس النيابي نبيه بري يعلمه فيها العزم على “متابعة الحكومة لتصريف الأعمال والقيام بواجباتها الدستورية كافة”، مقابل استخفافه بصدور مرسوم قبول استقالة حكومته “المستقيلة أصلاً”، واضعاً هذا المرسوم في إطار الخطوة التي ترتدي “الطابع الإعلاني” مع التشديد على أنه “يفتقر إلى أي قيمة دستورية تنعكس سلباً على وجوب تصريف الأعمال”.
ولاحقاً، شنّ ميقاتي حملة إعلامية عبر شاشات التلفزة أكد فيها عدم رغبته في “التصادم مع أحد” في مرحلة الشغور الرئاسي، مجدداً الإشارة إلى أنه لا يرى مصلحة في تأليف حكومة جديدة في الأيام المتبقية انطلاقاً من قناعته بأنه أصبح “من الأفضل أن أكمل في حكومة تصريف الأعمال لأن لا شيء سيتغيّر” ربطاً بكون الأولوية يجب أن تكون لانتخاب رئيس جديد للجمهورية.
وبعدما احتكم كل من عون وميقاتي إلى بري في مسألتي التكليف والتصريف، يتجه رئيس المجلس النيابي خلال الساعات المقبلة إلى دعوة الهيئة العامة للاجتماع بغية مناقشة رسالة رئيس الجمهورية، وذلك بموجب ما تفرضه الآلية المتبعة حيال الرسائل الرئاسية إلى المجلس، لكن على أن تكون مناقشة رسالة عون ابتداءً من الغد بصفتها موجّهة من رئيس سابق للجمهورية بحكم انتهاء ولايته الرئاسية عند منتصف هذه الليلة. الأمر الذي علّق عليه رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل بتغريدة مسائية عبر “تويتر” اعتبر فيها أنّ عدم إسراع رئيس المجلس النيابي اليوم إلى دعوة النواب إلى عقد جلسة “لاتخاذ قرار أو إجراء” إزاء مضمون كتاب رئيس الجمهورية “يؤكد نية عدم التشكيل ووضع اليد على صلاحيات الرئيس وفرض سلطة غير ميثاقية ولا دستورية”.
وكان باسيل قد سارع مع لحظة مغادرة عون قصر بعبدا باتجاه الرابية إلى تدشين حملته الرئاسية من خلال تصريحات صحافية جاهر فيها بأنه “متحمّس للرئاسة والشباب متحمسون والرئيس عون كان متحمساً من زمان لكن كل شيء بوقته”، جازماً بشكل قاطع بأنه لن يرضى بدعم ترشيح “حزب الله” لسليمان فرنجية، ليعقبه القيادي في “التيار الوطني الحر” ناجي حايك مساء أمس بالإعلان عن أنّ “باسيل سيترشح للرئاسة الثلاثاء ويعلن العصيان ضد ميقاتي والقطيعة مع حوار بري”.
وفي هذا السياق، رأت مصادر مواكبة لحركة باسيل أنه بصدد الإقدام في مرحلة الشغور على اتخاذ خطوات ضاغطة على “حزب الله” تهدف إلى وضع قيادة “الحزب” أمام أمر واقع يحشره من خلاله بمسألة ترشحه للرئاسة على قاعدة: “إما أنا مرشحك الرئاسي أو لا أحد”، خصوصاً وأنّ رئيس الجمهورية كان واضحاً في حديثه أمس الأول لوكالة “رويترز” بالتشديد على أنّ العقوبات الأميركية لا تمنع جبران باسيل من الترشح للرئاسة، قائلاً: “نحن نمحوها بمجرد انتخابه رئيسًا”، وهي رسالة رأت المصادر أنها “موجهة أولاً وأخيراً إلى “حزب الله” لدفعه إلى تبني ترشيح باسيل كثمن يجب أن يدفعه “الحزب” مقابل خضوع باسيل لعقوبات أميركية نتيجة تحالفه معه”.