باختصار، أثبت القاضي طارق البيطار أنه رجل قانون في زمن لبناني عزّ فيه رجال القانون وسادت فيه شريعة الغاب والتفلّت من العقاب… فبلغت جرأته المشهودة، منذ تسلّمه ملف التحقيق العدلي في قضية تفجير مرفأ بيروت، مداها أمس في قلب الطاولة رأساً على عقب في وجه “منظومة النيترات” ومعرقلي التحقيق، حين باغت أرباب المنظومة السياسية وأذرعها التنفيذية القضائية والأمنية، بدراسة قانونية “مُحكمة الإعداد” كسر من خلالها قيود “القبع” التي كبّلته وكفّت يديه على مدى أكثر من عام، مستعيداً زمام المبادرة بسلسلة قرارات وادعاءات أعادت للقضاء هيبته وللتحقيق العدلي مكانته.
فبالاستناد إلى قرار معلّل واجتهاد صادر عن رئيس المجلس العدلي الأسبق القاضي الراحل فيليب خير الله، قضى القاضي البيطار بأن المحقق العدلي يعلو ولا يُعلى عليه ولا تملك أي جهة سلطة ردّه أو تنحيته أو استبداله أو مداعاته، باعتباره من جهة يحتلّ مركزاً “لصيقاً بشخصه وأي قرار قضائي بنتحيته ينطوي حتماً على إلغاء هذا المركز”، ومن جهة أخرى “من غير الممكن تقديم طلبات نقل دعوى بوجهه” ربطاً بكونه “مكلفاً اسمياً بموجب قرار تعيينه في قضية محددة… ولا يوجد أي مرجع آخر قائم أو موازٍ له يمكنه أن يتابع التحقيقات في حال تقرر النقل“.
وخلصت الدراسة التي أعدها البيطار “بحسب النصّ الذي جرى إدراجه عن دراية في النصوص المتعلقة بالمجلس العدلي”، إلى التأكيد على أنّ هذا النص “أعطى المحقق العدلي سلطة موازية لسلطة الملاحقة المناطة حصراً أمام المجلس العدلي بمدعي عام التمييز”، ما يجعله بالتالي “بغنى عن الحصول على أي إذن بالملاحقة أسوةً بمدعي عام التمييز كما يغدو بمقدوره دعوة القضاة أمامه لاستجوابهم بصفة مدعى عليهم وإحالتهم إلى المجلس العدلي في حال جرى اتهامهم” بوصفها “هيئة موازية من حيث الأهمية للهيئة العامة التمييزية“.
وبناءً عليه، قرر البيطار استئناف تحقيقاته في ملف انفجار المرفأ فادعى على 8 أشخاص جدد يتقدمهم المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم الذي رفض التعليق على الادعاء بانتظار تبلغه رسمياً، والمدير العام لأمن الدولة اللواء طوني صليبا، وأخلى سبيل 5 موقوفين هم السوري أحمد الرجبي ومتعهد الأشغال في المرفأ سليم شبلي ومدير المشاريع ميشال نخول والمدير العام السابق للجمارك شفيق مرعي ومدير العمليات السابق سامي الحسين، مقابل رد سائر طلبات إخلاء السبيل المقدمة أمامه بما يشمل طلب مدير عام الجمارك الموقوف بدري ضاهر، الذي نُقل عن وكلائه أمس نيتهم الادعاء على المحقق العدلي بتهمة “التعسف في إبقاء بقية الموقوفين قيد الاحتجاز بعد تأكيد صلاحيته في البتّ بطلبات الإخلاء“.
وتوازياً كشفت مصادر مواكبة للقضية عن معلومات تفيد بأنّ “ماكينة السلطة انكبت خلال الساعات الماضية على إعداد العدة لشن هجمة مضادة على البيطار تعيد إبطال قراراته”، غامزةً بدايةً من قناتي وزارة العدل والنيابة العامة التمييزية التي يُنتظر أن تحدد موقفها حيال دراسة البيطار القانونية وقرارات إخلاء السبيل والادعاء التي سطّرها بموجبها، بينما أحال وزير العدل هنري الخوري ما تضمنته الدراسة إلى مجلس القضاء الأعلى بذريعة إمكانية أن تؤثر “على مجريات الملف وحسن سير العدالة والمحافظة على سرية التحقيق” بالتزامن مع تسريب معطيات تتهم المحقق العدلي بتجاوز الصلاحيات الممنوحة له في القضية، وذلك من دون أن تغفل المصادر “تعاظم المحاذير السياسية والقضائية والأمنية التي أصبحت تحيط بالقاضي البيطار بعدما “فتح نار جهنّم عليه” جراء قراره استئناف التحقيقات في جريمة المرفأ“.
وبانتظار ما سيكون عليه رد فعل الثنائي الشيعي على خطوة البيطار بوصفهما يجسدان “رأس حربة” في معركة كف يده وتكبيل تحقيقاته العدلية، كان تركيز “حزب الله” منصباً أمس على تظهير وحدة الحال مع “التيار الوطني الحر” واتجاههما سوياً “في اتجاه واحد كسيارتين تسيران على الأوتوستراد مع بعضهما بالاتجاه نفسه” بحسب تعبير المعاون السياسي للأمين العام لـ”حزب الله” حسين الخليل من مقرّ ميرنا الشالوحي إثر اجتماعه ومسؤول التنسيق والارتباط في “الحزب” وفيق صفا مع رئيس “التيار” جبران باسيل.
وإذ حرص “حزب الله” على أن تحظى الزيارة بأوسع تغطية إعلامية ممكنة لإغاظة “الممغوصين من تفاهم مار مخايل” كما قال صفا للإعلاميين، عمد “الحزب” في جوهر أهداف الزيارة إلى لجم باسيل عن المضي قدماً في سكة التشهير الإعلامي فأعاده إلى “الغرف المغلقة”، بعدما جرى التشديد على وجوب استكمال النقاش حول الخلافات والتباينات بعيداً عن الإعلام، واكتفى الخليل بالقول في هذا السياق: “لسنا بصدد الخوض في التفاصيل، الجلسة كانت صريحة جداً خصوصاً في موضوع الرئاسة والتفاهم لا يزال قائماً ولم نسمع أي امتعاض أو تنكّر من الوزير باسيل ليدنا الممدودة”، مع تذكيره في الوقت عينه بأنّه “في استقراء المرحلة الماضية سواءً في عهد الرئيس ميشال عون أو ما قبل عهده، يتبيّن أن حرص “حزب الله” كان كبيراً على الشراكة مع الإخوان في “التيار الوطني” خصوصاً في الحكومات“.