لا توصيف أدقّ لما بلغته حالة القضاء في لبنان من عبارة “حارة كل مين إيدو إلو” بعدما تشرذم الجسم القضائي تحت سطوة منظومة مافياوية حاكمة فردت أجنحتها السياسية والمالية والأمنية والقضائية على أرضية الدولة، فغرست فيها بذور الإفساد وحصدتها شتولاً ومراعي يرعى فيها الأزلام في المؤسسات العامة لتسود معها “شريعة الغاب”، القويّ فيها ينهش الضعيف، ومعيار الصعود والارتقاء في ملكوتها يخضع للعبة ميزان القوى بين أركان هذه المنظومة.
وأمس عكس النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات هذه الصورة بشكل فجّ يكرّس سطوة “فائض القوة” على ميزان العدل ويدقّ الإسفين الأخير في نعش القضاء… فعويدات الذي وقف عاجزاً مكفوف ومكتوف اليدين أمام تجاوزات ذراع العهد العوني القضائية غادة عون التي مسحت بهيبة النيابة العامة التمييزية وهيبة مجلس القضاء الأعلى الأرض من دون أن يُحرّك ساكناً خشية ردة فعل رعاتها السياسيين، وعويدات الذي طأطأ قصر العدل أمام تهديدات مسؤول وحدة التنسيق والارتباط في “حزب الله” وفيق صفا، استنفر صلاحياته بالأمس وانقضّ بكل ما أوتي من سلطة قضائية على المحقق العدلي القاضي طارق البيطار واستولى منه على ملف “تحقيق المرفأ” من دون أيّ مسوّغ قانوني وقضائي فقط لعلمه يقيناً بأنّ “رأسه مطلوب” لفريق 8 آذار ولا مظلة سياسية وحزبية تقيه وتحميه من “القبع“.
ففي إطار استكمال هجمته المرتدة على المحقق العدلي التي بدأها الثلاثاء بتعميمه على الأجهزة الأمنية عدم تنفيذ قرارات الاستدعاء الجديدة وإخلاءات السبيل التي سطرها البيطار بعد استئناف مهامه، قرر عويدات أمس إطلاق سراح جميع الموقوفين على ذمة التحقيق العدلي في جريمة انفجار مرفأ بيروت، وادعى في المقابل على المحقق العدلي أمام الهيئة العامة لمحكمة التمييز، وكلّف المدير العام للأمن العام وضع إشارة منع سفر بحقه، متجاوزاً صلاحياته وأصول التقاضي بشهادة النائب العام التمييزي السابق القاضي حاتم ماضي الذي جزم بأنّ خطوات وإجراءات عويدات غير قانونية ولا يحق للنائب العام التمييزي اتخاذها، مؤكداً أنّه لا يملك حقّ تخلية سبيل الموقوفين في قضية انفجار المرفأ باعتباره حقاً لصيقاً بشخص المحقق العدلي حصراً، كما لا يملك صلاحية إصدار إشارة بمنعه من السفر.
ورغم ذلك، آثر عويدات الإسراع في تنفيذ قراره إطلاق جميع الموقوفين من دون استثناء، بينما تولى رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي وضع موظفي الفئة الأولى منهم بتصرّف رئيس مجلس الوزراء اعتباراً من اليوم، ووضع الموظفين من غير الفئة الأولى بتصرف الوزراء المختصين، وذلك بعدما ترددت معلومات عن نية مدير عام الجمارك المخلى سبيله بدري ضاهر التوجه إلى مقر عمله في المرفأ لاستئناف مهامه على رأس المديرية العامة للجمارك.
وإذ تداعى أهالي ضحايا انفجار المرفأ مساءً إلى محيط منزل عويدات احتجاجاً على استيلائه على القضية، مذكّرين بأنه كان المسؤول القضائي الأول عن إعطاء إشارة تخزين شحنة “نيترات الأمونيوم” التي انفجرت وأودت بحياة أولادهم في 4 آب من العام 2020، علمت “نداء الوطن” أنّ اجتماعاً تنسيقياً عقد أمس بين المكونات النيابية في قوى المعارضة وتقرر في ضوئه مواكبة تحرك أهالي الضحايا اليوم أمام قصر العدل، على أن يلتقي عدد من نواب المعارضة رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود لهذه الغاية، في حين جددت وزارة الخارجية الأميركية التأكيد مساءً على أنّ “ضحايا انفجار مرفأ بيروت يستحقون العدالة ويجب محاسبة المسؤولين” عنه.
وبانتظار ما سيخلص إليه اجتماع مجلس القضاء ظهر اليوم خصوصاً بعدما أدى عويدات مهمة إخلاء سبيل الموقوفين في جريمة انفجار المرفأ التي كان من المنوي إيكالها إلى محقق عدلي رديف، أكد المحقق العدلي الأصيل عزمه المضي قدماً في مهامه وتحقيقاته في ملف انفجار المرفأ، وقال القاضي البيطار لـ”نداء الوطن”: “أنا سيّد الملف ومكمّل للأخر”، مشدداً على أنه لن يمتثل لاستدعاء النائب العام التمييزي له، وأضاف: “كنت أعلم منذ البداية أنها معركة غير سهلة لكنني باسم العدالة سأواصل مهمتي“.
وفي سلسلة تصريحات صحافية أخرى، أكد البيطار أنّ “القاضي عويدات لا يمكنه الادعاء على قاض سبق وادعى عليه بجريمة المرفأ لتعارض المصالح”، ونبّه القوى الأمنية إلى أنّ تجاوبها مع قرار عويدات بإخلاء سبيل الموقوفين على ذمة التحقيق العدلي هو بمثابة “انقلاب على القانون”، لافتاً إلى أنّ “المحقّق العدلي وحده من يملك حقّ إصدار قرارات إخلاء السّبيل ولا قيمة قانونية لقرار النائب العام التمييزي” بهذا الصدد، مع إبداء إصراره في المقابل على الاستمرار في واجباته في ملف انفجار المرفأ حتى صدور القرار الاتهامي … “وسأصدره سواءً كنتُ في مكتبي أو منزلي أو الحبس“.