لم يكن في ذهن أي لبناني أن يصل الى ما وصل إليه من سوء وبؤس واهتراء، لم يكن في ذهنه أن يصبح يوماً، كما هو حالياً مشروع مَيت، يشعر انّه قد خسر عمره، وآخرته قد دنت. لم يكن في ذهنه يوماً أن يصل، كما هو حاله اليوم، الى لحظة يعتبر فيها أنّ العدو الخارجي أرحَم على لبنان واللبنانيين من عدوّ داخلي يخطف البلد وأهله، ويُمعن بسياسته الخرقاء وأنانياته الحاقدة وارتهاناته المجرمة، عبثاً وتخريباً وفتكاً بلبنان، الذي وصل مع هذا العبث التدميري إلى آخر مراحل انزياحه من مكانه على خارطة الوجود.
الآثار التدميرية لتلك السياسات صارت مُعمّمة على البلد من أدناه الى أقصاه، كوارث تتوالى من الاخطر الى الافظع، والمواطن اللبناني كأنه مسلوب الإرادة، مشلول العقل والتفكير، لا يعرف ما الذي يزرع في نفسه الصّبر والتحمّل حتى الآن، بات يشعر أنّه اقترب من آخر المشوار؛ لا مناعة، لا حصانة، لا سياسة، لا اقتصاد، لا مال، لا أمان، وآلة التدمير شغّالة على مدار الساعة، عاهدت نفسها على ربط الشعب اللبناني البائىس بإطلالة يومية على كارثة جديدة، وحَبسه في نفق الدولار الذي بدأ يطرق باب المئة الف ليرة، وتركه فريسة مشلولة لا حول لها ولا قوة، بين أنياب عصابات التشليح.
الصورة الداخلية فلتان شامل من دون إعلان، دولار السوق السوداء سكين يذبح بالنّاس، ورفع الدولار الجمركي الى 45 الف ليرة، شرّع الباب واسعاً امام هيستيريا الاحتكار والاسعار، مسار مكمّل الى الأسوأ، فيما هنود السياسة الحمر يتبادلون أنخاب التعطيل على موائد الممدودة على طول وعرض حساباتهم ومصالحهم، فوق جثة البلد.
فلتان العصابات، يقابله فلتان سياسي أطلق العنان لرقصة متواصلة حول نار الأزمة، وليس من بين الراقصين من يحاول ان يلقي عليها قطرة ماء لإطفائها. في هذا الفلتان ضاعت رئاسة الجمهورية، وشلَّ المجلس النيابي، وحكومة تصريف الأعمال بالكاد تفرض نفسها بدلاً عن ضائع. أما معطّلو الحياة في لبنان، فأثبتوا انهم النقيض للدولة، ومجموعة أسافين مغروسة عنوة في الهيكل اللبناني مصدّعة لأسسه، وفاقوا نظراءهم في كل دول العالم، حتى في ما توصف بأنها الدول الأكثر ظلما وتخلفا، بأنّهم الأكثر جدارة في التراخي واللامبالاة، والنفاق والتكاذب والغش، وتخدير الناس بشعارات مهما زيّنت وجمّلت بديباجات ومضامين برّاقة، لا تنفي حقيقة انهم عراة بالكامل، بينهم وبين الشعور الوطني، والحس بالمسؤولية مسافات زمنية طويلة.
في هذا الجو، ما من شك أنّ القيامة صعبة، إن لم تكن مستحيلة، فالدولة في موت سريري على شفير موت حقيقي، وليس من يردع عصابات التشليح والافقار التي لم تعد أمامها أي محرّمات. وليس ما يجمع، او من يجمع، بين مكونات التعطيل ويقودها طوعاً أو كرهاً الى ضفة العقل والتسهيل. وهو الأمر الذي يُخشى أن يؤسّس لمنحدرات اكثر خطورة وعمقاً مما نشهده في هذه المرحلة، وهو ما اشارت اليه تحذيرات متجدّدة أطلقتها المؤسسات المالية الدولية من «انّ عدم انتظام الواقع السياسي في لبنان، بانتخابٍ عاجل لرئيس الجمهورية وتشكيل حكومة مهمّات واصلاحات، سيعجّل بالانهيار الشامل فيه ما يجعل الواقع في لبنان امرا ميؤوسا منه بالكامل، وتتعاظم فيه مأساة الشعب اللبناني».
وكشفت مصادر مالية موثوقة لـ»الجمهورية» ان التقرير أعدّته مؤسسة مالية دولية حول الدول الأكثر تأزماً في العالم، قاربَ وضع لبنان بسلبية غير مسبوقة، حيث أدرج هذا البلد تحت خانة «خطير جدا»، وألقى باللائمة على السياسيين «في مماطلتهم امام متطلبات الازمة في بلدهم، ومفاقمتهم الظلم على الشعب اللبناني، ومراكمة الاسباب الدافعة الى الانهيار المتسارع في لبنان»، وينتهي الى خلاصة شديدة الخطورة مفادها «انّ لبنان بلغ الوقت الصعب جدا، وبات مهددا بواقع كارثي في المدى المنظور، يحتل فيه مرتبة الدولة الأشد فقراً في العالم».
شهر الانهيار
وسألت «الجمهورية» مسؤولا كبيرا عما إذا كان في الامكان المبادرة الى اي خطوة جدية تمكنّنا من الصمود، فجاء جوابه محبطا، حيث قال: «الوضع السياسي صفر مكعّب، فلا شيء جديداً على الاطلاق، لا يريدون الحل، ولا يريدون انتخاب رئيس الجمهورية، بل لا يريدون جمهورية ولا يريدون مؤسسات تعمل، يريدون كل شيء معطلاً. المشكلة عندنا، وارادة التخريب عندنا وليس في اي مكان آخر».
اضاف: امام هذا الواقع لم يعد في الامكان القيام بشيء، قلت في السابق وأجدّد القول انّ بلدنا انتهى، واخشى ان اقول ان شهر آذار هو شهر الانهيار. وليس امامنا سوى ان نحضر أنفسنا لتلقّي الصدمات، وما نشهده على المستوى المالي وقفزات الدولار الى سقوف مفتوحة، ينذران بأننا دخلنا في الصعب، فكيف للناس ان تستمر وتعيش وتؤمن قوتها ولقمتها مع دولار بثمانين او تسعين او مئة الف ليرة؟ وكيف يمكن ان نحتوي هذه الأزمة طالما في السياسة عقول مخدّرة وعيون لا ترى وآذان لا تسمع، وذهنيات تتلذذ بالتوتير والتخريب؟
وتبرز في هذا السياق، تغريدة جديدة لمنسقة الامم المتحدة في لبنان يوانا فرونتسكا قالت فيها: «بلغنا الشهر الخامس من الفراغ الرئاسي في لبنان. إن الاستجابة للاحتياجات المتزايدة والمشروعة للشعب تتطلب انتخاب رئيس للجمهورية من دون مزيد من التأخير. وعلى القادة السياسيين إعطاء الأولوية للمصلحة الوطنية في هذه اللحظة الحرجة».
فرصة دولية!
وعلى الرغم من انّ فرص الانفراج الداخلي معدومة، وخصوصا في ما يتصل بالملف الرئاسي، قرأت مصادر معنية بهذا الملف فرصة جديدة للبنانيين للتوافق على انتخاب رئيس للجمهورية. يتيحها الحراك الديبلوماسي الأخير، الذي تجلّى بمروحة الزيارات الواسعة التي قامت بها السفيرة الاميركية دوروثي شيا لمستويات سياسية وروحية.
وبحسب مطلعين على اجواء تلك الزيارات «لا شيء نوعيّاً يمكن البناء عليه، لا مبادرات جدية، بل تمنيات، وتحذير متجدّد من أن الوضع في لبنان بات في أمَسّ الحاجة الى انتخاب رئيس وتشكيل حكومة، وهو ما جرى التأكيد عليه في الاجتماع الخماسي في باريس». وكان تأكيد، وهنا الأهم، على «أن واشنطن ليست طرفاً في اختيار رئيس لبنان، فهذا الأمر من شأن اللبنانيين».
هل من خلاف؟
يُشار الى انّ حراك السفيرة الاميركية أعقبَ حراكاً للسفيرة الفرنسية آن غريو في اتجاه المسؤولين في لبنان، والحراكان جاءا على مسافة ايام من جولات سفراء دول الاجتماع الخماسي على المسؤولين. وهو ما دفعَ مصادر معنية بالملف الرئاسي الى أن تقارب هذه الحراكات بحذر وتحيطها بعلامات استفهام.
وقالت المصادر لـ»الجمهورية»: أيّ حراك يرمي الى مساعدة اللبنانيين وحثّهم على انتخاب رئيس امر يحتاجه لبنان من كل الاصدقاء والاشقاء، ولكن ثمة ما يلفت الانتباه هو تعدّد هذه الحراكات، فهل انّ حراك السفيرة غريو قبل ايام، وبعدها حراك شيا في اليومين الاخيرين، مترابطان او متقاطعان او مكمّلان لبعضهما البعض، او انّهما منفصلان، يتحرّك كل طرف بمعزل عن الآخر على نحو ينعى الاجتماع الخماسي، ويؤشر الى خلاف اميركي فرنسي في النظرة الى الملف الرئاسي اللبناني؟ حتى الآن ليس ثمة جواب لدينا».
3 ملفات حياتية ساخنة
مالياً ومعيشياً، تصدّرت المشهد الاقتصادي والمعيشي أمس ثلاثة ملفات ساخنة. أولها استمرار ارتفاع سعر صرف الدولار بوتيرة سريعة غير مسبوقة، بحيث اقترب من الـ100 الف ليرة، اي مرحلة الستة أرقام، ونكون بذلك قد دخلنا في مرحلة التضخّم المفرط (hyper inflation)، الذي يؤدي الى الدوران في حلقة مفرغة، والى فقدان العملة الوطنية لقيمتها، واقتراب مشهد اكياس الليرات مقابل دولار واحد. ولم يعد مستبعداً طبع فئة المليون ليرة لتسهيل حمل العملة اللبنانية.
الملف الثاني، استجدّ مع قرار رفع سعر الدولار الجمركي من 15 الى 45 الف ليرة. هذه الخطوة ستؤدي حكماً الى زيادة الضغط المعيشي على المواطنين الذين سيشهدون تراجعا اضافيا في قدراتهم الشرائية. كما انّ التجار الذين سبق واستوردوا كميات كبيرة من السلع في العام 2022 تحسّباً لرفع الدولار الجمركي في حينه من 1500 ليرة الى 15 الف ليرة، سوف يستفيدون من الوضع لرفع اسعار السلع المكّدسة لديهم، في غياب اية رقابة من قبل الجهات المعنية.
الملف الثالث يرتبط ببدء التسعير بالدولار في السوبرماركت. وقد تبيّن في اليوم الاول للبدء في تنفيذ القرار، حجم الارباكات القائمة، حيث شعر المستهلك بالضياع، خصوصاً ان سعر الدولار الذي اعتمد لم يكن موحّداً بين مراكز البيع (السوبرماركت)، بما يعني انّ الامر يحتاج الى مزيد من التنظيم والرقابة لكي لا يتحول الى مشكلة اضافية بدلاً من ان يكون حلاً لمشكلة تغيّر الاسعار اليومي ربطاً بتغيّر سعر صرف الليرة.
المطارنة: مسؤولية النواب
أعلن المطارنة الموارنة، في بيان، بعد اجتماعهم الشهري أمس برئاسة البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي انهم «يضعون نواب الأُمة أمام مسؤوليّاتهم الضميريّة تجاه انتخاب رئيس جديد للبلاد»، معتبرين «أنّ تهرُّبهم من المسؤولية الوطنية يُفاقِم من تدهور الأوضاع العامة، ويزيد من آلام اللبنانيين، ويُعمِّق فيهم الخوف على المستقبل، ويُقدِّم لهم البرهان تلو البرهان على فراغٍ رهيب في إدارة البلاد، فيما الدول الصديقة والشقيقة تُلِحّ بدعوتها لهم إلى المُبادَرة الإنقاذية التي لا مفر منها لخلاص لبنان من الأخطار المصيرية التي تتهدّده».
وناشَد المطارنة حكومة تصريف الأعمال «التحلّي بأقصى درجات حسن التدبير والحكمة في مُمارَسة واجباتها في نطاق ما يُجيزه لها الدستور والمصلحة العامة، وتحاشي كلّ ما من شأنه عرقلة السير الطبيعي المنشود للشأن العام».
وأعربوا عن «خشيتهم من تصاعد التفلُّت الأمني وتزايد الجريمة لأسبابٍ مُتنوِّعة خارجة كلّها عن حكم القانون، ومُحرِّضة للنفوس الضعيفة على تجاوز التدابير المشكورة التي تتخذها المؤسّسات الأمنيّة والعسكريّة، خصوصًا في هذه الظروف الحرجة. ويناشدون هذه المؤسسات مضاعفة الحزم والحسم لحماية البلاد من تفاقم الإخلال بالأمن والإنزلاق التدريجي نحو الفوضى».
وناشَدوا «المعنيين الرسميين، والإداريين في القطاعَين العام والخاص، وضعَ حدٍّ نهائي للصراع العبثي المدمِّر الذي وقع فيه القضاء كما المصارف، والذي قد يُؤدِّي إلى عزل لبنان عن الدورة المالية العالمية، وإلى حرمان الأفراد والشركات المختلفة من تأمين ضرورات الحياة والاستمرار على نحوٍ خطر للغاية».
مغادرة ابراهيم
من جهة ثانية، غادر المدير العام للامن العام اللواء عباس ابراهيم موقعه على رأس الأمن العام لمناسبة انتهاء ولايته، حيث أقيم حفل تكريمي في المركز الرئيسي للمديرية في بيروت. وتوجّه اللواء ابراهيم الى الضباط والعسكريين مؤكدا انه «سيبقى الى جانبهم وجانب عائلاتهم»، ودعاهم الى «ان يحافظوا على الامانة التي سيتركها». وقال: «بعدما قيل لا اعتقد انّ شيئاً سأزيده في المناسبة، وقبل مغادرة المديرية كان لا بد من اللقاء بكم. منذ 12 عاماً كنّا هنا وقلت: أنا سأعمل لمديرية تفتخرون بها. وانا الان افتخر بكم، كنتم نعم السند ونعم العضد».
وفي دردشة مع الاعلاميين قال ابراهيم رداً على سؤال عن مدى الفراغ الرئاسي:
«يخلق الله ما لا تعلمون ولكني غير مطمئن».
وحول الحقيبة الوزارية التي يحب ان يتولاها، قال اللواء ابراهيم: «الخارجية. وسأتابع العمل السياسي واي شيء يخدم لبنان ولن أوفّر علاقاتي من اجل الوطن».
وأكد ردّاً على سؤال: «بيتي سيبقى مفتوحاً، كما كنت في الجيش والامن العام وسأبقى استمع الى هموم الناس ومعاناتهم وأقف الى جانبهم».
واضاف: «لم اطلب التمديد ولا مرة، وغير صحيح انني زرت الرئيس نبيه بري او النائب جبران باسيل لأخذ وعد بالتمديد، وباسيل لم ينكث بوعده».
وكان إبراهيم قد وضع صباحاً حجر الأساس لمبنى دائرة أمن عام بيروت الجديد في محلة الكرنتينا قرب فوج إطفاء مدينة بيروت. وفي المناسبة، قال: «لا مكان للتقاعد وسنكمل المشوار في ميادين أخرى». ورداً على سؤال بعد انتهاء الاحتفال، قال: «أنا ما حَدا بيغدرني». وعما اذا كان سيتولى حقيبة وزارية قال: «علينا البحث وإيجاد فخامة رئيس».
البيسري
وفي الحفل التكريمي، قال العميد الياس البيسري الذي سيتولى مهام المديرية بعد ابراهيم: «مهما تحدثنا لن نوفيك حقك بما قمت به ولا يسعني الا ان أعدك بإسمي وبإسم رفاقي الضباط وكل العسكريين بالأمن العام أن نسعى بكل ما أوتينا من قوة وعزم وارادة من أجل ان نبقى على خطاكم في عملنا داخل المديرية، لكي نكمل الخطط التي وضعتها والتي حالت الظروف القاهرة، اعتباراً من ملف النازحين السوريين، الى جائحة كورونا، الى الانهيار الاقتصادي والمالي، من استكمال تنفيذها. وسنكون على قدر المسؤولية والثقة اللتين منحتهما لنا».
أميركا والحزب
من جهة ثانية، أعلن برنامج «مكافآت من أجل العدالة» التابع لوزارة الخارجية الأميركية، عن مكافأة بقيمة 10 ملايين دولار أميركي مقابل الإدلاء بمعلومات تؤدي إلى تعطيل الآليات المالية لـ«حزب الله».
وأشار البرنامج الى انّ الحزب «يعتمد على شبكات التمويل والتيسير لمواصلة ما يقوم به من عمليات ولشن الهجمات على مستوى العالم». واتهم الحزب بأنه يستخدم هذه الأموال لدعم نشاطاته المشبوهة في جميع أنحاء العالم بما في ذلك: نشر أعضاء ميليشياته في سوريا لدعم ديكتاتورية رئيس النظام السوري بشار الأسد؛ وعمليات مزعومة لممارسة عمليات المراقبة وجَمع المعلومات الاستخبارية في الولايات المتحدة؛ وتعزيز القدرات العسكرية لدرجة أنّ «حزب الله» يدّعي امتلاكه قذائف دقيقة التوجيه.
كذلك أعلنت وزارة الخارجية الأميركية عن مكافآت مقابل الإدلاء بمعلومات من شأنها أن تؤدي إلى الكشف عن «مصادر الدخل الأساسية أو آليات التيسير المالي الرئيسية للتنظيم، والجهات المانحة الرئيسية لـ«حزب الله» والميسّرين الماليين، والمؤسسات المالية ومكاتب الصرافة التي تُيسّر عن عَمد معاملات «حزب الله» المهمة، والأعمال والاستثمارات التي يملكها «حزب الله» أو يديرها عليها، والشركات الصورية العاملة في مجال المشتريات الدولية للتكنولوجيا المزدوجة الاستخدام، والمخططات الإجرامية التي يتورّط فيها أعضاء «حزب الله» وأنصاره الذين يستفيدون منها من الناحية المالية».