النذر اليسير من التطمينات التي سارعت الحكومة والجيش الى تعميمها حيال احتواء التوترات والاشتباكات في مخيم عين الحلوة والوضع الأمني عموما، لم تكن كافية لتبديد سيل التساؤلات والشكوك التي اثارتها تحذيرات دول مجلس التعاون الخليجي جميعا، وبنبرة موحدة اجماعية، الى رعاياها في لبنان لتجنب مناطق الاهتزازات الأمنية او لمغادرة لبنان بسرعة. هي تحذيرات رسمت معالم مناخ مشدود بين المعطيات والنظرة التي تملكها الدول الخليجية حيال واقع “الساحة اللبنانية” وسقوط الثقة بالسلطة اللبنانية سقوطا حاسما بدليل ان الدول الخليجية كما المانيا لم تتريث في اطلاق التحذيرات بعد مراجعة الحكومة والسلطات، فسارعت اليها على نحو انكشفت معه السلطة والحكومة اذ اصابتها المفاجأة اسوة بـ”رعاياها اللبنانيين” أيضا !
اما الأخطر في دلالات سلسلة التحذيرات التي تعاقبت بين ليل الجمعة ونهار امس، فهي انها افتقرت الى التوضيحات الابعد من التوجيهات الروتينية الى الرعايا، اذ ان السلطة اللبنانية لم تكلف نفسها عناء الشرح وتقديم الإيضاحات حيال تطور ينذر اقله بتعكير الموسم السياحي “المشتعل” في عز احتدامه، الامر الذي يطرح معه سؤال كبير وجدي هو: هل افصحت الدول صاحبة التحذيرات للسلطة والحكومة او لجهات امنية لبنانية عن معطياتها غير المعلنة التي تبرر اطلاق سلسلة التحذيرات هذه ؟ ام ان تلك الدول اكتفت بما اطلقته ولم تزود السلطة اللبنانية بإيضاحات إضافية بما يكشف حالة انعدام الثقة الخليجية ضمنا بالسلطة او بالتستر على معطيات لا يراد لها ان تنكشف راهنا ؟
مناخ الارتياب في التحذيرات اثاره هاجس وقوع لبنان مجددا في قبضة الصراعات او التجاذبات الإقليمية التي كانت احداث مخيم عين الحلوة نافذة لها من خلال صراع عنيف بين حركة “فتح” وتنظيمات إسلامية وأصولية لم يكن بعيدا ابدا عن صراع المحاور في المنطقة الذي لم يحط رحاله بعد. وتزامنت الخشية من دلالات التحذيرات مع سجالات وبيانات تارة هادئة وطورا حادة بين “فتح” و”حزب الله” في مسالة التورط في الصراع الامر الذي حتم وجود ريبة في تربص ايران في الحديقة الخلفية للصراع لدعم التنظيمات المعادية لـ”فتح”. وهذا ما قرأه مطلعون في اجماع دول مجلس التعاون على اصدار التحذيرات بما يشكل رسالة ضمنية شديدة الوطأة ضد التورط الإقليمي وتحديدا الإيراني في هذا الصراع الذي كان ينذر بالتمدد وتهديد الاستقرار في لبنان.
وبدا الامر أولا على خلفية احداث مخيم عين الحلوة، لكن الغموض والالتباس غلفا هذا التطور بما اثار الخشية من وجود خلفيات أخرى. ولم يكن خافيا ان حالة ارباك واسعة اصابت الحكومة والسلطة بسبب هذه التحذيرات التي خشي ان تعكر الموسم السياحي الذي يشهد فورة كبيرة يامل منها اللبنانيون بتعزيز بعض العافية التي يفتقدها لبنان بقوة. ولكن هذا الارباك للحكومة لم يقتصر على مسآلة التحذيرات الديبلوماسية وانما زادها احراجا الاشكال العلني الذي تسبب به وزير الاقتصاد امين سلام مع الكويت بفعل “فلتة كلامية” كادت تتسبب بأزمة ديبلوماسية جدية بين لبنان والكويت .
واذا كان هذا الارباك شغل الحكومة والاوساط الرسمية في نهاية الأسبوع، فان الاهتمامات ستتركز من اليوم على المسلك الذي ستسلكه مشكلة تشريع الاقتراض المالي للدولة من مصرف لبنان علما ان هذا المأزق يتجه نحو تداعيات سلبية اذا تمترس الأطراف المعنيون به، وراء المواقف التي اتخذوها في الأيام الأخيرة وهم الحكومة ومجلس النواب وحاكمية مصرف لبنان. فلا الحاكم الجديد بالنيابة سيكون سهلا عليه القبول باستمرار اليات الانفاق المالي على متطلبات الدولة كما كانت جارية أيام الحاكم السابق رياض سلامة في ظل ما تسببت السياسات السابقة من كوارث. ولا سيكون سهلا على الحكومة او المجلس تحمل تبعات تغطية المس بالاحتياطي الالزامي لمصرف لبنان وهو بقايا أموال المودعين. وتبعا لذلك فان المأزق يواجه انسدادا خطيرا تتوجه معه الأنظار الى ما يمكن ان يجرى من مباحثات بين رئاسات الحكومة والمجلس وحاكمية المصرف المركزي والقوى السياسية أيضا لان الازمة الناشئة تهدد بتداعيات حادة في حال عدم اجتراح مخرج لها بسرعة.
وبدا لافتا ان كلا من رئيس مجلس النواب نبيه بري والرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط اللذين التقيا عصر امس في عين التينة استغربا تحذيرات السفارات .
وقال بري: “استغرب بيان السفارات ولا شيء أمنياً يستدعي ذلك”، لافتا الى ان “حصر التحذير بمناطق الاشتباك القريبة من عين الحلوة يمكن تفهمه ولكن الدعوة لمغادرة الرعايا غير مفهومة”. وسأل بري: “الوضع في عين الحلوة هادىء منذ 3 أيام فلماذا تلك البيانات التحذيرية؟”
وفي الملف السياسي، كشف بري ان الموفد الفرنسي جان إيف لودريان “تكلم معه نقلا عن اللقاء الخماسي طارحا الحوار الوطني وليس الحوارات المتفرقة”. وحول العقوبات ووصفه بأنّه امتداد لـ”حزب الله” قال بري: “انا امتداد لكل شيء ومتل ما قلت قبل “انا بريّ وبحلاش عالرص”.وأشار الى انه “مستمر بترشيح (سليمان) فرنجية حتى النهاية ولما يصير في نتائج بموضوع الحوار بين الحزب والتيار سألوني اذا كنت مرتاح”.
وقال جنبلاط بدوره بعد اللقاء: “لم نفهم انا والرئيس بري سبب تخوّف السفارات يبدو ان هناك أمورا نجهلها لكن في موضوع مخيم عين الحلوة تبدو الأمور محصورة الى حد ما والجهود الفلسطينية واللبنانية ربما ستؤدي الى حل”.
تعاقب التحذيرات
ومعلوم ان سلسلة التحذيرات الخليجية تواصلت امس اذ أكدت وزارة الخارجية الإماراتية “أهمية التقيد بقرار منع سفر مواطني الإمارات إلى لبنان الصادر سابقا”. وشددت على “ضرورة تواصل المواطنين معها في الحالات الطارئة”.
وسبق للبحرين ان حثت رعاياها الموجودين في لبنان على “المغادرة حفاظا على سلامتهم”، فيما دعت سفارة قطر لدى لبنان الرعايا القطريين “لتوخي الحيطة والحذر وتجنب مناطق الأحداث الحالية والتقيد بالتعليمات الصادرة عن السلطات المحلية المختصة”. كما دعت سفارة سلطنة عمان مواطنيها الموجودين على الأراضي اللبنانية إلى “ضرورة توخي الحذر والتقيّد بالإجراءات الأمنية اللازمة بالابتعاد عن المناطق التي تشهد صراعات مسلّحة، مع اتّباع الإرشادات الأمنية الصادرة من جهات الإختصاص”. وكانت سفارة دولة الكويت “اهابت بمواطني دولة الكويت إلتزام الحيطة والحذر والإبتعاد عن مواقع الإضطرابات الأمنية في بعض المناطق والتقيد بالتعليمات الصادرة عن السلطات المحلية المختصة”. بدورها طالبت السفارة السعودية، “المواطنين السعوديين بمغادرة الأراضي اللبنانية بسرعة، محذرة إياهم من الاقتراب من المناطق التي تشهد نزاعات مسلحة”. ولم تحدد السفارة المناطق التي يجب الامتناع عن الاقتراب منها، إلا أن المملكة قامت، في أول آب الجاري، بتحديث توجيهات السفر إلى لبنان ونصحت بتجنب “كافة أنواع السفر غير الضروري” إلى مناطق في جنوب لبنان قرب مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين.
“يخططون لعمل وحشي اخر”
في السياق الداخلي تواصلت أصداء الذكرى الثالثة لانفجار مرفأ بيروت وكان ابرزها لمتروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عودة الذي قال في عظة الاحد :
“ما زال المسؤولون عن الكارثة يسرحون وربما يخططون لعمل وحشي آخر، وما زال الزعماء والمسؤولون عاجزين عن القيام بأية خطوة إنقاذية للبلد قد تفرج عن انتخاب رئيس يليه تشكيل حكومة تمنع تدخل السياسيين في عمل القضاء عله يفك أسر التحقيق ويطلق يد المحقق من أجل جلاء الحقيقة وإحقاق العدالة ومعاقبة المسؤولين عن تفجير بيروت وقهر أبنائها”. أضاف: “هل كان هذا التفجير الأبوكاليبتي قتلا لبيروت وأهلها أم إغتيالا للقضاء بغية نشر الفوضى والإطباق على البلد؟ وهل يعقل أن ينتظر ذوو الضحايا مع أهل بيروت وكل اللبنانيين ثلاث سنوات دون نتيجة؟ ثلاث سنوات من الألم والصبر والمطالبة ولم تنجل الحقيقة رغم بشاعة الإنفجار وجسامة نتائجه. هل هي لامبالاة أم استهانة بحياة بشر أحبوا لبنان ولم يهجروه سعيا وراء حياة كريمة، أم هو عجز أو طمس مقصود لحقيقة لا يريدون لها الظهور خوفا منها؟ وإلا لم عرقلة عمل المحقق؟ وإلى متى يفلت المجرمون من العقاب، كل المجرمين الذين اغتالوا بيروت، وكل الذين اغتالوا أشخاصا كل ذنبهم أنهم أرادوا التعبير عن آرائهم بحرية، وكل الذين أوصلوا هذا البلد الجميل إلى الإنهيار، وكل الذين أساءوا إلى البلد وأهله واغتصبوا حقوقهم أو تخطوا القوانين أو تحدوا الدولة أو قاموا بأي عمل سيء؟ كيف يفلت من العقاب القاتلون والمضاربون والمحتكرون ومغتصبو الأطفال والمتعدون على حياة الأبرياء برصاصهم الطائش؟”
الى ذلك وفي اطار التحركات السياسية اللافتة من المقرر ان يزور اليوم وفد من “تيار المردة” مقر حزب الوطنيين الاحرار في السوديكو. وعلم ان هذا اللقاء يندرج في اطار رغبة ابداها “تيار المردة” في الانفتاح على بعض القوى المعارضة وان حزب الاحرار رحب باللقاء من دون ان يعني ذلك في أي شكل أي تراجع عن موقفه وتحالفاته في شأن الاستحقاق الرئاسي وسيصدر الحزب بيانا في هذا الصدد بعد زيارة وفد “المردة”.