لم يكن ينقص المشهد اللبناني المأزوم المقبل على أسبوع مثقل بالتطورات الأشد حرارة من لهيب الطقس الصحراوي الذي يلفحه سوى ان ينفجر مخيم عين الحلوة في “اوقح” استباحة دموية مفتعلة على ايدي واصابع وغرف عمليات قوى إقليمية سعت عبر “الساحة اللبنانية” الى التشويش المكشوف على مصر التي جمعت امس تحديدا كل الفصائل الفلسطينية في مؤتمر ذي اهداف تنسيقية وتوحيدية .
ويقف المشهد الداخلي من اليوم امام محطات مفصلية سيكون ابرزها في الساعات المقبلة في “الخروج الكبير” لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، الحاكم الأطول ولاية في تاريخ لبنان، من المصرف المركزي منهيا ثلاثة عقود متوالية في منصبه منذ العام 1993 على اثر تسلم الرئيس الشهيد رفيق الحريري رئاسة حكومته الأولى وطلبه من سلامة ترك مسؤولياته في “ميريل لينش” وتولي مسؤولية حاكم مصرف لبنان. ومنذ اشهر وحتى الساعة استنفد الاعلام والصحافة المحلية والغربية ووسائل التواصل الاجتماعي كل ما يتصل بالسيرة الأكثر اثارة للجدل للحاكم الذي ستنتهي ولايته منتصف هذه الليلة في بلد أصابه انهيار مالي تاريخي حمل الحاكم تبعات كبيرة فيه فيما وصف نفسه بانه كبش محرقة الطبقة او المنظومة السياسية التي تتحمل التبعة ، كما انه ملاحق بتحقيقات قضائية أوروبية ومحلية يصعب الجزم بمصيرها واتجاهاتها بعد ان انتهت ولاية سلامة .
الأهم من تاريخ اليوم بالنسبة الى اللبنانيين سيكون ماذا بعد سلامة ؟ وهل يضبط الاستقرار المالي بحدوده الدنيا ويمنع التفلت ام نكون امام فوضى مثيرة لكل التداعيات الإضافية السلبية ؟
الواقع ان المؤشرات التي تجمعت عشية نهاية ولاية سلامة تجنح نحو توقع خطوات من شأنها لجم الاندفاعات المقلقة لحقبة ما بعد “عصر رياض سلامة” كما يسميه خبراء كثيرون في قطاعات المال والاقتصاد وحتى باعتبار سلامة كشاهد وشريك للطبقة السياسية. اذ بدا في حكم المؤكد ان الانتقال في الحاكمية سيجري أخيرا، وبعد عاصفة الجدل والسجالات والمساعي الكثيفة لتامين تغطية سياسية ونيابية ومالية للواقع الذي سينشأ بعد الحاكم المنتهية ولايته، وفق الأسس التي ينص عليها قانون النقد والتسليف اذ ان النائب الأول للحاكم وسيم منصوري سيعلن في مؤتمره الصحافي قبل ظهر اليوم تسلمه مهمات الحاكم ويعرض خطة مفصلة تضيء على ما يعتزم القيام به مع نواب الحاكم الثلاثة الاخرين في تسلمهم هذه المسؤولية الجسيمة وسط الظروف المصيرية التي تجتازها البلاد . وإذ يسبق مؤتمر منصوري موعد الجلسة التي دعي اليها مجلس الوزراء بعد الظهر لمتابعة مناقشة مشروع قانون الموازنة للسنة الحالية ينتظر ان يصدر موقف رسمي عن رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي ومجلس الوزراء في صدد الانتقال في حاكمية المصرف بعدما عقد ميقاتي اجتماعات متلاحقة مع نواب الحاكم لاستكمال الخطوات والضمانات المتصلة بتسلمهم المسؤولية المالية والنقدية الأعلى في البلاد.
البابا والراعي وعودة
ولا يقتصر انشداد الأنظار هذا الأسبوع على الحدث الانتقالي في حاكمية مصرف اذ تتكثف الاستعدادات لاحياء الذكرى الثالثة لانفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب المقبل . وقد اكتسب موقف مبكر للبابا فرنسيس امس من هذه المناسبة دلالات معبرة اذ شكل اول موقف لشخصية عالمية تستبق موعد الذكرى بايام كما شكل اثباتا جديدا على مدى متابعته للوضع اللبناني المأزوم كاحدى أولويات الفاتيكان . وقد قال البابا فرنسيس إنه يصلّي من أجل إيجاد حل للأزمة في لبنان مع اقتراب الذكرى السنوية الثالثة لانفجار مرفأ بيروت. وأضاف بعد تلاوة صلاة التبشير الملائكي للمحتشدين في ساحة القديس بطرس: “ستصادف يوم الرابع من آب المقبل ذكرى مرور ثلاث سنوات على الانفجار المدمر في مرفأ بيروت. أجدد صلاتي من أجل الضحايا وعائلاتهم التي تبحث عن الحقيقة والعدالة”. ونقل موقع أخبار الفاتيكان عن البابا قوله عن الأزمة اللبنانية الأوسع نطاقا “آمل أن تجد أزمة لبنان المعقدة حلّاً يليق بتاريخ وقيم ذلك الشعب”.
ولعل المفارقة انه سجلت امس احدى اعنف الهجمات التي شنها البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي على النواب مطلقا أوضح تحذير من “احتلال النازحين السوريين للبنان ” وكذلك انتقادات ميتروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عودة في موضوع ذكرى انفجار المرفأ . فالبطريرك الراعي سأل في عظته “هل من احد يشرح لنا لماذا لا يلتئم المجلس النيابي في جلسات متتالية بدوراتها لانتخاب رئيس للجمهورية بحسب المادة 49 من الدستور، ويوجد مرشحان اساسيان كفؤان كما ظهر في جلسة 14 حزيران الماضي؟ فإما ينجح واحد منهما وإما لا احد، ولكن بعد ثلاث دورات متتالية على الاكثر، يصار الى الاتفاق على ثالث بحوار مسؤول. وهل من يقول لنا لماذا أُبطل النصاب في تلك الجلسة التي كادت ان تكون حاسمة؟ وهل من يشرح لنا الغاية من ترحيل هذا الاستحقاق الاساسي لقيام مؤسسات الدولة الى شهر أيلول؟ أهي عطلة شهر آب للسادة النواب، للاستجمام بحرًا وجبلًا وسفرًا، فيما الشعب يموت جوعًا، والدولة في حالة الفوضى الدائرة، والنازحون السوريون يحتلون البلاد بدعم من الاسرة الدولية، ونحن مغفّلون، وهم متناسون ارضهم ووطنهم وتاريخهم وثقافتهم”.
اما المطران عوده فلفت في عظته الى ان ذكرى انفجار مرفأ بيروت “ستبقى شَوْكَةً تَنْخَزُ ضَمائِرَ المَسؤولينَ عَنها، الَّذينَ سَبَّبوها، والذين عَلِموا بإمكانيةِ حُدوثِها ولَمْ يَمْنَعوها، والَّذينَ لَمْ يتَحَرَّكوا بَعْدَ وُقوعِها، والَّذينَ وَعَدونا بِإِنْجاز التَّحقيق في أَسْرَعِ وَقتٍ، وقد مَرَّتْ السَّنَواتُ ولا نَزالُ نَنْتَظِرُ على الأَطْلال”. وتابع، “هَذا الشَّعبُ القَوِيُّ يُطالِبُ بِإِحْقاقِ الحَقِّ، وبِأَنْ تَأخُذَ العَدالَةُ مَجْراها، وتُرْفَعَ الحَصاناتُ لِيُحاسَبَ كُلُّ مُرْتَكِبٍ ومُهْمِلٍ، كائِنًا مَنْ كان، عَلَّ ذَلِكَ يَكونُ درساً لكلِّ مَنْ تُسوِّلُ له نَفْسُه ارتكابَ جريمةٍ مُماثلة، وخُطْوَةً تُبَرِّدُ قُلوبَ كُلِّ الَّذينَ خَسِروا أَحِبَّاءَهُم، ومُمْتَلَكاتِهِم، وجَنى أَعْمارِهِم” وسأل: “هل هذه هي العدالة التي يَطمحُ إليها كلُّ إنسان؟ هل هكذا تُعالَج جريمةٌ بحجمِ عاصمة؟ كيف يَشعرُ المواطنُ بالأمانِ بِلا قضاءٍ عادلٍ وبلا مُحاسبة المُجرمين؟ هل يَجوزُ أنْ تَمُرَّ بِلا مُحاسَبَةٍ جريمةٌ دَمَّرَتْ العاصمةَ وأصابتْ الآلاف؟”
الاستباحة
بعيدا من المشهد السياسي اهتزت صيدا ومجمل الجنوب امس بانفجار عنيف وواسع وخطير للاشتباكات في مخيم عين الحلوة حيث استهدفت كبرى المنظمات الفلسطينية حركة “فتح” بضربة موجعة على ايدي عناصر إسلامية ولا سيما منها “عصبة الأنصار” أودت بقائد قوات الامن الوطني الفلسطيني اللواء اشرف العرموشي مع أربعة من رفاقه في مكمن نصب لهم الامر الذي رفع حصيلة الاشتباكات في المخيم إلى ستة قتلى وعدد كبير من الجرحى . وشهد المخيم حركة نزوح منذ ليل السبت، في حين قطعت الطريق العامة في صيدا خوفاً من رشقات الرصاص العشوائية. وأعلن الجيش إصابة أحد عناصره عن طريق الخطأ. وانطلقت حركة اتصالات ولقاءات لتهدئة الوضع الأمني وتسليم المطلوبين والمتهمين باطلاق النار. ونعت حركة “فتح” في لبنان العرموشي ورفاقه، وقالت في بيان: أنّ “هذه الجريمة النكراء الجبانة التي نفّذتها جهات مشبوهة لم يردعها أي وازع وطني أو ديني أو أخلاقي عن مواصلة إنما تجسّد حلقة في مسلسلها ومخططها الدموي الذي يستهدف أمن واستقرار مخيماتنا وقادة وكوادر حركة “فتح” وقوات الأمن الوطني الفلسطيني صمام أمان هذه المخيمات والجدار الصلب في وجه كل المشاريع التي تستهدف وجودها واستقرارها وهويتها الوطنية”.
وعاهدت “شعبنا الفلسطيني بأننا لن نسمح بأن تمر هذه الجريمة الآثمة دون محاسبة مرتكبيها، وسنكون كما عَهِدنا شعبنا سدًّا منيعًا في وجه كل المشاريع المشبوهة والمخططات التآمرية على قضيتنا ومشروعنا الوطني”.
واعتبر الرئيس ميقاتي في بيان حول الاشتباكات أن “توقيت الاشتباكات الفلسطينية في مخيم عين الحلوة، في الظرف الاقليمي والدولي الراهن مشبوه، ويندرج في سياق المحاولات المتكررة لاستخدام الساحة اللبنانية لتصفية الحسابات الخارجية على حساب لبنان واللبنانيين” .وقال إن “تزامن هذه الاشتباكات مع الجهود التي تبذلها مصر لوقف الخلافات الفلسطينية- الفلسطينية، هو في سياق الرسائل التي تستخدم الساحة اللبنانية منطلقا لها”.واشار إلى أن “هذه الاشتباكات مرفوضة لعدة أسباب أولها انها تكرّس المخيم بؤرة خارجة عن سيطرة الدولة وهذا امر مرفوض بالمطلق ويتطلب قرارا صارما من القيادات الفلسطينية باحترام السيادة اللبنانية وأيضا فان هذه الاشتباكات تشكل ضربة في صميم القضية الفلسطينية التي سقط من أجلها الاف الشهداء”. وطالب القيادات الفلسطينية بالتعاون مع الجيش لضبط الوضع الامني وتسليم العابثين بالامن الى السلطات اللبنانية.