غَداة عودة البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي من “زيارته الرئاسية” للفاتيكان وفرنسا، سُجّل أمس توتر سياسي عالي المستوى تلاحَقت وقائعه بين عين التينة وبكركي وما بينهما على جَبهتَي الموالاة والمعارضة، ما دَلّ الى ارتفاعٍ في منسوب التنافس على ساحة الاستحقاق الرئاسي يَشي باقتراب الحسم على مستوى الخيارات في كل الاتجاهات. فيما اعتبر بعض الاوساط المراقبة انّ ما يجري يعكس اشتِداد الكباش الرئاسي على وَقع الاصطفافات الحادة والتلويح بالعقوبات الخارجية، الأمر الذي قد يهدد التوافق على رئيس او على خوض الانتخابات بمنافسةٍ ديموقراطية.
كان التوتر قد انطلق أمس الأول على أثر بعض المواقف الاميركية التي هدّدت بِفرض عقوبات على مَن يعطّل الانتخاب الرئاسي، وسَمّى بعضها رئيس مجلس النواب نبيه بري. وبلغ التوتر أشدّه على أثر ما قاله البطريرك الراعي أمام وفد من نقابة الصحافة، من أنّه كان “على رئيس مجلس النواب نبيه بري الدعوة إلى جلسة قبل شهرين من انتهاء ولاية الرئيس، ولكن نحن نتميّز بمخالفة الدستور”، مشيرًا إلى أنه “أصبحنا مَسخرة للدول بسبب بعض السياسيين، ولا يحقّ لأحد أن يلعب بمصير الشعب ولا يحق لأحد أن يهدم لبنان”. ولفتَ الى أنّ “الفاتيكان وفرنسا طلبا منّي أن أعمل داخليًّا مع بقية المكوّنات، وسنتكلّم مع الجميع من دون استثناء حتى مع “حزب الله”، والحِراك سيبدأ من اليوم (أمس)”.
وعلى الأثر سارعَ المكتب الإعلامي لبري الى الرَد على البطريرك بالبيان الآتي: “جَدّد رئيس مجلس النواب الأستاذ نبيه بري التأكيد أنّ أبواب المجلس النيابي لم تكن ولن تكون موصَدة أمام جلسة انتخاب رئيس للجمهورية، في حال أُعلنَ عن ترشيحين جَديّين على الأقل للرئاسة، وخِلاف ذلك من تشويش وتهديد لا يعود بفائدة ولا ينفع، لا سيما مع رئيس المجلس”.
وفي السياق عينه توجّه المفتي الجعفري الممتاز الشيخ احمد قبلان الى الراعي ببيان، قائلاً: “للأخ في إنسانيتنا وشريكنا في الوطن والوطنية غبطة البطريرك الراعي، أقول: نحن شركاء وطن وصنّاع سيادة وحُماة دولة وبلد ولسنا عبيداً، ولبنان يُصنَع في لبنان وليس في الطائرة، والسيادة الوطنية على أبواب مجلس النواب وليست بالأوراق المحمولة جواً، وتاريخ لبنان شاهِد”.
آلِيّة تَبنّي أزعور
في غضون ذلك، وعلى وَقع هذه الاجواء، قالت مصادر تواكِب حركة النواب المعارضين ومسؤولي “التيار الوطني الحر” لـ”الجمهورية” انّ “الاتصالات مستمرة ساعةً بساعة، وانّ اجتماعات عدة عُقدت بين موفدين وعلى المستوى القيادي في ظروفٍ اعلامية مقفلة من أجل ترجمة الاتفاق الذي تَقرّر أن يُنفَّذ في ظل تكتمٍ شديد لحماية ما يمكن اتخاذه من خطوات وضمان تنفيذها بعد الانتهاء من إجراءات “إحياء الثقة” بين مختلف الأطراف قبل تبنّي ترشيح الوزير السابق جهاد أزعور”.
ولفتت المصادر عينها الى انّ صيغة أولية يجري التداول بها من اجل الاعلان، باسم الاطراف جميعها، عن تَبينّهم لأزعور وقد يتم التوصّل اليها غداً إن بقيت وتيرة اللقاءات على ما هي عليه. وختمت المصادر انّ صدور الموقف غداً يَستدعي التنبّه وانتظار عظة البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي ليكون له موقف مُكمل يتوجّه فيه بعد مباركة التوافق الى بقية الأطراف، ولا سيما الى رئيس مجلس النواب نبيه بري وقيادة “حزب الله”، لِمُطالبَة الأول بالدعوة الى جلسة انتخابية، ولتكون الكلمة النهائية للديموقراطية بعد التزام الجميع بضرورة الحفاظ على النصاب القانوني للجلسة الأولى ومسلسل الدورات التي يمكن ان يواصلها بري بعد توقّف مسلسل الجلسات الـ11 الأخيرة.
وتردّدت معلومات أمس عن اتصالات إفرادية يقوم بها أزعور مع عدد من النواب المستقلين والتغييريين الذين طالبوه بشَرح استراتيجيته التي يمكن ان يعمل على هَديها، وبرنامجه في شأن كثيرٍ من الملفات والقضايا الكبرى.
إسم ثان
وكشفت مصادر “التيار الوطني الحر” لـ”الجمهورية” عن مَسعى لا يزال في بداياته يَتمثّل بتوسيع التوافق ليشمل اسماً ثانياً الى جانب جهاد ازعور في خطوةٍ تُساعِد على نزع ذريعة التحدي.
ورأت “انّ خلاصة زيارة البطريرك الراعي لباريس ولقائه ماكرون وما قاله بعد اللقاء يشير الى انّ دعم ترشيح فرنجية انتهى فرنسيّاً ودوليّاً، لأنّ الاستحقاق أصيب بجمود مُقفل وهناك معارضة مسيحية كبيرة في وجهه لا يمكن تَخطّيها”. ورأت المصادر “انّ التهديد الاميركي واضح وجدي وله مفاعيل لا يمكن الاستخفاف بها، وهناك معلومات تؤكد انّ العقوبات آتية لِتطاول أكثر من فريق، وهذا الامر بدأ ينعكس بانطلاق حراك جديد وجدي للبحث عن مخرج يَخرق الاصطفافات”.
الثنائي الشيعي
وفي المقابل قَلّل “الثنائي الشيعي” من التهويل بالعقوبات، ولفتت مصادره لـ”الجمهورية” الى انها ليست المرة الاولى التي يهدد فيها الاميركي ومعه الفرنسي بالعقوبات، فالخارج يريد حماية مصالحه فقط ولا يهمه أيّ شيء آخر وسيناريو التهديدات والتسريبات ليس جديداً… وفي النهاية لا يصح الّا الصحيح، والصحيح هنا انّ فرنجية هو الاكثر حظاً ومتمسّكون به، ونحن نرى الآن انّ حظوظه تقدمت أكثر من ذي قبل ولم تتراجع”.
وختمت المصادر: “لا plan B عندنا والمعارضة حتى تحشرنا أكثر، تدفع الاستحقاق الرئاسي الى حدود الغليان ونحن نرد: لا رئيس الّا سليمان”…
معارضة غير موحّدة
وفي المقابل، قالت مصادر مطلعة على أجواء التحركات والاتصالات المتعلقة بالاستحقاق الرئاسي لـ”الجمهورية”، “انه تبيّن من الاتصالات حتى الآن انّ المعارضة غير موحدة على اسم أزعور نتيجة موقف تكتل “لبنان القوي” الذي جاء مدروساً لجهة عدم السير في خطى رئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل الانتحارية لأسباب تتّصِل برفضه ترشيح رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية لاعتبارات شخصية، إذ لا مجال لذلك في الخيارات خصوصاً المصيرية منها.
وثمّة من يعتقد أنّ باسيل كان اكبر الخاسرين في اليومين الماضيين، فإذا به يكشف ضعفه وعدم قدرته على الامساك بزمام المبادرة في التيار، على رغم حضور عمه الرئيس ميشال عون اجتماع تكتل “لبنان القوي”، أضِف الى سقوط ما تمّ تسويقه غداة الانتخابات النيابية من انّ تكتل باسيل هو الاكبر، وبالتالي باتَ رئيس حزب “القوات اللبنانية” الدكتور سمير جعجع هو صاحب اكبر تكتل نيابي مسيحي مُتماسك. كما انّ باسيل قد خسر في الوقت عينه حليفه الإستراتيجي “حزب الله” في الوقت الخطأ حيث انه تخلّى عن هذا الحليف في زمن تثبيت خيار المقاومة، وهذا ما أشار إليه بيان القمة العربية الذي انعَقد في جدة.
امّا الخاسر الثاني فهو جعجع الذي لطالما وضعَ معياراً لنفسه هو عدم ثقته بباسيل الا اذا تأكد من اقتراعه لأزعور، لكن بيان تكتل “لبنان القوي” جاء مُخيباً له ولكنه آثَرَ الصمت تَلافياً للنقاش داخل “القوات” الذي لا يرتاح الى باسيل كما للاحراج امام المملكة العربية السعودية التي لا تَستسيغ باسيل على الاطلاق، وهي كانت قد رفعت “الفيتو” عن فرنجية بإيجابية مُلفتة ولم تكن لتعترض على ايّ تعاون بين الاثنين، أي جعجع وفرنجية، انسجاماً مع صورة المنطقة.
امّا في الشق المتعلق بالفرنسيين فلا شيء قد تبدّل على الاطلاق، لا بل انّ المصادر المطلعة اكدت انّ ماكرون كان واضحاً مع البطريرك من انه لن يكون هناك رئيس في لبنان لا يرضى عنه “حزب الله”، أضِف الى انّ الاصطفاف الجديد لم يَرتكِز على أسس ثابتة اذا ما قيس الأمر بالمعيار الوطني للاستحقاق الرئاسي، حيث انّ شريحة واسعة من الشارع السني لا تحبّز البَصمة الباسيلية على اي رئيس قادِم، خصوصاً انها تعتبر فرنجية يدفع ثمن وطنيته وخطابه اللاطائفي على مر التاريخ.
كما تعتبر المصادر انّ كفّة الترجيح ستكون سعودية في الايام المقبلة انسجاماً مع تقدّم المسار الفرنسي ـ السعودي بالنسبة الى ما يتعلق بالملف اللبناني، حيث انّ ما تم إنجازه لن يتم التفريط به، لا بل يُراد البناء عليه في المستقبل وهذا ما عكسه ماكرون بطريقةٍ غير مباشرة للبطريرك الراعي من انه على المسيحيين أن يَتّعِظوا من التاريخ، وأن ينخرطوا في الاجواء الاقليمية المستجدة.