تتبّعت الأوساط السياسية امس وقائع جولة السفير السعودي وليد البخاري على المرجعيات الدينية والقيادات السياسية لليوم الثاني على التوالي، في محاولةٍ لاستكشاف ما عاد به من الرياض حول مستقبل دورها في لبنان في ضوء الاتفاق السعودي ـ الايراني، وكذلك حول حقيقة الموقف السعودي من الاستحقاق الرئاسي، بعدما حاول بعض القوى السياسية تصنيفه في خانة فريق ضد فريق آخر. فيما تبيّن وجود موفد قطري يجول سراً على بعض القيادات ويردّد أمامها ان ليس لدى قطر مرشّح معيّن لرئاسة الجمهورية تدعمه او تسوّق له، وأنما ترى انّ هذا الامر متروك للبنانيين ليتفقوا على رئيس جديد.
لبنان مقبرة التسويات حتى إشعار آخر، فبعد التعلّق بالقشة الايرانية عند زيارة وزير الخارجية الايرانية امير حسين عبداللهيان بيروت، جاء دور القشة السعودية التي تمثلت بجولة السفير السعودي والتي علّق عليها اللبنانيون أملاً بقرب الحل. لكن الواقع في مكان آخر، إذ اكدت مصادر مواكبة للحركة السياسية على خطوط لبنان في اتجاه فرنسا والسعودية وايران لـ»الجمهورية» انّ عنصرين أساسيين يمكن الخروج بهما من كل هذا الحراك: الاول هو انّ المواقف الخارجية أجمَعت على ان لا «فيتو» على أحد وعلى اللبنانيين ان يتفقوا فيما بينهم على رئيس سيحظى بتأييد اقليمي ودولي طالما هناك إجماع عليه. والثاني هو انّ لبنان مقبرة التسويات لأنّ كل التحولات والكلام الاقليمي المتقدّم في الملف الرئاسي يصطدم بالانقسام الداخلي حول شخصية الرئيس والسد المنيع الذي ترفعه الكتل المسيحية الكبرى بوجه رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية. وبالتالي كل الحراك الذي شهدته الساحة الداخلية دخل من الابواب وخرج من النوافذ، ولا تزال الامور «راوح مكانك» ولن تتغير طالما انّ الموقف السعودي الذي تطوّر الى رفع «الفيتو» عن فرنجية لم يتحوّل مُلزماً وضاغطاً على حلفاء الداخل، وطالما ان الكلمة الفرنسية غير مسموعة مسيحياً والاميركي يراقب ولا يضغط. امّا الايراني فقالها واضحة: اللعبة داخلية بين القوى السياسية وعليها ان تتفق وتختارالمناسب.
وفي هذه الحال، تقول المصادر المواكبة نفسها انّ «لبنان امام خيارين: امّا الاستمرار في الفراغ القاتل الى حين اقتناع الدول المؤثرة انّ لبنان يجب ان يكون ورقة اساسية في التفاهم وتفرض التسوية على جميع الاطراف بالتدخل المباشر، وهذا الامر لن يحصل حتى الآن طالما ان لا مصلحة لها بخوض معركة داخلية. والخيار الثاني ان تذهب الكتل النيابية الى لعبة المنافسة داخل المجلس النيابي على اسمين وينجح من يحظى بنتيجة الاصوات الاعلى، ولكن هذا الامر دونه مخاطر ولا يتجرّأ ايّ طرف على خوض غماره طالما انّ النتيجة غير مضمونة، والكتل المسيحية تملك عصا التعطيل إمّا نِصاباً وانتخاباً وإمّا إنجاحاً لمهمة حكم الرئيس، هذا اذا نجح مناصرو فرنجية في تأمين النصاب له، وبالتالي لا نزال امام مشهد ضبابي في ملف الاستحقاق الرئاسي».
في أي حال تواصَلت جولة السفير السعودي العائد من الرياض، ولكن لم يسجل امس على جبهة الاستحقاق الرئاسي ايّ تطور في اتجاه التقريب بين المواقف المتباعدة في شأنه، لا على مستوى التلاقي على مرشح توافقي ولا على مستوى اتفاق المعارضة على مرشح تنزل به الى مجلس النواب لينافس فرنجية المتقدّم على ما عداه من مرشحين، والذي يدعم ترشيحه الثنائي الشيعي وأفرقاء آخرون.
وفي مزيدٍ من التوضيح والشرح للموقف السعودي الذي عبّر عنه البخاري بعد لقائه امس الاول مع كل من رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع، نقل المسؤول الإعلامي في بكركي وليد غياض عن السّفير السّعودي تشديده خلال زيارته البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي على أنّه «يجب وضع حدّ للفراغ الرئاسي في أسرع وقت ممكن»، وتوضيحه انّ «السعودية تعتبر أنّ الاستحقاق الرئاسي شأن سياسي داخلي لبناني بامتياز، والقرار بالخيارات السياسيّة يُؤخَذ ويصنع في بيروت، والسعودية ضدّ الإملاءات في هذا الموضوع من أيّ جهة كانت». كذلك شدّد البخاري على أنّ «السعودية ليس لديها أيّ اعتراض على أيّ مرشّح رئاسي يحظى بثقة اللبنانيّين أنفسهم، فأيّ رئيس ينتخبه المجلس النيابي ترحّب به السعوديّة الحريصة على التّعاون ودعم لبنان». ونقل عن بخاري قوله إنّ «السعودية حريصة على ألّا تُتّهم بتعطيل الاستحقاق الرّئاسي، وتؤكّد أنّ انتخاب الرئيس هو شأن داخلي، وهي لا تضع «فيتو» على أيّ مرشّح، ولا تدعم أحدًا؛ لذلك ترفض زَجّها في الشؤون الداخليّة للبنان».
وقد شملت جولة البخاري أمس ايضاً نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ علي الخطيب الذي أمل في أن «تشهد الأيام المقبلة انفراجاً داخلياً يُفضي الى انتخاب رئيس توافقي تمهيداً لتشكيل حكومة إنقاذية تُخرج لبنان من أزماته الاقتصادية والمعيشية».
كذلك شملت الجولة، الى قيادة حزب الكتائب، شيخ العقل لطائفة الموحدين الدروز الشيخ الدكتور سامي أبي المنى الذي نوّه «بالدور الفاعل للمملكة العربية السعودية على المستويين العربي والدولي، وبعلاقتها التاريخية مع لبنان الذي وقفت الى جانبه أثناء المحن التي مر بها والتي يمر بها راهناً والمساعي المبذولة لتخطّي الوطن أزماته الاقتصادية، إضافة الى دورها المتوازن حيال الانقسامات السياسية التي لا تزال تعطّل إنجاز الاستحقاقات الدستورية وفي مقدمها رئاسة الجمهورية».
الفرصة سانحة
الى ذلك، وغداة لقائه مع البخاري التقى جعجع أمس السفيرة الاميركية في لبنان دوروثي شيا، وشدّد أمامها على «انّ الرهان على عامل الوقت في الانتخابات الرئاسية لن يخدم اي فريق وخصوصاً الفريق المُمانع ومرشحه الذي لن يزيد من فرَص انتخابه التي أصبحت معدومة، وبالتالي جُل ما تؤديه لعبة الوقت هو تفاقم الازمة وتأخير فرَص الاصلاح التي يحتاج اليها اللبنانيون اليوم قبل الغد». ولفت الى أنه «حان الوقت للتحلّي بالجرأة المطلوبة ودعوة المجلس النيابي للالتئام والقيام بمهماته الدستورية، وفي مقدمها انتخاب رئيس للجمهورية، في أسرع وقت ممكن». معتبراً «أن الفرصة سانحة للانقاذ، وانتخاب الرئيس في أقرب وقت هو المدخل الاساسي لإعادة تشكيل السلطة وفق مصلحة الشعب اللبناني وأولوياته».
وفد أوروبي
في غضون ذلك، بدأ وفد برلماني أوروبي من كتلة الوسط الاوروبي أمس زيارة للبنان بتوجيه من الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، ويضمّ: رئيس الحكومة الروماني السابق النائب في الاتحاد الاوروبي سيولوس، وعضو لجنة الدفاع في الاتحاد الأوروبي النائب كريستوف غرودلر، وعضو لجنة الخارجية الفرنسية النائبة صاليما يانبو. وسيلتقي الوفد عند الاولى بعد ظهر اليوم نواب «التيار الوطني الحر» سيمون أبي رميا وندى البستاني، وسيزار أبي خليل، وذلك في مقر «التيار» في سنتر ميرنا الشالوحي.
صَرف عون
من جهة ثانية، وفي تطور قضائي، اصدر المجلس التأديبي أمس قراراً قضى بصرف النّائبة العامة الاستئنافيّة في جبل لبنان القاضي غادة عون من الخدمة، بناءً على شكاوى عدّة مقدَّمة أمام التفّتيش القضائي، علمًا أنّ القرار قابل للاستئناف أمام الهيئة العليا للتأديب.
وإذ تقدمت محامية عون باعتراض على قرار المجلس التأديبي بصرف موكلتها من الخدمة، اكد وزير العدل هنري خوري أنّ «بإمكان القاضية غادة عون الاستمرار في مهماتها كالمعتاد طالما لم يبرم الحكم بصرفها». وقال انه «لن يبلّغ بهذه النتيجة إلا بعد صدور القرار النهائي عن الهيئة العليا للتأديب بعد استئناف عون القرار أمامها».
وقد تزامَن صدور قرار بصرف عون مع توزيع تعميم على القضاة صادر عن وزير العدل يقضى بـ»وجوب التقيّد بالأحكام القانونيّة، والامتناع عن الظهور الإعلامي بجميع أشكاله، وعن اتّخاذ أيّ موقف علني على أيّ منصّة إعلاميّة أو إلكترونيّة أو غيرها، من دون الحصول على إذن مُسبق من المرجع المختص».
لكن وزير العدل قال لـ«الجمهورية» «انّ التعميم الذي تمّ التداول به اليوم (امس) قد صدر من قبلنا سابقاً، وذكّرنا به منذ اسبوع، هو تعميم موجّه الى جميع القضاة، وهو ليس مخالفًا للقانون وأنا ملتزم به وسأطبّقه».
وكان رئيس الجمهوريّة السّابق ميشال عون قد علّق على القرار بصرف القاضي عون، فقال:» انّ «القضاء على القضاء» هو اليوم عنوان معركة مافيا الفساد، «القضاء على مافيا الفساد» هو عنوان معركتها، القاضية غادة عون قضيتها قضية كل لبناني انسَرق جنى عمره، واصبحت أكبر من اي محاولة تعطيل».
وأشار رئيس التيار «الوطني الحر» جبران باسيل الى أنّ «اليوم هو أكثر يوم مشرق في مسيرة القاضية غادة عون، حيث أكدت منظومة الفساد سطوها على حقوق الناس عبر التآمر على القاضية النزيهة التي لا تسمع من أحد ولا يمون عليها أحد».