على قبور تنتظر جثث القطاعات التي ينهار الواحد منها تلو الآخر في بلد يحتضر، يرقص المشتبكون بالسياسة والقضاء والأمن وبكل شيء، إلى حدّ تحوّل فيه بلد المؤسسات رهينة بيد مجموعة اشخاص تحوّلوا أقوياء ضعفاء، في غابة غاب عنها القانون وأصبح الدستور «حارة كل من إيدو إلو»، من دون رأس ومن دون ناظم لإدارة الأزمة بالحدّ الأدنى. وفيما تستعصي المعالجات اكثر مع كل يوم يمرّ من دون حلول وقرارات ممن يفترض بهم ان يكونوا ممسكين بمفاصل الدولة، تقدّم مرة جديدة الاشتباك القضائي ـ السياسي على غيره من الملفات، من باب الحرب التي تشنها المدّعي العام لجبل لبنان القاضية غادة عون على المصارف، والتي استدعت تدخّلاً من رئيس الحكومة، عبر قرارين أبطلهما مجلس القضاء الأعلى، في معركة اصبحت فيها كلمة «عصفورية» اسماً على مسمّى مع «مرتبة شرف».
قالت اوساط مواكبة للاشتباك الحكومي – القضائي الدائر لـ«الجمهورية»، انّ ما يجري في البلد من فوضى على كل الأصعدة يوحي أنّ المسؤولين السياسيين فقدوا السيطرة وخسروا المبادرة، وأصبحوا في موقع المتلقّي وردّ الفعل، وباتوا أعجز من ان يصنعوا أي فارق إيجابي.
ولاحظت الاوساط، «انّ السقوط الحرّ للبلد يتفاقم، ومرحلة انعدام الوزن تتمدّد، فيما أصحاب القرار لا يعرفون ماذا ينتظرهم ولا يعلمون كيف سيتصرّفون عندما تقع الواقعة، وهذا ما يفسّر التخبّط الحاصل في نمط التعامل مع الملفات».
وأشارت هذه الاوساط، إلى انّه وبمعزل عن صحة قرارات القاضية غادة عون او عدمها، فإنّ ما صدر عن رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي ووزير الداخلية بسام المولوي لجهة كف يدها عن ملاحقة المصارف لم يكن موفقاً، لأنّه يعكس تدخّل السلطة التنفيذية في شؤون القضاء، إضافة إلى انّه وضع القادة الأمنيين في موضع حرج، خصوصاً انّ الاوروبيين يراقبون الوضع، والوفد القضائي الأوروبي الذي سبق له أن زار بيروت، يستعد للعودة اليها قريباً لاستكمال التحقيق في قضايا تتعلق بحاكم مصرف لبنان رياض سلامة وبعض المصارف.
وتساءلت الأوساط: «كيف سيتمكّن سلامة من الاستمرار في تأدية مهماته بعدما أصبح مدّعى عليه رسمياً من القاضي رجا حاموش بتهمة تبييض الأموال والاختلاس؟». ولفت إلى انّ كل القوى السياسية المؤثرة لا تزال عالقة على شجرة مواقفها المعلنة من الاستحقاق الرئاسي، وما لم تنزل عنها جميعها لانتخاب رئيس الجمهورية، سيستمر الانهيار المتدحرج الذي سيتخذ في كل مرة شكلاً مختلفاً، ولكن جذوره تبقى واحدة وضاربة في أرض الشغور القاحلة.
جلسة أكثر من ملحّة
في غضون ذلك، لم تعد جلسة مجلس الوزراء الرابعة التي سيدعو لها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي اليوم هي الحدث، في بلد كل طرقه تؤدي إلى المهوار، من يحضر ومن يغيب أصبح السؤال ثانوياً، لأنّ المهم ماذا سيفعل مجلس الوزراء وماذا يستطيع ان يفعل…
فالجلسة، بحسب مصادر حكومية لـ»الجمهورية»، أصبحت اكثر من ملحّة لإقرار مجموعة بنود مالية ونقدية طارئة، اهمها صرف بدل النقل للقطاع العام وللقطاع التعليمي، بالإضافة إلى بنود اخرى. وهي ستُعقد باكراً الاثنين، ولم يُعلم ما إذا كان سيُدرج على حدول اعمالها بند التمديد للمدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم. وحسب المعلومات، فإنّ اللجنة المؤلفة من خمسة قضاة لدرس المخرج القانوني، لم تنهِ عملها بعد، وتبين لديها انّ اسقاط المِهل لا ينطبق على اللواء ابراهيم، وقد وعدت بتسليم الدراسة للرئيس ميقاتي خلال ٢٤ ساعة.
لكن مصدراً متابعاً للملف كشف لـ«الجمهورية»، انّ الدراسة انتهت وتتضمن المخرج القانوني الذي ينطبق على حالة ابراهيم، لكن القرار السياسي لا يظلّلها بعد لاعتبارات وحسابات عدة يستفيد كل طرف من تناقضاتها.
واضاف المصدر: «في بلد تداخلت فيه السياسة مع القضاء إلى حدّ الجنون، وتركب فيه التجاوزات وضرب الصلاحيات امواجاً عالية، فهل من عاقل يتوقف عند العفة القانونية بقرار كهذا يتأثر به جهاز أمني على هذا المستوى من الحساسية، ويترك رأسه فارغاً بينما أمن البلاد على كف عفريت؟».
إشتباك حكومي ـ قضائي
وكان دار امس اشتباك حكومي ـ قضائي على خلفية القرارين اللذين اتخذهما رئيس الحكومة ووزير الداخلية لـ»إجراء المقتضى القانوني والحفاظ على حسن سير العدالة» في شأن المدّعي العام لجبل لبنان غادة عون. إذ اصدر مجلس القضاء الأعلى بياناً دعاهما فيه «عملاً بمبدأي فصل السلطات واستقلالية السلطة القضائية المكرّسين دستوراً وقانوناً وتأسيساً عليهما»، إلى «الرجوع عن هذين القرارين اللذين يمسّان بهذين المبدأين»، مؤكّداً أنّه «يعمل على تأمين شروط انتظام العمل القضائي وحُسن سَير العدالة، وذلك وفقاً للأصول والأحكام القانونية المرعية الإجراء، والمصلحة العامة والمصلحة العليا للدولة».
وبدوره «نادي قضاة لبنان» اعتبر في بيان، أنّ « كلاً من رئيس الحكومة ووزير الداخلية آثرا أن يذكّرا الشعب اللبناني اليوم بأنّهما وسائر الطبقة السياسية في البلاد يعيشون في زمن القرون الوسطى، حيث لا قانون ولا شريعة تعلو على إرادة «الأسياد»، فلم يتورّعا عن الطلب من القوى الأمنية عدم تنفيذ قرارات قضائية صادرة عن النائب العام الإستئنافي في جبل لبنان، وذلك لأسباب وحجج متصلة بعملها كقاضٍ، لا يعود لهما أمر تقييمها أو ترتيب نتائج قانونية عليها، لأنّ تصويب الأفعال المشكو منها والمحاسبة يعودان للمراجع القضائية المختصة». ورأى أنّ «هذا التدخّل السافر يشكّل خطيئة كبرى وسابقة خطيرة تجافي أبسط المبادئ القانونية، وينبغي الرجوع عنها فوراً من دون إبطاء.» ودعا «المراجع القضائية ووزير العدل إلى التصدّي لهذا الاعتداء السافر، مع احتفاظه لنفسه بحق اتخاذ أي موقف إضافي تصعيدي عند الإقتضاء».
وأكّدت القاضية عون، التي نُفّذت وقفة تضامنية معها امس، في حديث متلفز، أنّها ستتعاطى مع القرار الصادر عن مولوي، «كأنّه لم يكن كونه صدر عن مرجع غير مختص سنداً للأصول الجزائية».
الادعاء على سلامة
شكّل ادعاء المحامي العام الاستئنافي في بيروت القاضي رجا حاموش، على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة «بجرائم اختلاس الأموال العامة والتزوير واستعمال المزور والإثراء غير المشروع وتبييض الاموال، ومخالفة القانون الضريبي»، الحدث القضائي الأبرز امس. وبالتماهي، تركّزت الانظار على قضية اضراب المصارف المستمر، والذي تردّد انّه سيتمّ رفعه قبل نهاية الشهر، ليتبين لاحقاً انّ هذه المعلومات غير دقيقة، وانّ الاضراب مستمر.
في ملف سلامة، ورغم انّ البعض اعتبر انّ الادّعاء عليه يهدف إلى قطع الطريق على التحقيقات الاوروبية في هذا الملف، إلّا أنّ ذلك لم يحل دون إشاعة القلق في الأوساط المالية التي تترقّب كيف ستكون ردود الفعل على توجيه هذا الاتهام إلى حاكم المصرف المركزي. وفي السياق، قال خبير مالي لـ«الجمهورية»، انّه «ينبغي الانتظار لمعرفة طريقة تعاطي المؤسسات المالية الدولية مع هذا التطور، وإذا ما كانت ستواصل التعاون مع مصرف لبنان، ام انّها قد تأخذ اجراءات احتياطية، كأن توقف التعامل مع المصرف المركزي اللبناني بانتظار صدور الحكم النهائي على سلامة. وإذا حصل هذا الامر، سيواجه البلد معضلة اضافية تستوجب إجراءات خاصة لمواجهتها».
وكان القاضي حاموش ادّعى على سلامة وعلى شقيقه رجا، وماريان الحويك مساعدة سلامة، وكل من يظهره التحقيق، «بجرائم اختلاس الأموال العامة والتزوير واستعمال المزور والإثراء غير المشروع وتبييض الاموال، ومخالفة القانون الضريبي». وأحال الملف مع المدّعى عليهم إلى قاضي التحقيق الأول في بيروت شربل أبو سمرا، طالباً استجوابهم وإصدار المذكرات القضائية اللازمة في حقهم.
وردّ سلامة عبر وكالة «رويترز» على إدعاء حاموش، قائلاً: «أنا بريء من لائحة التهم الجديدة المنسوبة إليّ». وأضاف: «أنا أحترم القوانين والنظام القضائي وسألتزم بالإجراءات».
ورحّب المرصد «الأوروبي للنزاهة» في لبنان، في بيان، بقرار القضاء اللبناني بالادّعاء على سلامة، مؤكّداً «انّ هذا الإجراء الذي طال انتظاره، سيعزز التحقيقات الجارية في أوروبا».
إضراب المصارف
بالتماهي مع قضية سلامة، استمر اضراب المصارف على حاله، خصوصاً بعدما تبيّن انّ القرار الذي اتخذه رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي، لن يغيّر في واقع انّ الملف القضائي الذي فتحته القاضية غادة عون باقٍ كما هو، وقد تواصل مسلسل الادعاءات بشبهة تبييض الاموال على مصارف اضافية. وما زاد من مخاوف المصارف، هو البيان الاستلحاقي الذي أصدره ميقاتي لتوضيح موقفه، بما أوحى انّه نوع من التراجع، وبالتالي، انتفت اسباب تعليق الاضراب المصرفي.
في الموازاة، برز قلق من استمرار الإغلاق الجزئي للمصارف في نهاية الشهر، حيث يحين موعد قبض رواتب موظفي القطاعين العام والخاص. وعلمت «الجمهورية»، انّ اتصالات جرت بين المصارف للبحث في امكانية اتخاذ اجراءات استثنائية في نهاية الشهر، لتسهيل قبض الرواتب، مع الإبقاء على الاضراب قائماً.
توقيف صرافين
في هذه الأثناء، اصدرت الهيئة الإتهامية في بيروت برئاسة القاضي ماهر شعيتو، قرارها القاضي برفض تخلية سبيل 16 من الصرافين غير الشرعيين، وإبقائهم قيد التوقيف بتهمة تبييض الأموال وممارسة مهنة الصرافة من دون ترخيص والإساءة إلى مكانة الدولة المالية. وكانت الهيئة الاتهامية وضعت يدها على الملف بعد استئناف النيابة العامة المالية قرار قاضي التحقيق الأول في بيروت بالإنابة شربل بو سمرا.