الخيال امتداد من امتدادات الواقع وصنيعة له. الخيال السقيم الذي رسم لوقيعة الكحالة أحبطه وعي الواقع وحقائقه الصلبة، إذ يبقى الواقع أقوى من الخيال وأبقى منه مهما بلغ “جموح” هذا الأخير ولَاواقعيّته.
مشهد أول
منذ أيام وعَيْنا “السفير” المستعرب، نسبة ونسباً، لا تعرفان النوم. بحسب ما هو متداول، وبهمس مدروس، في الأروقة التابعة أو اللصيقة، في “معراب” و”الصيفي” وغيرهما من الأوكار والجحور، فإن السبب المباشر لتكدّر أحوال هذا الكائن واضطرابها، ضياع “الفرصة الجديدة” التي أتاحتها وقيعة الكحالة. والتي كانت لتوفر له تحقيق ما سعى إليه منذ أن دُفع به نحو البلد، والمقصور على هدف واحد لا غير، وجوهره الثابت: ملاقاة العدو في حربه المفتوحة على المقاومة ولبنان، وذلك من خلال محاولات ضرب ما تبقّى من أسس ومرتكزات “المناعة الوطنية”، والعمل الحثيث لزرع الفتن أو التهديد بها كتقليد سياسي ثابت في أجندة المشيخة القروسطية. وقد تحقّق له النجاح النسبي في إنجاز مهام المرحلة الأولى معتمداً على أشكال مبتكرة من الترهيب والترغيب، وهي المرحلة التي قضت بتوفير الأدوات اللازمة لها، فكانت فبركة التشكيلات السياسية والاجتماعية والثقافية… التي أوهمها، وبدورها أوهمته، بالقدرة على تحقيق المرتجى… وهو المرتجى الذي عجز عنه ولاة الأمر في تل أبيب وواشنطن وباقي امتداداتهم وأذرعهم في الخليج المحتل والمكروه على أمره. إلا أنه رغم كل ما بذله من جهود وما دفعه من أموال وما قدّمه من إغراءات سمّمت الإعلام وعطّلت السياسة ولوّثت الثقافة وخرّبت الاقتصاد، بقيت تشكيلاته المأجورة من “أحزاب” وقوى وشخصيات ونوادٍ وجمعيات… قاصرة عن بلوغ أعتاب المرحلة الثانية التي هي باختصار شديد تعميم الفتنة.
مصادر أخرى لمّحت إلى أن السفير يعيش حال تدهور عصبي يعجز الأطباء عن فهمه ومداواته. فهو، ومنذ اللحظة التي أمكن فيها للبنانيين الحقيقيين، والمقاومة في مقدّمهم، محاصرة الفتنة ووأد مفاعيلها التي أريد لها أن تكون بمثابة شرارة تشعل حريقاً يمتد إلى باقي المناطق، عزل نفسه عن العالم، وأقفل هواتفه الذكية، وأمر موظّفيه أو العاملين عنده بقطع الاتصال مع الخارج وعدم الرد على ما يردهم من اتصالات، حتى ولو كانت من أقرب المقرّبين، وهم في غالبهم الأعم وشاة ومرتزقة وأصحاب مصالح وضيعة لا شأن للناس بها إلا في كونهم ضحايا محتملين لها.
وثمّة من يشير إلى أنه سبق قراره بالانعزال التام، وحبس نفسه في جناحه المترف، أن اجتاحته سَوْرَة عالية من الغضب الشديد نجم عنها تكسيره لمحتويات مكتبه الخاص، ولم توفر قريباً أو بعيداً من الشتائم التي انهال بها على كل الأزلام والتابعين، ووصلت بعض شرارات هذا الغضب ومعه الشتائم المقذعة إلى معراب والصيفي… وغيرهما من متزعّمي وأفراد الخلايا الناشطة من غير أن توفّر تلك النائمة.
المعلومات التي جرت مقاطعتها مع أكثر من جهة أفادت أيضاً بأن السفير المستعرب محبط للغاية، وأنه يدرس جدياً فكرة التنحي والابتعاد. فأرقامه في الفشل المتكرر بلغت مستويات قياسية لا تقل عن مستويات سابقيه ممن عملوا على القضية نفسها. وبعد أن كادت اللقمة تصل إلى الفم، وجد من ينتزعها. فحُرم بذلك من تحقيق ما كرّس له نفسه، وما حلم به ليلَ نهارَ بالوكالة عن أولياء نعمته وبالأصالة عن نفسه. حال الإحباط التي وُصفت بالشديدة لم تنفع معها المسكّنات والعلاجات التي أشير عليه بها، بل إن المعلومات تقول إنها قد فاقمت من حالته. فالرجل الذي لم يتعلم، وحاله في ذلك من حال باقي أقرانه، من “الديبلوماسية” التي يرتدي قناعها إلا الفتنة، ما زال غير مصدّق لما آلت إليه الأحوال اللبنانية. فمن بعد فرحته العارمة والغامرة بقرب الحصاد… فوجئ بالنتائج المخيبة. وهو اليوم تحت وطأة حال من الوجوم والذهول الشديدين، ما ينذر بأزمة وجودية قد لا ينجو منها، إن نجا منها فإنه غير قادر على النجاة من تبعاتها التي يبدو، بحسب التقاليد التي تحكم المشيخة التابع لها، لن تتأخر.
على أن هناك ثمّة من حذّر من إقدامه على إيذاء نفسه بعد تكرار الفشل وعجزه عن الوصول إلى غايته المنشودة. لكنّ آخرين ممن يُشهد لهم بمعرفتهم بالأطباع والميول والماهيات أكّدوا استحالة إقدامه على ذلك. فبالنسبة إليهم، هذه النوعية غير السوية من البشر لا تملك جرأة الإقدام، وإن جرى وامتلكته فإنها لا تملك إلا أن توجّهه إلى من هم في محيطها المباشر، وأن كل ما في الأمر لا يعدو أن يكون سلوكاً طفولياً له تفسيره العلمي في المراجع الطبية ذات الصلة.
ربما يبقى ضرورياً القول إن الإشارات الواردة من “السفارة” مقلقة. فإلى الخطوط الهاتفية التي لا تعمل، سجّل بعض المراقبين احتمال أن تتسبّب ردة الفعل الصحراوية الناجمة عن تمكّن اللبنانيين من محاصرة الحادثة للرجل وللمشرفين على عمله بنكوص طفولي قد لا ينجو منه التابعون اللبنانيون الذين بدأوا بالتسابق على التحلل من مسؤوليات العجز والفشل وتقاذفها في ما بينهم. وما رشح من معلومات لا يبعث على الراحة، طبعاً راحة هؤلاء الذين لا حياة لهم إن فقدوا شريانه الحيوي المتمثل بالرضى الصحراوي، مع كل ما ينطوي عليه من أسن عضوي.
مشهد ثانٍ
كان فادي البجاني قد خطّط ليومه جيداً.
كان قد خطّط لما هو مغاير. لذا فإنه لم يبال كثيراً بمشاعر القلق التي انتابته حين فتح عينيه. وحتى لا تثقل عليه وتحول دون تنفيذه لما عزم عليه، سارع إلى دفعها بعيداً، وانخرط من فوره في ما يشبه الطقوس التي ألفها أو اعتاد أن يبدأ بها صباحاته.
كان قد خطّط ليوم عادي لا شبهة فيه وإن كان لا يخلو من الروتين. فالروتين أقوى من الجميع، قال لنفسه، ثم مضى في التحضير ليوم لبناني آخر لا يراهن فيه على جديد لن يأتي. لكنه فجأة، وفي غمرة تحضيراته الذهنية، انتبه إلى كوابيس الليلة السابقة التي قضاها. وحين حاول، كالعادة، استرجاع شريطها الذي أثقل عليه وأقلق نومه لتفسير قلقه غير المرئي لم ينجح. إلا أنه تذكّر جيداً أنه على قلق نام، وها هو على قلق يستيقظ. صحيح أن لا جديد في القلق. فالقلق هو رفيقه الدائم، وشريك لياليه، ليس منذ إعلامه بحقيقة مرضه فحسب، بل منذ أن وعت عيناه النور. لكنه يدرك أن شراكته القسرية مع القلق تعمّقت حين أبلغه الأطباء بدنو الأجل. لكن لأسباب لم يقدر على تفسيرها أدرك أن قلقه اليوم مختلف، وهو ما يستشعره من دون أن يملك دليلاً عليه غير هذا الانقباض الذي لا تفسير له للقلب.
كان في طريقه نحو المطبخ لإعداد قهوته، عندما خطر له أن يهاتف يوسف. لكنه سرعان ما تراجع عن الفكرة. فهو لا يريد أن يظهر أمام ابنه بمظهر غير متماسك. ثم إن الوقت لا يزال مبكراً، ومن شأن اتصال في مثل هذا الوقت المبكر أن يتسبب ليوسف بقلق أكبر من القلق الذي يعاني منه جرّاء وجوده بعيداً عن الوالد، وهو ما لمسه في محادثته الأخيرة معه. فبالنسبة إلى فادي الذي يفهم قلق الأب على ابنه ويبرّره، يعجز عن تفهّم قلق الابن على والده. وهو وإن كان يتفهّم قلق لينا وجنيفر وغيرهما من الأصدقاء والأصحاب، فإن خشيته عليهم مضاعفة، لكنه يحتفظ بخشيته ولا يبوح لكيلا يزيد عليهم. بل إنه كثيراً ما يقلقه حين يخطر له السؤال عن قدرتهم على تدبير أمورهم من بعده. وهنا يكمن الثقل الذي يعجز عن التحرر منه.
فبالنسبة إليه، تمكّن أخيراً من التعايش مع المرض الذي لم يكن يتوقّعه. صحيح أنه فوجئ في البداية، بل لنقل إن صدمته كانت كبيرة، لكنه سرعان ما درّب نفسه على العيش معه. ومن يومها وهو يتصرف بمسؤولية إضافية تفرضها التزاماته تجاه لينا ويوسف وجنيفر وإيلي وباقي الأسرة التي ينتمي إليها. لكن ثمّة لحظة يفقد فيها المرء قدرة السيطرة على نفسه ويترك للحماسة البلهاء أن تجرّه إلى حيث لا يريد، وهو بالضبط ما حصل مع “أبو يوسف” وقاده إلى ارتكاب ما لا يجدر به البتة ارتكابه في لحظة طيش وتخلٍّ دفعته نحوها مناخات التعبئة المذهبية والتحشيد الطائفي المموّل تمويلاً فائضاً، ولم يملك ساعتها ما يساعده على التبصّر ولو لثانية واحدة.
كان فادي البجاني ينتظر موتاً آخر، موتاً لا صخب فيه، موتاً يشبه هدوء الأيام الأخيرة وسكينتها. لكنّ القتلة الحقيقيين الذين كشفوا وجوههم من خلال التحريض الفتنوي المباشر، وأشكال مبتكرة من الرقص على الدم، كان لهم رأي آخر.
وهنا، من الضروري القول إن من تخصّص في خطف الأحياء على الحواجز وقتلهم، ونظّم مئات المجازر على امتداد زمن الحرب الأهلية وما قبلها، نجح بالأمس، ولو جزئياً، في خطف فادي البجاني وقتله ومن ثم التمثيل بجثته إعلامياً وسياسياً. لكنّ نجاحه بقي محدوداً وإلى حين لم يتجاوز الدقائق. فوعي لينا وجنيفر ويوسف وإيلي و… قد فوّت الفرصة على تجار الدم الذين تكالبوا على الجثة المطروحة، ومنعهم من تحقيق غاياتهم القذرة.