تحول 25 كانون الثاني 2023 الى محطة في سلسلة تواريخ سوداء من التفكك والتفتت والانهيارات التي شهدها لبنان، بحيث سيثبت انه اليوم الذي توج السقوط المدوي للقضاء اللبناني امام سطوة الفجور السياسي واجنداته من جهة والعجز والتواطؤ والتفرد والتفكك من جهة أخرى. بيد قضائية وسلطة قضائية سيكتب ان التحقيق في انفجار مرفأ بيروت فجر امس، وان ضحايا تفجير 4 اب 2020 سقطوا ثانية شهداء لانتحار القضاء اللبناني. لم يكن ما جرى امس في الافراط المخيف في الرد على المحقق العدلي في ملف انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق بيطار سوى اطلاق رصاصة الرحمة على التحقيق في انفجار العصر بيد النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات. شن عويدات حربا على بيطار لا حدود للافراط فيها، فاطلق جميع الموقوفين في ملف انفجار المرفأ، وانهى تنحيه عن الملف، وطارد بيطار مدعيا عليه ومانعا إياه من السفر وطالبا مثوله للتحقيق امامه بما لم يسبق ان شهده القضاء في تاريخه. وبين موجات “التقاصف” بالإجراءات والإجراءات المضادة، اختفى أي حضور لمجلس القضاء الأعلى ورئيسه امس كما قبله وكأن الامر يحتمل ترف الانتظار الى اليوم كما تفرجت الحكومة وتتفرج على ابشع ما عرفه تهاوي المؤسسات في لبنان مذكرا بتجربة الحرب المدمرة.
والحال ان تخلية جميع الموقوفين في ملف المرفأ بعد الهجوم الصاعق الذي شنه بلا أي ضوابط النائب العام التمييزي غسان عويدات على المحقق العدلي طارق بيطار، أعاد الى الذهان صورة فتح السجون وخروج السجناء جماعيا خلال حقبات الحرب اكثر منه كاجراء نظامي قضائي مدروس على إيقاع العدالة المجردة، اذ اختلط الشخصي بالسياسي في إجراءات الرد علي بيطار وغلب عليها وقع انتقامي فاضح نزع عنها كل الطابع الرصين المتشدد الذي يطبع الإجراءات القضائية المتجردة والموضوعية. وذهب المراقبون والخبراء الى التخوف الكبير من ان يكون القضاء اللبناني اختط لنفسه عبر التطورات الأخيرة صورة غير قابلة للترميم بعدما بدا كانه تهاوى و”انتحر” تحت وطأة ممارسات التفلت والتفكك والارتجال والتسييس وحتى سقوطه في شبهة الشخصنة وخدمة أعداء التوصل الى الحقيقة والعدالة في تحقيق انفجار المرفأ بحيث رسمت علامات ريبة امام المدى المفرط الذي طبع هجوم عويدات امس .
اذن بادر القاضي غسان عويدات في يوم امس الى اجراء صاعق تمثل في اطلاق سراح جميع الموقوفين في قضية انفجار المرفأ بدون استثناء ومنعهم من السفر، وجعلهم بتصرف المجلس العدليّ في حال انعقاده وابلاغ من يلزم. وقرن عويدات ذلك باجراء اخر ادعى عبره على المحقق العدلي القاضي طارق بيطار أمام الهيئة العامة لمحكمة التمييز وقرر منعه من السفر، مرسلا كتاباً إلى المديريّة العامّة للأمن العام طالبها فيه بوضع إشارة منع سفر على القاضي البيطار. ووقع عويدات ادعاءً على بيطار بجناية اغتصاب السلطة وممارسة مهامه وأحاله الى الرئيس الأول التمييزي لتعيين قاضي تحقيق لاستجوابه وفق الأصول التي تتبع في ملاحقة القضاة جزائياً.
في المقابل رد القاضي بيطار معتبرا ان “أي تجاوب من قبل القوى الأمنية مع قرار النائب العام التمييزي باخلاء سبيل الموقوفين سيكون بمثابة انقلاب على القانون”. اضاف: “المحقق العدلي وحده من يملك حق اصدار قرارات اخلاء السبيل وبالتالي لا قيمة قانونية لقرار المدعي العام التمييزي. ولن أترك ملف المرفأ وما قام به مدعي عام التمييز مخالف للقانون كونه متنحٍ عن ملف المرفأ ومدعى عليه من قبلي ولا يحق له اتخاذ قرارات باخلاء سبيل موقوفين في ملف قيد النظر لدى قاضي التحقيق. وشدد على أنه “مستمر في واجباته بالتحقيق في ملف انفجار المرفأ الى حين صدور القرار الاتهامي”. وافادت المعلومات أنّ القاضي بيطار لم يستقبل الضابط العدلي الذي ارسله عويدات الى منزله لابلاغه قرار استدعائه الى المثول امامه ورفض تسلّم الدعوى الموجّهة ضدّه.
وأجريت بعد الظهر ومساء عملية تخلية كل الموقوفين وعددهم 17 في ملف انفجار المرفأ بدءا بمدير عام الجمارك بدري ضاهر، بعد قرار القاضي عويدات إطلاق سراح جميع الموقوفين في ملف انفجار المرفأ، ليكون بذلك أول من أطلق سراحه . وحضر أهالي الموقوفين الى أمام مركز الشرطة العسكرية بانتظار خروجهم.
وفي المقابل، عمت اجواء الصدمة والغضب العارم صفوف أهالي شهداء المرفأ الذين تداعوا الى تحرّك احتجاجي واسع اليوم بالتزامن مع انعقاد مجلس القضاء الأعلى .
أصداء سياسية
اما في الاصداء السياسية فبرز موقف لافت لـ”القوات اللبنانية” ايدت فيه مهمة بيطار واستنكرت الهجوم عليه وقالت في بيان “ايمانا من القوات اللبنانيّة باستقلاليّة القضاء، وهو ما تعمل لأجله داخل المجلس النيابي وخارجه، فإنّه لا يسعها التعليق على قرار المحقّق العدلي القاضي طارق بيطار الأخير ولا المسببات القانونيّة أو الواقعية التي أملته، غير أنّها لا تزال ثابتة على موقفها الداعم لنتائج هذا التحقيق وعلى ضرورة استمراره حتى النهاية وصولاً الى اصدار القرار الاتهامي عن المحقّق العدلي وإحالته الى المجلس العدلي لكي تنتصر العدالة من خلال صدور الحكم النهائي باسم الشعب اللبناني عن أعلى مرجع قضائي، فيشكّل هذا الحكم انهاءً لحقبة متمادية من الإفلات من العقاب في لبنان وتعويضًا معنويًّا ومادّيًّا لأهالي الضحايا وللجرحى وللمتضرّرين من الانفجار. إنّ القوات اللبنانيّة تسجّل في الوقت عينه استنكارها لهذا الهجوم غير المبرّر على المحقّق العدلي الذي تسوقه الجهات عينها في كلّ مرّة يتخّذ فيها قرارًا أو تدبيرًا، وكأنّ بعضهم يريد أن يكون فوق القانون والمحاسبة، متسلّحًا بموقعٍ أو نفوذٍ أو طائفة. وهي تناشد مجلس القضاء الأعلى بتحمّل مسؤوليّته التاريخيّة في الاجتماع المزمع عقده غدًا (اليوم) لإنقاذ القضاء وعدم السماح بانفراط عقده وسقوط هيبته وتشتّت مواقعه وتضارب صلاحيّاته وانكسار صورته في ذهن الرأي العام الى غير رجعة وتبعثر قدرته على توجيه الضابطة العدليّة بقراراتٍ متناقضة. ..دعوا القاضي طارق البيطار يكمل تحقيقاته واخضعوا لسلطة القانون ولا تعبثوا بأمن لبنان ولا بمؤسّساته”.
في المقابل سارع “حزب الله” الى تأييد قرارات النائب العام القاضي غسان عويدات. وفي هذا الاطار، اعتبر عضو كتلة “الوفاء للمقاومة” النائب ابرهيم الموسوي أن “قرارات القاضي غسان عويدات خطوة في الطريق الصحيح لاستعادة الثقة بالقضاة والقضاء، بعدما هدمها بعض ابناء البيت القضائي!”
وأعلنت مفوضية العدل والتشريع في الحزب التقدمي الاشتراكي انها “ترفض تماماً ما يحصل في الجسم القضائي من انتهاك سافر للقانون يستهدف العدالة في لبنان، وتدعو القضاة الحريصين بمختلف درجاتهم الى العودة إلى اليمين الذي أقسموه، والالتفاف حول مجلس القضاء الأعلى لكي يستطيع ممارسة دوره ووضع حد لهذا الانقسام، وإعادة الأمور إلى نصابها القانوني، بما يحدد الصفة والصلاحية ويمنع قيام النزاعات الادارية والقضائية، ويشكل ضمانة لكفّ يد العابثين والمتدخلين في سير العدالة وحسن تطبيقها”.
الدولار والمحروقات
اليوم الأسود لم يقتصر على التطورات الخطيرة في القضاء وانما تمدد الى الفوضى المالية والاجتماعية. وفي ظل تسارع وتيرة انهيار الليرة امام الدولار، قفز الهم المعيشي بدوره الى الواجهة وقد اعاد هذا الواقع تحريك الشارع في اكثر من منطقة شهدت قطع طرق وحرق اطارات. وبينما السلطة السياسية تُقف متفرجة، تخطى الدولار سقف الـ56 الفا ووصل ليلا الى سقف 57 الف ليرة . كما حلقت اسعار المحروقات. وعلى وقع اقفال للمحطات لمطالبة الوزارة بمواكبة قفزات الدولار، لبّت وزارة الطاقة والمياه – المديرية العامة للنفط طلبهم، وأصدرت ظهرا جدولاً جديداً بأسعار المشتقات النفطية وتخطت فيه المليون ليرة لصفيحة لبنزين والمازوت مسجلة أرقاما قياسية جديدة.