أن يُدرَج لبنان في المرتبة الثالثة بين الدول الأكثر تلوثاً بيئياً في العالم، أمرٌ ليس مستغرباً او مفاجئاً لدولة مشلولة بلا مناعة، تعاني اصلاً التلوث في كل مفاصلها، ومصنّفة دولياً بين الدول الثلاث التي تعاني أسوأ الأزمات في العالم، والأكثر فقراً في العالم والأكثر غلاء في العالم، والأكثر تفكّكاً على المستوى الاجتماعي، والأكثر تحلّلاً على المستوى الأخلاقي، والأكثر ارتفاعاً في معدلات الجريمة، والأكثر إرباكاً وانهياراً على المستويين المالي والاقتصادي، والأكثر فلتاناً وعبثاً وانقساماً وخللاً وتفسّخاً على المستوى السياسي.
مهما توالت التصنيفات السلبيّة وخفّضت مرتبة لبنان إلى أدنى مستوياتها، فهي لا تعدو اكثر من توصيف ورقي وبياني لا يقدّم ولا يؤخّر، لواقع دولة ألقى بها العبث السياسي في القعر، تجاوز وضعها أي تصنيفات اياً كان مصدرها، للتدليل فقط على ما بلغته من تحلّل واهتراء، فاللبنانيون سبقوا تلك التصنيفات بمسافات زمنية، وباتوا يعايشون التحلّل والاهتراء كأمر واقع ويتخبّطون في تداعياته الصّعبة التي صارت ملازمة ليوميّاتهم، وهذا التعايش الإكراهي يبدو انّ أمده سيطول، في غياب الرادع الكاسر او اللاجم للمنحى العبثي الذي تنتهجه مكوّنات الانقسام السياسي، في مقاربة كل الملفات الداخلية، الذي لا يبقى فقط الباب مشرّعاً إلى ما شاء الله، على التصنيفات السلبية، بل على الاحتمالات والسيناريوهات الكارثية على البلد حاضراً ومستقبلاً.
يستجدون حلاً من معطّليه!
نقطة ضعف تلك التصنيفات برغم واقعيتها، انّها تشخّص مفاصل الأزمة ومكامن العلّة فقط، وترمي مسؤولية العلاج وإيجاد الدواء على مفتعلي الدّاء، وتسجدي حلولاً من معقّدي هذه الحلول، وحالها هذا، أقرب إلى حال المساعي الخارجيّة التي تُبذل لإيجاد مخارج للأزمة الرئاسية في لبنان، التي تكتفي بتشخيص المرض والتحذير من مخاطره، ومن ثمّ الرهان الخاسر سلفاً على توافق مستحيل بين مكوّنات الانقسام حول رئاسة الجمهورية، وهذه الاستحالة تنسف بالتأكيد كلّ تلك المساعي من أساسها.
اجتماعات اللجنة الخماسية في باريس حول الملف الرئاسي في لبنان بين ممثلين عن الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا والسعودية وقطر، وما سبقها وتلاها من مناشدات دوليّة على اكثر من مستوى للأطراف السياسية في لبنان بالتوافق على إتمام استحقاقاتهم الدستورية على وجه السرعة، وتحذيرات من نتائج كارثية لاستمرار الوضع في لبنان على ما هو عليه، أنذرت بخراب حتمي لهذا البلد، وهو ما تحدثت عنه صراحة مساعدة وزير الخارجية الأميركية باربرة ليف. إلّا انّ كلّ ذلك، لم يتمكّن من كسر منطق رافضي التوافق، ولم يحرّك لدى ايّ منهم الحس بالمسؤولية الوطنية ولم يقرّبهم قيد أنملة من الاقتناع بضرورة هذا التوافق، وانّه المعبر الإلزامي لإنهاء الأزمة الرئاسيّة ووضع لبنان على سكة الانفراج.
لا خلاصات نوعية
ضمن هذا السياق، اندرج اجتماع الخماسية الدولية الذي انعقد في العاصمة القطرية امس، حيث لم تحمل أجواء هذا الاجتماع ايّ خلاصات نوعيّة معاكسة لما آلت اليه الاجتماعات السابقة، كما لم تعكس وجود اي خريطة عمل بديلة، او إضافات نوعية على مهمّة لودريان. بل انّ الجديد الوحيد فيها هو مشاركة الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان في هذا الاجتماع، الذي يأتي عشية زيارته الثانية الى بيروت المقرّرة في الرابع والعشرين من تموز الجاري، إنْ لم يطرأ ما قد يؤخّرها.
واللافت انّ اجتماع الدوحة أطلق العنان للتكهنات. فبعض المعلومات جرى ترويجها في الداخل اللبناني بالتزامن مع انعقاد اجتماع الدوحة، بأنّ البحث تمحور فيه حول ما سُمّي “الخيار الرئاسي الجديد”، الذي من شأنه ان يفتح الأفق الرئاسي على الحسم وانتخاب رئيس الجمهورية. وخصوصاً انّ الخيارات السابقة اصطدمت بعدم التوافق حول ايّ منها، وباستحالة انتخاب اي منها، على ما جرى في جلسة الانتخاب الاخيرة. وأدرجت هذه المعلومات اسم قائد الجيش العماد جوزف عون في موقع الخيار الثالث.
على انّ معلومات اخرى، تؤكّد مصادرها انّها مستندة إلى ما سمّتها “تسريبات محدودة”، تشير إلى انّ الاجتماع كان قصيراً، ومداولاته كانت عامة، لم يتطرّق خلالها المجتمعون الى اي اسماء او خيارات رئاسية، بل جرى استعراض سريع للمشهد الرئاسي اللبناني بمختلف جوانبه،. وقدّم لودريان خلاصة حول زيارته الاخيرة إلى بيروت، وكذلك حول زيارته الثانية والمسار الذي سينتهجه لإطلاق جولة حوارية بين الأطراف اللبنانيين، وانتهت المداولات الى تأكيد الدعم الكامل لمهمّة لودريان، والتقت الآراء على الحلّ العاجل لهذه الأزمة، واولوية ان يتحمّل اللبنانيون مسؤولياتهم في اعادة الانتظام لحياتهم السياسية بدءًا بانتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة.
وفيما تحدثت بعض المصادر عن انّ فترة الاسبوع الفاصلة عن موعد زيارة لودريان الثانية الى بيروت، قد تشهد حراكاً للموفد الرئاسي، يقوده الى بعض الدول المعنية بالشأن اللبناني، مع الإشارة هنا إلى طروحات رافقت اجتماع الدوحة، واقترحت إشراك إيران في مساعي الحل اللبناني. معتبرةً انّ دخول ايران على خط المساعي ستكون له فوائد سياسية كبيرة خصوصاً انّ طهران قادرة على تأمين موافقة “حزب الله” على اكثر من شكل من أشكال التسوية.
إلّا انّ مصادر اخرى اكّدت انّ لودريان سيعود من الدوحة الى باريس لتحضير ملفه الذي سيحمله الى لبنان، ومنها سينتقل الى بيروت. فيما اكّدت مصادر مطلعة على الموقف الايراني لـ”الجمهورية”، أن لا شأن لإيران بالاجتماع الخماسي، وليست معنية بالتدخّل في شأن يخصّ اللبنانيين وحدهم. وبالتالي هي ليست في وارد ان تكون طرفاً فيه. وهذا الامر سمعه كل من راجع الايرانيين بالملف اللبناني”.
غطاء للمهمّة
خلاصة اجتماع الدوحة انّه غطّى مهمّة لودريان في بيروت، التي يُنتظر ان يقيم فيها اياماً عدّة، على ان تسبق وصوله الى بيروت، كما كشفت مصادر موثوقة لـ”الجمهورية”، ما سمّتها “ممهدات” واتصالات على خطوط متعددة لبنانية وغير لبنانية لإنجاح مسعاه لإنهاء الازمة الرئاسية في لبنان، وتسهيل اطلاق الحوار الرئاسي الذي ينشده. من دون ان تستبعد المصادر حراكاً موازياً لذلك، ربما قطرياً، يصبّ في دعم مهمّة لودريان.
الاجتماع: جدّية!
وكانت العاصمة القطرية الدوحة، قد شهدت قبل ظهر امس اجتماعاً للجنة الخماسية لأجل لبنان، بمشاركة ممثلي الولايات المتحدة الاميركية وفرنسا والسعودية ومصر وقطر، وحضور الموفد الرئاسي لودريان، انتهت اعماله ظهراً. وافادت المعلومات الموزعة حول الاجتماع، انّه كان ايجابياً، وانّ الامور بدأت تأخذ منحًى جدّياً في البحث عن حلول. وانّ الحاضرين اتفقوا على متابعة ودعم جولات لودريان بين لبنان ودول المنطقة.
ونُسب الى مصدر فرنسي قوله ربطاً باجتماع اللجنة الخماسية: “انّ فرنسا لن تترك لبنان وستواصل جهودها مع شركائها الدوليين المشاركين في الاجتماع وغيرهم للتوصل الى حلّ للأزمة الرئاسية، والمطلوب تعاون القوى اللبنانية”.
واللافت ربطاً بالاجتماع ايضاً، ما أعلنته وكالة الأنباء القطرية عن انّ رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية القطرية محمد بن عبد الرحمن بن جاسم آل ثاني استقبل امس، مبعوث الرئيس الفرنسي للبنان جان إيف لودريان، لمناسبة زيارته للبلاد. وجرى خلال اللقاء استعراض علاقات التعاون بين البلدين، بالإضافة إلى آخر المستجدات بالمنطقة، لا سيما في لبنان”.
إرباكات الداخل
واما الداخل اللبناني، فقد رافق اجتماع الدوحة بتظهير ما يعتريه من ارباكات، سواء على المستوى الأمني، وما أحاط قرار وزير المالية بسام مولوي بكسر قرار مدير عام قوى الامن الداخلي اللواء عماد عثمان المتعلق بربط شعبة المعلومات به، وإعادة وصلها بهيئة الاركان، او على مستوى مصرف لبنان، أكان حول الإرباك السائد قبل انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بعد اقل من اسبوعين، او التطورات القضائية المرتبطة بسلامة التي برز فيها اخيراً اعلان الحجز الاحتياطي على الاموال العينية العائدة لكل من سلامة وشقيقه رجا سلامة ومساعدته ماريان الحويك في لبنان. او على المستوى السياسي سواء بالسجالات المحتدمة على مختلف الخطوط تحت العنوان الرئاسي، وكذلك تحت العنوان الحكومي، الذي يشهد سجالاً متتالياً بين “التيار الوطني الحر” ورئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي.
وفي سياق حكومي متصل، وبعدما تسلّمت الأمانة العامة لمجلس الوزراء من وزارة المالية مشروع قانون موازنة العام 2023، تقرّر عقد جلسات متتالية لمجلس الوزراء الاسبوع المقبل، حيث ستنعقد الجلسة الأولى في الساعة الثالثة من بعد ظهر الاثنين المقبل.
وكان وزير المالية في حكومة تصريف الأعمال يوسف الخليل، رفع الى رئاسة مجلس الوزراء مشروع قانون الموازنة العامة للعام 2023، مقارناً مع قانون موازنة العام 2022 والفروقات الحاصلة، وذلك لدرسه وإقراره وإحالته الى المجلس النيابي وفق الأصول.
حذر جنوباً
من جهة أخرى، ما زال الحذر طاغياً على الأجواء الجنوبية، ولاسيما في المناطق المحاذية للحدود الدولية. حيث انّ التطورات تشهد تسارعاً ملحوظاً، أكان في ما يتعلق بالغجر والقرار الاسرائيلي بضّمها، او ما يتعلق بالخيم التي نصبها “حزب الله” بالقرب من الحدود.
على انّ البارز في هذا السياق، ما اوردته صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيليَّة، أنّ عناصر من “حزب الله” بادروا قبل أيّام إلى تفكيك كاميرات مراقبة كانت موجودة بالقرب من بوابة فاطمة في بلدة كفركلا اللبنانية عند الحدود مع فلسطين المحتلة.
وأشار التقرير إلى أنَّ قوات الجيش الإسرائيلي لم تعلم بالحادث فور وقوعه، في حين أنّ ما تبيّن هو أنّ الكاميرات قد اختفت تماماً، كاشفاً أنّ الجيش اكتشف الأمر بعد مرور أكثر من 5 ساعاتٍ على حدوثه، وأضاف: “إثر ذلك، بدأ الجيش الإسرائيلي تحقيقاته، وأغلق مناطق واسعة في مستعمرة المنطقة لفحص ما إذا كان عناصر “حزب الله” “قد توغلوا في الأراضي الفلسطينية المحتلة خلال عملية تفكيك الأجهزة المعنية بالتصوير والرصد والمراقبة”.
ووفقاً للتقرير، فقد أعرب مسؤولون محليون بالقرب من الحدود في الجليل الأعلى، عن غضبهم وسخطهم من الحادثة التي حصلت، معتبرين أنّه كان بإمكان عناصر “حزب الله” الذين فكّكوا الكاميرات أن يقفزوا بسهولة تامّة إلى داخل الأراضي الاسرائيلية.
كذلك، فقد كشفت “يديعوت أحرونوت” أنّ قائد القيادة الشمالية اللواء أوري جوردين التقى مسؤولين محليين عند الحدود مع لبنان، وطالبوه بإجابات حول أحداث التصعيد عند الحدود، والتي يقولون إنّها تُظهر رغبة “حزب الله” في خوضِ حربٍ ضدّ إسرائيل.
ووفقاً للصحيفة، فإنّ جوردين اعترف بحصول محاولة تخريب السياج وتدمير الكاميرات، كما أقرّ بالخطأ الفادح المتمثل في عدم اكتشاف الجيش الإسرائيلي الحادثة لحظة وقوعها. مع هذا، فقد تبين أنّ جوردين أبلغ المجتمعين معه بأنّه لا يرى حرباً وشيكة مع لبنان، قائلاً في الوقت نفسه إنّ “حزب الله يرتدع”.