لليوم الثاني على التوالي ظلت مهمة الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان الاستطلاعية محور الاهتمام والمتابعة لدى كل الاوساط السياسية، لكنّ الرجل، وفي ضوء استطلاعاته، وجد نفسه محاصراً بِكمّ هائل من التفسيرات للأسئلة التي يطرحها، والتي على اساس الاجوبة التي تلقّاها عليها سيَصوغ تقريره الى الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون ليبنى على الشيء مقتضاه لجهة ما يمكن ان تتخذه فرنسا من خطوات، بالتعاون مع السعودية وبقية دول مجموعة الخمسة العربية والدولية، تساعد على حل الازمة اللبنانية بدءاً بانتخاب رئيس للجمهورية وتكوين سلطة جديدة تتولى ورشة الانقاذ.
بالفرنسية استطلاع، وبلغة السياسة اللبنانية رسائل وإشارات…
هكذا أراد كل فريق تفسير مواقف الموفد الفرنسي جان ايف لودريان على رغم من انتقائه الكلمات استِشعاراً منه بدقة وحساسية المرحلة وحساسيتها. لكن مصدرا سياسيا رفيعا اطلع على أجواء غالبية اللقاءات واستطلع فحواها اكد لـ«الجمهورية» ان هذا الديبلوماسي الفرنسي المحنّك والعتيق كان سائلاً اكثر منه مُجيباً ومُطلِقاً مواقف.
واشار الى ان لودريان لم يحمل معه فكرة او طروحات انما كان واقعيا فتحدث اكثر عن البرامج والمواصفات متجنّباً الانحياز الى الاسماء، فالدولة التي تصنّف نفسها حالياً «ام الصبي» في الاستحقاق الرئاسي والتي تقود تفويضاً ظلها في مساعدة المسؤولين في لبنان على انجاز الاستحقاق لا تخوض حربا كونية و«تنفخ على اللبن لأن الحليب كاويها»، فرئيسها ايمانويل ماكرون بنفسه زار لبنان عام 2020 مرتين ولم يستطع التوصّل الى تشكيل حكومة، فكيف سيتمكن الان من انتخاب رئيس؟
من هنا يقول المصدر ان نصيحة المبعوث الفرنسي للجميع عموما كانت التفكير بعقل وللمسيحيين خصوصا بعدم الذهاب برئيس تحد والاتفاق مع الثنائي الشيعي وليضعوا الشروط والضمانات التي يريدون، خصوصاً ان الاصطفاف المسيحي الذي تجلى في جلسة ١٤ حزيران لم يصل الى نتيجة، بل على العكس كرَّس الشرخ. ولذلك لا تستطيع فرنسا ان تتبنى هذا الاصطفاف، و في كل الحالات سيرفع لودريان تقريره الى الاليزيه ويعود في تموز لاستكمال البحث.
مرحلة طُويِتَ
وعلمت «الجمهورية» من مصادر «التيار الوطني الحر» ان زيارة لودريان لرئيس التيار النائب جبران باسيل في منزله استمرت ساعة وربع ساعة، سمعَ خلالها الاخير منه انه في ضوء أزمة الرئاسة لا بد من البحث عن حلول جديدة، وأنّ هناك مرحلة طُويت ومرحلة جديدة بدأت وأن فرنسا لا تملك حلولاً معلبة ولا اجوبة مسبقة.
وتقاطَعت وجهة نظر باسيل مع رأي لو دريان على أن الرئيس اللبناني المنتظر لا يمكن أن يكون إلا نتاج حوار لبناني ـ لبناني. وشرح رئيس التيار وجهة نظره التي تقوم على ضرورة التحاور بين جميع المكونات اللبنانية للتوافق على اسم الرئيس وعلى الخطوط العريضة لبرنامج تنفذه طبعاً الحكومة، والذي على أساسه يتم طلب الدعم الخارجي. كذلك شرحَ باسيل للموفد الفرنسي أن الرئيس لا يمكن له أن ينجح ما لم يحظَ بدعم داخلي واسع إن لم يكن شاملاً، بدليل ما جرى من تفشيل لعهد الرئيس ميشال عون نتيجة مواقف قوى فاعلة في الدولة عارضت مجيئه من الاساس وتوعدت بإفشاله.
واشارت مصادر «التيار» الى انّ وجهات نظر باسيل ولودريان تلاقت في اكثر من نقطة، وفُهم ان زيارة الموفد الفرنسي للبنان ستتكرر قريبًا.
المبادرة مستمرة
في غضونِ ذلك توقفت مصادر مواكبة لزيارة لودريان عند دعوته فرنجية الى لقاء وغداء في قصر الصنوبر، فقالت لـ«الجمهورية» انّ فرنجية «مميز دائماً بالنسبة الى الفرنسيين إذ تربطه بهم علاقة مميزة قوامها الثقة في أدائه السياسي. ولو لم يكن كذلك لما ارتكزت المبادرة الفرنسية على ان يكون هو رئيساً للجمهورية. ومن هنا كانت دعوة لودريان له الى الغداء في قصر الصنوبر، ودامَ اللقاء بينهما نحو ساعتين.
ولفتت المصادر الى ان كل من التقى لودريان لمسَ ان فرنسا لم تخرج عن مبادرتها اذ ان هذه المبادرة لا تختصر برئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة فقط، وانما تتصل ببرنامج عمل لاحق من شأنه تسيير الامور ومنع التعطيل الذي عاشه لبنان في الفترات السابقة ما ضرب اقتصاده في العمق.
كما ان كل مَن التقى لودريان لمسَ منه عدم التراجع عن المبادرة الفرنسية كونها الاكثر واقعية والاكثر سرعة في التنفيذ، بحسب مقتضيات البيان الذي صدر في ختام القمة بين ماكرون وبن سلمان التي دعت الى الاسراع التام في انجاز الاستحقاق الرئاسي في لبنان، وانّ اي عودة عن هذه المبادرة من شأنها تأخير انجاز هذا الاستحقاق بينما البقاءعليها و»تكحيلها» من شأنه الاسراع في اجراء الانتخابات الرئاسية.
واكدت المصادر المواكبة نفسها ان كل مَن التقاهم لودريان من رافضي المبادرة الفرنسية خرجوا بانطباع سلبي. وهذا ما عكسه رئيس حزب «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع الذي دعا بصورة لافتة الى عدم انتظار الخارج والذهاب الى انتخاب رئيس ضمن اطار اللعبة الداخلية، داعياً الى اجراء الانتخابات بالمرشحين فرنجية وازعور ومن يربح يربح. اما ما تم تسريبه عن لسان باسيل بعد لقائه لودريان من ان فرنسا قد تخلت عن كل مواقفها السابقة فهو غير صحيح لأن الموفد الفرنسي، وبحسب ما اكد جميع من التقاهم، كان مستمعاً ومصغياً الى كافة المداخلات من دون ان يبدي اي رأي حول اي مرشح.
كذلك كان اللافت تغريدة فرنجية بعد لقائه ماكرون حيث اتسمت بالايجابية، اذ كتبَ فيها: «نشكر وزير الخارجية الفرنسي السابق جان إيف لودريان وسفيرة فرنسا لدى لبنان آن غريو على دعوتهما الكريمة. اللقاء كان إيجابياً والحوار بناءً للمرحلة المقبلة».
جولة لودريان
وكان لودريان قد جال في اليوم الثاني من مهمته على كل من رئيس الحكومة نجيب ميقاتي والبطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل ورئيس حزب «القوات اللبنانية» الدكتور سميرجعجع، والتقى رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية في قصر الصنوبر وتخلل اللقاء غداء عمل، قبل ان يُلبّي مساءً دعوة السفير السعودي وليد البخاري الى عشاء اقامه في فندق «فينيسيا» على شرف سفراء ورؤساء بعثات الدول العربية والأجنبية. وهو تقليد سنوي تقوم به كل سفارة في لبنان، فتولم على شرف بقية السفارات. وقد حضر هذا العشاء ايضا السفير الإيراني مجتبى أماني والقائم بأعمال السفارة السورية. فيما غابت السفيرة الاميركية دوروثي شيا لوجودها خارج لبنان.
واذ شدد رئيس الحكومة خلال لقائه مع لودريان على « أن المدخل الى الحل يكمن في انتخاب رئيس جديد». اكد لودريان «أن الهدف من زيارته الاولى للبنان استطلاع الوضع سعيا للمساعدة في ايجاد الحلول للازمة التي يمر بها لبنان والبحث مع مختلف الاطراف في سبل انجاز الحل المنشود».
وفي بكركي قال لودريان: «طلبَ مني الرئيس ماكرون أن اقوم بمهمة التشاور والاستماع الى المعنيين بطريقة تساعد هذا البلد على الخروج من ازمته السياسية». واضاف: «انا هنا لهذا الغرض ولن افوت اي فرصة وسأستمع الى الجميع في هذه الزيارة التي ستتبعها زيارات اخرى لمرافقة اللبنانيين للخروج من هذه الأزمة. انا لا أحمل أي طرح لكنني سأستمع الى الجميع والحل في الدرجة الأولى يأتي من اللبنانيين».
أما جعجع فقال بعد استقباله لودريان في معراب انّ «الجلسة مع الموفد الفرنسيّ كانت استطلاعية 100/100، فالضيف الفرنسي طرح العديد من الأسئلة حول الملف الرئاسي وكانت لنا أجوبة في هذا السياق». وإذ شدّد على أن لودريان «لا يحمل في جعبته اقتراحاً للاستحقاق الرئاسي».
وأكد جعجع أن «الحوار تطرق الى الاقتراحات المتاحة في هذا الاتجاه كما وجّه الموفد الفرنسي بعض الأسئلة حول جلسة 14 حزيران بالإضافة إلى أين نحن ذاهبون في ظل الفراغ الرئاسيّ».
واستبعد جعجع إبرام اتفاق دولي جديد كإتفاق الطائف، وشدّد على «ضرورة أن ينصب الجهد من قبل مختلف القوى اللبنانية وليس من الفرنسيين»، آملاً من «كل الكتل النيابيّة إعادة النظر بمواقفها الأخيرة والذهاب الى جلسة انتخابية جديدة، وليربح من يربح».
ورأى أن «قصة الرئاسة تتعلق بـ128 نائباً، ففي المرة الماضية «لو شَدّوا حالن شوي كان صار عنّا رئيس وكنا خلصنا»، باعتبار أنّ أحد المرشحين كان سينال 65 صوتاً، وبالتالي كان على الكتل النيابية أن تصوت مع هذا المرشح أو ذاك، من دون تعطيل النصاب كما فعلوا، ولولا الخطوة التعطيليّة لما كنّا بحاجة لأميركا وفرنسا والسعودية وإيران». وقال: «طرحنا كان واضحاً لجهة احترام العمل الديموقراطي للمؤسسات من خلال فتح دورات انتخابية متتالية داخل المجلس النيابي، الى حين انتخاب رئيس جديد للبلاد»، شارحاً «أهمية إجراء دورات متتالية في تعديل الآراء».
المعبر الالزامي
ومن جهتها، أكدت كتلة «الوفاء للمقاومة»، خلال اجتماعها الاسبوعي امس برئاسة رئيسها النائب محمد، أنّ «التفاهم الوطني بين اللبنانيين هو المعبر الإلزامي لإنجاز الاستحقاق الرئاسي، وأنّ هذا التفاهم المطلوب لا سبيل إلى التوصّل إليه إلا عبر تنحية الافرقاء لشروطهم المسبقة، والتوجّه لمباشرة الحوار بعضهم مع بعض بغية تقريب وجهات النظر وصولاً إلى الاقتناع المشترك بالخيار المناسب الذي تتقاطع عنده الرؤى والمصالح».
وشددت على «وجوب تداعي اللبنانيين للحوار في ما بينهم وتفترض أنهم المعنيون أساساً بمباشرة ذلك بغية التوصّل إلى جوامع مشتركة تضع حدّاً لأزمة الشغور الرئاسي في البلاد»، مشيرة الى أن «الدور الذي يمكن أن يؤديه بعض الأصدقاء للبنانيين، سواء كانوا إقليميين أم دوليين، هو في الحقيقة دورٌ مساعدٌ ننظر إليه بإيجابيّة، خصوصاً حين يعبّر عن حرص واضح على المصالح المشتركة مع لبنان، والتي لا بدّ من تفاهم اللبنانيين وتَشاركهم لتحقيقها وتطويرها».