وفي المقابل، كان لا بد للقوى الدولية ان ترى في إقامة البطولة في احدى دول الخليج العربي فرصة تتماهى مع ما عُرف لاحقاً «باتفاقات ابراهيم». ويروي احد المطلعين بأن بنداً اساسياً كان قد جرى طرحه خلال المفاوضات الجانبية التي واكبت «فوز» قطر، وتركّز هذا البند على التمسك بعدم منع اي فريق او جمهور لأي بلد كان من المشاركة في المهرجان الكروي والواضح ان المقصود كان اسرائيل.
صحيح انه ليس لقطر علاقات ديبلوماسية مع اسرائيل، لكنها منحت اذناً خاصاً للرحلات الجوية المباشرة وسمحت للديبلوماسيين الاسرائيليين بالعمل لتأمين المتطلبات القنصلية. وعند انطلاق أولى صافرات مباريات «المونديال»، كان عدد الاسرائيليين الذين نالوا تأشيرات دخول قد وصل الى اربعة آلاف، فيما المتوقع ان يصل العدد الى حوالى العشرين الفاً عند اقامة المباراة النهائية. لكن وعلى الرغم من مرور اكثر من سنتين على توقيع «اتفاقيات ابراهيم» مع الامارات والبحرين وما سبقها من اتفاقات سلام مع مصر والاردن والسلطة الفلسطينية نفسها، الا ان احتفالية كرة القدم في قطر اظهرت بوضوح بأنّ قرار السلطات العربية تجاه اسرائيل في مكان والمشاعر والانتماءات الفكرية لشعوبها في مكان آخر. فالشعوب العربية المشاركة على مختلف تلاوينها تعمّدت اظهار رفضها للحضور الاسرائيلي وابداء عدائها لإسرائيل وتضامنها مع القضية الفلسطينية.
وهذا ما عكسه حتى الاعلام الاسرائيلي نفسه. ولذلك، فإن الاستنتاج الاول الذي يمكن الخروج به من قطر، بأنّ القضية الفلسطينية ما تزال موجودة بقوة لدى الشعوب العربية وانه ما يزال من المبكر جداً الحديث عن اندماج حقيقي وفعلي لاسرائيل مع محيطها. فالعداء مع الثورة الاسلامية في ايران لم يحجب ابدا القضية الفلسطينية.
رغم ذلك فإن الشارع الاسرائيلي الذي يزداد تطرّفاً، والذي دفع باتجاه صعود صادم للاحزاب اليمينية المتطرفة، يجري تحضيره للذهاب في اتجاه تأكيد الهوية اليهودية الكاملة لدولة اسرائيل.
وليس تفصيلاً عادياً ان يقبل بنيامين نتنياهو بإعطاء حقيبة الشرطة او الامن الداخلي لليميني المتطرف ايتمار بن غفير، فهذه الحقيبة ستعني ايضا اعطاء بن غفير مهام الامن الداخلي في الضفة الغربية، واذا اضفنا الى ذلك قناعة الاحزاب المتطرفة بضرورة بسط السيادة الاسرائيلية الكاملة على الضفة الغربية و»طرد» الفلسطينيين، فالاستنتاجات لا تبدو صعبة. الواضح ان مواجهات آتية خصوصا في الضفة الغربية وهدفها تغيير هويتها.
وفي منطقة ليست ببعيدة ثمة تطورات يجري التحضير لها لا تقل اهمية عما قد يصيب الضفة الغربية، فبعد اسبوع من القصف الجوي والبري تستعد تركيا لتعديل الواقع الجيوسياسي في شمال سوريا من خلال حملة عسكرية ضد الاكراد.
وخلال الايام الماضية وفي عز القصف الحاصل بَدا انّ تركيا تنتظر الضوء الاخضر الأميركي الكامل للبدء بحملتها العسكرية، ومن البديهي الاعتقاد بأن هذا الانتظار له علاقة بتفاهمات جانبية يجري صياغتها وتتعلق عل الارجح بحدود العملية ومداها والاهم المهمات التي ستكلف بها تركيا في سوريا.
لا شك بأن تركيا تطمح للعب دور اساسي في الشرق الاوسط بعد ان كانت قد قطعت الامل بالانضمام الى الاتحاد الاوروبي. وجاءت حرب اوكرانيا والتعثّر العسكري الروسي ليلزما موسكو بانسحابات جزئية من سوريا والتركيز على المأزق الاوكراني. وكان من البديهي ان يعمل الرئيس التركي اردوغان لالتقاط الفرصة وملء الفراغات في سوريا عوضاً عن ايران الطامحة لذلك، وبدا ان الوقت قد حان خصوصا على المستوى الشخصي لأردوغان الذي يتحضّر لانتخابات رئاسية صعبة في ايار المقبل.
اردوغان الساعي لنفوذ كبير ولتوازن مع ايران، كان قد فتح يديه لأخصام الماضي وفي طليعتهم مصر السيسي وايضاً للسعودية.
وفي المقابل بدت الرياض مرحّبة بدور تركي يلجم الاندفاعية الايرانية وسعيها لتركيز موقع لها على الساحل الشرقي للبحر المتوسط، وجاءت الوديعة السعودية بخمسة مليارات دولار بمثابة الهدية الانتخابية لأردوغان التي تعاني حملته الانتخابية من ملف االفشل الاقتصادي، وفي الوقت نفسه بمثابة التأييد لدوره بالحد من النفوذ الايراني في سوريا. وذلك رغم الهمسات في الكواليس بحساسية قطر من التقارب التركي – السعودي، وحيث ان الدوحة كانت قد منحت اردوغان تمويلاً بعشرة مليارات دولار.
وفي الوقت نفسه ردّد اردوغان اكثر من مرة رغبته بلقاء الرئيس السوري بشار الاسد. الواضح انه لا يريد ان يترك الساحة السورية لإيران. لكن في المقابل وعلى مستوى القطب الاقليمي الثالث اي ايران، فإنها، وعلى الرغم من معاناتها جراء حركة الاحتجاجات المستمرة والمتنقلة، الا انها أرسلت وحدات مدرعة وقوات خاصة الى مناطق كردية في شمال العراق والتلويح بحملة عسكرية واسعة هي اكبر من عمليات محدودة، وبشكل يُحاكي الحملة التركية الموعودة باتجاه شمال سوريا. فإيران، والتي ستكسر بذلك قاعدة كانت قد رسمتها بعد حربها مع صدام حسين بعدم الانزلاق في حروب مباشرة، تبحث عن نفوذ عسكري مباشر في شمال العراق نظراً لأهميته الاستراتيجية. اذاً، ساحة الشرق الاوسط مفتوحة لتبدلات واسعة واعادة رسم خارطة النفوذ. هو التمهيد لخارطة جيوسياسية يتولاها صقور المنطقة. اردوغان وخامنئي ومحمد بن سلمان وحكومة اسرائيلية تضم متطرفين.
دروس التاريخ تقول ان «الصقور» في العادة ينفّذون الحروب قبل ان يعودوا لاحقاً إمّا الى مسار الانتحار الذاتي او في بعض الاحيان لرسم الاستقرار.
ومن المنطقي الاعتقاد بأن هذه التحولات في حال حصولها ستنعكس على لبنان الذي يئنّ تحت ثقل الازمات والانهيارات التي يعيشها.
ومن هذه الزاوية لا بد من رصد مسار الاحداث الاقليمية لتبيان الوجهة التي سيتخذها لبنان، ولذلك يُخطئ اطراف الطبقة السياسية بالتعاطي مع الاستحقاق الرئاسي بمعزل عن التبدلات الاقليمية التي تسعى القوى الكبرى لرسمها. وعلى سبيل المثال من السذاجة الاعتقاد بأنّ تمدّد النفوذ التركي الى شمال سوريا لن يصيب شمال لبنان على وجه التحديد. وكذلك الوضع الخاص الذي تمر به ايران، اضافة الى احتمال اهتزاز الوضع في الضفة الغربية والاهم انّ لبنان بعد كل ما مرّ به بات يفتقد لمقومات الدفاع والحماية الداخلية.
في السابق ومع بداية مرحلة الانهيارات، سادت نظرية في العواصم الغربية المهتمة بلبنان تقول انه لا بد من ترك لبنان يتفكّك كي يُصار لاحقاً لإعادة تركيبه.
أغلب الظن ان مرحلة تفكيكه شارفت على نهايتها، وأنه لا بد من التحضير لمرحلة اعادة تركيبه انطلاقاً من الاستحقاق الرئاسي المقبل. طبعاً لا بد ان يسبق ذلك تفاهمات ينتظر حصولها ظروف اقليمية مؤاتية بدأت تلوح في الافق. ومن هذه الزاوية يجب مقاربة الاستحقاق الرئاسي المقبل، لا من زاوية تعداد الاصوات والتعاطي المبسّط.
اليوم مساء يجتمع مجلس الامن في اجتماعه الدوري لمناقشة الملف اللبناني والأرجح صدور بيان يتطرّق الى الوضع في جنوب لبنان والاستحقاق الرئاسي رغم اعتراض بعض الدول على إصداره.
وبعد يومين هنالك القمة الاميركية – الفرنسية حيث لبنان بند اساسي على طاولتها، ولا بد ان نتذكر دائماً بأنّ المرحلة هي مرحلة اعادة رسم خارطة سياسية جديدة للشرق الاوسط، ولبنان هو إحدى ساحاتها. والأهم أنه لا بد من الاتّعاظ دائماً من المعاني السياسية للترسيم البحري.