إشتدي يا أزمة تنفرجي.. او تنفجري، هكذا بدا المشهد أمس سياسياً واقتصادياً مالياً ومعيشياً. إرتفاع صاروخي للدولار بلغ عتبة الـ 150 الف ليرة للدولار الواحد، ثم تراجع سريع إلى 115 الفاً، بقرار ممجوج كالعادة لمصرف لبنان برفع سعر صيرفة إلى 90 الف ليرة، لتتكرّر بعد ايام اللعبة نفسها ويعود الدولار إلى الارتفاع على يد الغرف السوداء التي يعرفها الجميع ولا يملكون الجرأة او لا يريدون تدميرها. الّا انّ هذا الواقع المتفجّر سيعيد الاحتشاد الشعبي إلى ساحة الشهداء اليوم، في حراك قد يكون هذه المرة اكثر صرامة إن كُتب له ان يستمر، في غياب الإرادة الرسمية عن توفير الحلول الناجعة، وانسياق الطبقة السياسية وراء كيدياتها ونكاياتها، معطّلة إنجاز الاستحقاق الرئاسي والبدء ببناء سلطة جديدة، فيما المنطقة تتغيّر من حولنا ويتلهّى الأفرقاء السياسيون في تحليل أبعاد هذه المتغيّرات ومحاولة الإفادة منها خدمة لمصالحهم السياسية الخاصة، بدل الاستثمار فيها للبدء بإنقاذ البلاد. لكن المراقبين يخشون من ان تكون هناك قوى سياسية كامنة خلف الحراك الشعبي اليوم، لتوظيفه في اتجاه الضغط على العواصم المهتمة بالشأن اللبناني ودفعها إلى تغيير الخيارات التي ستنتج من الاتفاق السعودي ـ الايراني على الساحة اللبنانية، والتي يبدو انّها قد ترضي فريقاً ولا يرضى بها آخر، بدأ يحاول المشاغبة عليها، معتقداً انّه يمكن ان يدفع المعنيين إلى تعديلها او تغييرها، متناسياً انّه أضعف من ان ينال مبتغاه امام محدلة الاتفاق السعودي ـ الايراني الذي أدخل المنطقة في مرحلة ليس سهلاً على أحد تغيير الأهداف التي سيحققها من اليمن إلى لبنان مروراً بالعراق فسوريا.
تستمر القوى الداخلية في «الانتظار السلبي» لترجمة مفاعيل الاتفاق السعودي ـ الايراني على مستوى الاستحقاق الرئاسي، من دون أن تبادر هي إلى تحمّل مسؤولياتها في ابتكار تسوية محلية الصنع تنهي الشغور المكلف في رئاسة الجمهورية وتمهّد لعودة الانتظام إلى مؤسسات الدولة المتهالكة.
وبالترافق مع الانتظار الثقيل الوطأة، أكّدت مصادر مطلعة لـ«الجمهورية»، انّه أصبح هناك اقتناع لدى عدد من الاوساط الخارجية، بأنّ اسمي رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المقبلين ليس لهما معنى بمعزل عن إعادة صوغ دور لبنان وتحديد خياراته في المرحلة المقبلة.
وكشفت المصادر، انّ الموقف الأميركي لا تعنيه الاسماء، وليس لديه مانع في انتخاب أي منها يمكن التوافق عليه، إذ انّ المهم بالنسبة إلى واشنطن هو التزامات الرئيس المقبل اكثر من هويته.
ليف في بيروت
وفي إطار التحرّكات الديبلوماسية العربية والاجنبية في اتجاه لبنان، تصل إلى بيروت في الساعات المقبلة مساعدة وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى باربارا ليف، في ختام جولة شملت تونس ومصر والاردن قبل لبنان. وقالت مصادر ديبلوماسية لـ«الجمهورية»، انّ هذه الجولة تهدف إلى استطلاع التطورات في المنطقة على أكثر من مستوى، قبيل سلسلة اجتماعات ستُعقد في وزارة الخارجية الاميركية، وعليها أن تقدّم تقريرها فيها.
ولفتت المصادر، إلى انّ ليف التي ستبدأ لقاءاتها مع المسؤولين اللبنانيين غداً الخميس، ستلتقي كلاً من رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي ووزير الخارجية عبد الله بوحبيب، عدا عن لقاءات أخرى لم يتضمنها البرنامج الرسمي للزيارة.
وأشارت المصادر، انّ لليف مواقف سابقة واضحة وصريحة عبّرت فيها عن مدى فهمها للوضع اللبناني، وقد شدّدت فيها منذ اشهر عدة سبقت خلو سدّة الرئاسة، على أنّ عدم انتخاب رئيس للجمهورية سيُدخل لبنان إلى فراغ سياسي غير مسبوق، ما ينذر بـ»انهيار الدولة مجتمعياً». وانّ الفشل هذا لا يهدّد الاقتصاد فقط بالنظر إلى الأزمة النقدية، ولكنه يهدّد ايضاً وجود لبنان كدولة.
وحسب المصادر، ستؤكّد ليف أمام المسؤولين، انّ على اللبنانيين القيام بما هو مطلوب منهم، وخصوصاً انتخاب رئيس للجمهورية، وأنّ بلادها وغيرها من حلفائها ستكون إلى جانبهم، وهي لم تقصّر يوماً في دعم الجيش اللبناني أو عبر تسهيل اتفاقيات الطاقة أو دعم المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، لكن كل هذه التدابير لن يكون لها تأثير ما لم ينتخب مجلس النواب اللبناني رئيساً للجمهورية، وقد فشل في ذلك حتى الآن، ما يترك لبنان في فراغ سياسي غير مسبوق.
مبادرة بكركي ويوم الصلاة
وفي هذه الأجواء، دعت مصادر قريبة من بكركي عبر «الجمهورية»، إلى عدم الربط بين المبادرة البطريركية المتعلقة بالاستحقاق الرئاسي وبين دعوة البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، النواب المسيحيين إلى الرياضة الروحية ويوم الصلاة والتأمّل في الخامس من نيسان المقبل. واعتبرت انّ هذه الرياضة خطوة منفصلة تماماً عن المبادرة البطريركية الرئاسية.
ولفتت المصادر، إلى أنّه سيكون هناك برنامج تفصيلي ليوم الصلاة وسيكون لدى المدعوين الوقت المناسب.
وعبّرت عن ارتياح البطريرك إلى التجاوب شبه الشامل الذي لقيته الدعوة، آملاً في ان تحقق ما يريد منها في هذه الظروف العصيبة التي تمرّ فيها البلاد.
وقالت اوساط كنسية لـ«الجمهورية»، انّ الهدف الأساس من الرياضة الروحية هو توجيه رسالة مفادها «أنّ العلاقات الانسانية يجب ان تفوق كل التباينات السياسية، وكذلك يجب ان تشكّل مدخلاً إلى تفاهمات وطنية». وأوضحت «انّ الخلوة لن تبحث في المسائل السياسية المباشرة، ولكن مجرد ان تجمع في صورة ومشهدية النواب المسيحيين متحالفين او متخاصمين ولو لم يكن الحديث طابعه سياسي انما مجرد اللقاء ومجرد النقاش ومجرد الصلاة ومجرد مقاربة الامور التي لها الطابع القيمي بالمفاهيم والعناوين الكبرى، فهذا كفيل بالتقريب على المستوى الشخصي والانساني، وهذا التقريب إن من خلال الوجود تحت سقف واحد وإن بطبيعة المكان، اي الصلاة، وإن من خلال التوافق على عناوين كبرى قيمية انسانية، كل هذه الامور لا بدّ ولا شك من ان تشكّل الأرضية الصالحة لمقاربات مختلفة، وقد تؤدي في شكل ضروري وتلقائي إلى تخفيف التشنجات وإسقاط التوترات، وهذا كفيل في حدّ ذاته ان ينقل النقاش في مربعات اخرى وفي مناسبات اخرى، من خطاب متوتر إلى خطاب توافقي. وهذه الجلسات ستشكّل تمهيداً لمزيد من التواصل وتحقيق الاختراقات. وبالتالي، تقول المصادر الكنسية، يجب ان نبدأ من مكان ما، والبداية تكون بجمع النواب بالصلاة، بالتفكير، بضرورة الوصول إلى حلول، الناس يجب ان تلتقي بعضها مع بعض، جميع اللبنانيين تحت سقف دولة واحدة وضمن مركب واحد، و»ما يصيب فلان يصيب علتان»، ومصير واحد ولا خيار لهم الّا من خلال التواصل وتوسيع مساحات التلاقي بما يمكنهم من إنقاذ بلدهم واوضاعهم وإخراجهم من كبوتهم».
إستحالة جلسة حكومية
من جهة ثانية، قالت مصادر وزارية لـ«الجمهورية»، انّ رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي يتريث في الدعوة إلى جلسة لمجلس الوزراء، في انتظار استكمال البحث في ملف موظفي القطاع العام في ظلّ الاضراب المفتوح، وطريقة تنفيذ الوعود التي قطعها لهم لتحسين رواتبهم وآلية صرف منحة الليترات الـ5 من البنزين يومياً لكل يوم حضور، كما كان تقرّر في الجلسة الاخيرة للمجلس.
وقالت المصادر، انّ سبب التريث في الدعوة إلى الجلسة يعود إلى عجز وزارة المال عن تقديم الآلية التي ستُعتمد لتحسين أوضاع العسكريين والمدنيين بعد تدهور سعر صرف الليرة وارتفاع سعر صفيحة البنزين الى سقوف غير مسبوقة، وهو امر مرتبط بالإضراب شبه الكامل لموظفيها ودوامهم ليوم واحد كل أربعاء من كل أسبوع.
يوم سوريالي
وكانت البلاد شهدت امس يوماً سوريالياً على مستوى انهيار العملة الوطنية، وقد تدحرجت الليرة بسرعة قياسية خلال ساعات النهار، ووصل الدولار إلى عتبة الـ145 الف ليرة، الأمر الذي نشر الذعر والقلق، بحيث شعر المواطن انّ الانهيار الكبير أصبح على قاب قوسين أو أدنى. وقد اقفلت محطات المحروقات في غالبيتها، بعدما تعذّر عليها اللحاق بسعر الدولار المحلّق بلا سقف.
وبدا المواطن مذهولاً امام مشهد الانهيار التام، فيما الدولة غائبة كلياً وكأنّ ما يجري لا يعنيها، وكأنّ اهل القرار يعيشون في كوكب آخر. وزاد هذا الشعور من منسوب القلق والرعب والذهول.
وفي الساعات الاولى من بعد الظهر، فاجأ مصرف لبنان الأسواق بإعلان تدخّله مجدداً، بائعاً الدولار عبر منصة «صيرفة» على سعر 90 الف ليرة للدولار، وصعق هذا التدخّل المفاجئ الاسواق، ودفع الدولار إلى التراجع السريع إلى حدود الـ110 آلاف ليرة للدولار الواحد.
وعلى الرغم من انّها ليست المرة الاولى التي يتدخّل فيها مصرف لبنان المركزي للجم الدولار، وإبطاء سرعة ارتفاعه، إلّا انّ الجديد هذه المرة يكمن في نقطتين:
اولاً، انّ مصرف لبنان قرّر بيع الدولار عبر الصرّافين، بسبب استمرار اضراب المصارف. وتبين لاحقاً انّ المصارف قرّرت تعليق الاضراب، وانّها ستساهم في عملية التداول عبر منصّة «صيرفة».
ثانياً- انّ حاكم مصرف لبنان اعلن نيته شراء كل الكتلة النقدية الموجودة في السوق بالليرة، مؤكّداً قدرة المركزي على القيام بهذا الامر.
في النقطة الاولى، سرت علامات استفهام كثيرة، قبل ان تعلن المصارف تعليق الاضراب، ومنها عمّا إذا ما كان المجال مفتوحاً للجميع لشراء الدولارات، على اعتبار انّه في المرة السابقة، لم يكن مسموحاً للعاملين في قطاع المحروقات شراء دولار «صيرفة». كما كان يتمّ تحديد من يحق له الشراء من خلال المصارف، وانطلاقاً من امتلاك الزبون لحساب مصرفي. هذه الرقابة غير متاحة عبر الصرافين. ومع ذلك، بقي التساؤل قائماً اذا ما كان المطلوب هذه المرة فتح المجال للجميع، ومن دون سقوف لبيع الليرة.
اما في النقطة الثانية، فهناك تساؤلات عن المقصود بشراء الكتلة النقدية بالليرة بالكامل. فهل سيتمّ تجفيف السوق من الليرات، وسنشهد في الايام المقبلة أزمة ليرة نقدية غير متوفرة؟ وكيف سيتمكن المصرف المركزي من الاحتفاظ بالليرات لديه، فهل هناك نية لتغيير مجرى اللعبة، ودولرة السوق بالكامل؟ وماذا عن مصاريف الدولة بالليرة، وكيف سيتمّ التعاطي معها؟
إلى جانب هذه التساؤلات، هناك ملاحظة رئيسية وهي انّ «صيرفة» ارتفعت بنسبة 25% دفعة واحدة. وهذا الارتفاع شبيه بالارتفاع الذي حصل قبل اسابيع قليلة عندما تمّ رفع سعر دولار المنصة من 45 الف ليرة إلى 70 الف ليرة. وهذا الامر سيؤدي إلى ارتفاع جنوني في الاسعار المرتبطة بالمنصة ومنها الكهرباء وفواتير الانترنت والهاتف الخلوي وسواها.
وهذا التضخم في الاسعار، يزيد الضغوط المعيشية بنحو غير مسبوق، وقد عبّر عن هذه المأساة القطاع العام الذي أصبح مشلولاً بكامله، وهناك استحالة لإعادة موظفي الدولة إلى اعمالهم في هذه الظروف. فهل اقترب موعد الانهيار التام؟ وهل ستبقى الدولة في موقف المتفرج؟ وهل تحتاج السلطة الى دروس اضافية في أهمية الوقت للإنقاذ، بعدما شهدت ما تفعله الدول والحكومات عندما تواجه بوادر أزمات مالية، كما حصل في الولايات المتحدة الاميركية، وفي سويسرا وفي اوروبا عموماً؟ فإجراءات الإنقاذ هناك تُقاس بالساعات وليس بالايام. اما في لبنان، وبعد ثلاث سنوات ونصف سنة من الانهيار المالي والاقتصادي، فإنّ تحركات المعالجة يبدو انّها لا تُقاس بالسنين بل بالعقود، وهذا يعني أن لا انقاذ ولا من ينقذون.
جمعية المصارف
وإلى ذلك، أصدرت جمعية مصارف لبنان، البيان الآتي: «لمناسبة بداية شهر رمضان الكريم وتسهيلاً لأمور كافة المواطنين وعلى ضوء الاتصالات الجارية مع السلطات المعنية لمعالجة الخلل في المرفق القضائي والمرفق التنظيمي، تقرّر جمعية مصارف لبنان تعليق الاضراب ومتابعة اتصالاتها مع السلطات المعنية، على أن تتخذ موقفاً في ضوء النتائج العملية لهذه الاتصالات، وذلك ابتداءً من صباح يوم غد (اليوم)».
المرصد الاوروبي
وفي هذه الأجواء، أشار المرصد الأوروبي للنزاهة في لبنان في بيان، الى «أنّ الإنهيار الذي تشهده الليرة مقابل الدولار الاميركي في بيروت كبير جداً ويستدعي التوقّف عنده»، مشدّداً على أنّ «المسؤولية الكبرى تقع على الحكومة وعلى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الملاحق في العديد من دول العالم بتهم الاختلاس وتبييض الاموال والإثراء غير المشروع والتزوير واستعمال المزور».