أحسنتَ دولة الرئيس نجيب ميقاتي، أن تصل متأخراً خير من ألا تصل… فالقاضية غادة عون بشهادة أهل القضاء أنفسهم تستحق “كفّ اليد” التي غرست بها سكاكين العهد العوني وتياره في الجسم القضائي وأوغلت فيها طعناً وتمثيلاً وتحقيراً بهيبة القضاء ومصداقيته وجعلته أشلاء متناثرة وقبائل متحاربة تحت قوس العدالة… والآن هلّا أكملت معروفك بالدفع نحو تكليف قاض محايد نزيه مهمّة كشف “السرية المصرفية” عن حسابات “أصدقائك” المصرفيين؟
الأكيد أنّ علاقة ميقاتي بالمصارف تحكمها معادلة “كبير القوم خادمهم”، وخطوته أمس لا تندرج سوى ضمن سياق إكمال المهمة التي بدأتها عون نفسها في مسار “ضرب القضاء بالقضاء”. فعلى قاعدة “القضاء السايب يعلّم الناس الحرام”، أتى قرار رئيس الحكومة ليكفّ يداً، ويُحكم بدلاً عنها يدَ “منظومة المافيا” المالية الحاكمة على القضاء بـ”قبضة بوليسية” كلّف بها وزير الداخلية بسام مولوي عملية لجم الأجهزة الأمنية عن ملاحقة المصارف امتثالاً لشرطها في سبيل إعادة فتح أبوابها.
فرغم علمه يقيناً بأنّ كتابه سيثير موجات استنكار عارمة تنديداً بنسفه مبدأ “فصل السلطات”، لم يتردّد رئيس الحكومة في “تسطير” مذكرة حكومية موجهة إلى مولوي يطلب منه بموجبها التصرّف إزاء “التصرفات الشاذة وغير المألوفة في عالم القانون” للقاضية عون في مواجهة القطاع المصرفي، ربطاً بتماديها في مخالفة الأصول القضائية والقانونية وتجاهلها “جميع طلبات الرد” المقامة بوجهها، واتخاذ ما يلزم من “تدابير وإجراءات في سبيل تطبيق أحكام القانون والمنع من تجاوزه والمحافظة على حسن سير العدالة”، في إشارة تولى وزير الداخلية ترجمتها بمفعول فوري طالباً من الأجهزة الأمنية “عدم تنفيذ أوامر عون القضائية وعدم مؤازرتها“.
وإذ توالت ردود الفعل على قرار ميقاتي بدءاً مما خلَّفه من تصدع متزايد داخل الجسم الحكومي عبر إصدار وزير العدل هنري الخوري بياناً مناهضاً يشدد فيه على التمسك بـ”استقلالية القضاء وبمبدأ فصل السلطات وبعدم التدخل في عمله، والحرص المطلق على مكانة القضاء ومنعته وحقوق المتقاضين”، وصولاً إلى وضع نقيب المحامين السابق النائب ملحم خلف هذه الخطوة في خانة “ضرب القضاء”، فأكد أنّ “الكتب المرسلة من رئيس الحكومة ووزير الداخلية، تحت حجة الحفاظ على حسن سير العدالة، هي ضرب لمسارات العدالة وانتهاك صارخ لمبدأ فصل السلطات وتدخل مرفوض بالقضاء”، متمنياً لو أنّ “الحماسة المفرطة” التي أبداها ميقاتي في الحرص على “سير العدالة” كان أظهرها “في قضية تفجير المرفأ“.
ولاحقاً، حاول رئيس حكومة تصريف الأعمال عبر مكتبه الإعلامي تبرير خطوته وإعادة تدوير زواياها ببيان ينفي من خلاله التدخل في عمل القضاء، معتبراً أن كتابه الموجه إلى وزير الداخلية “انطلق من موقعه الدستوري وحرصه على تطبيق أحكام القانون ومن كتب وردته وتتضمن عرضاً مفصلاً لمخالفات منسوبة لبعض القضاة”، وجدد التأكيد على أنّ “القضاء المختص يبقى صاحب الصلاحية بممارسة مهامه كاملة وباستقلالية مطلقة دون أي تدخل من قبل أي سلطة أو جهاز، إلا أن ذلك يبقى مشروطاً بأن تكون تلك الممارسة ضمن سقف القانون ولا تشكل تعدياً صارخا على القواعد القانونية”، وخصّ بالذكر في هذا المجال مسؤولية “المحافظة على القطاع المصرفي دون أن يعني ذلك قطعاً جعل أي مصرف في منأى عن أي ملاحقة أو مساءلة أو عدم إخضاعه للتحقيق ومحاسبته في حال ثبوت ارتكابه لأي مخالفة أو تجاوزات قانونية، ولكن مع مراعاة أصول الملاحقة والمحاكمة التي هي في حمى الدستور والقانون“.
وكما على الساحة القضائية، كذلك أثارت إطلالة رئيس حكومة تصريف الأعمال الإعلامية مساء الثلاثاء “هزات ارتدادية” على الساحة المسيحية والكنسية على وجه التحديد، إذ سارعت بكركي إلى تكذيب ما أعلنه ميقاتي لجهة تسلّمه تقريراً إحصائياً أصدرته البطريركية المارونية “حول أعداد المسيحيين في لبنان ومعدلات تناقصهم”، واستغربت في بيان صادر عن مكتبها الإعلامي “إثارة هذا الموضوع المتعلّق بالعدد في لبنان طالما انه قد تمّ تجاوزه في متن الدستور، وبإجماع اللبنانيين على قاعدة المناصفة بين المسيحيين والمسلمين”، مع طرح علامات استفهام إزاء “توقيت هذا الكلام وطرح هذه المسألة الوطنية الأبعاد في هذه المرحلة”، نافيةً أن تكون البطريركية قد أصدرت أو سلّمت أي تقرير من هذا القبيل إلى “أي مرجع داخلي أو خارجي“.
كما علقت “المؤسسة المارونية للانتشار”، على حديث ميقاتي عن “أن نسبة المسيحيين تبلغ 19.4% من اللبنانيين”، لافتةً الانتباه إلى أنّ الانتخابات النيابية الأخيرة أظهرت أنّ “نسبة المسيحيين في القوائم الانتخابية تناهز الـ34.42%، ونسبة المقترعين المسيحيين من مجمل المقترعين ليست بعيدة عن هذه النسبة”، متسائلةً في المقابل عن “سبب اهتمام الرئيس ميقاتي بعدّ المسيحيين (بينما) ما يجب أن يقلق دولة الرئيس أعداد النازحين وولاداتهم المتزايدة باطراد، بما يهدد هوية لبنان الكبير الذي يعاني أصلا من فساد الحكام وانهيار مقومات الدولة وتنامي ظاهرة اللادولة“.