كتبت صحيفة “الأخبار”: فتحت حركة طائرات الجيوش الأجنبية من وإلى المطارات المدنية والعسكرية اللبنانية، مع بدء العدوان على غزّة واندلاع المعركة بين المقاومة اللبنانية والعدوّ الإسرائيلي في الجنوب، العين على الاهتمام العسكري الغربي المستجدّ بلبنان.
من بين هذه الدول، تبدو بريطانيا، صاحبة وعد بلفور، في قائمة المهتمّين بالاستعداد لكلّ السيناريوهات المحتملة في فلسطين المحتلة ومحيطها، خصوصاً أنها حضرت بسفنها البحرية وقدراتها التجسّسيّة لدعم العدو الإسرائيلي في حربه ضد غزّة.
وكشف أكثر من مصدر رسمي وعسكري ودبلوماسي لـ”الأخبار”، عن وجود مسوّدة يجري نقاشها على المستوى الرسمي والعسكري، لمذكّرة تفاهم بين حكومة المملكة المتّحدة ممثّلة بسفيرها في لبنان هاميش كاول، والحكومة اللبنانية ممثّلة بقائد الجيش العماد جوزف عون.
المذكّرة التي اطّلعت عليها “الأخبار”، تضم حوالي 20 بنداً موزّعة على خمس خانات، تتحدّث عن “تأمين الدولة المضيفة (أي لبنان)، الدعم للقوات المسلحة التابعة للمملكة المتحدة عند نشرها على الأراضي اللبنانية”! ولم توضّح المسوّدة الأسباب أو الظروف أو الأهداف أو الحيثيات التي تدفع القوات البريطانية للحصول على إذن لنشر قواتٍ على الأراضي اللبنانية، ولم تحدّد مهمّتها بخطط الإخلاء أو مهمات التدريب، كما جرت العادة في مذكّرات تفاهم سابقة، تمّ توقيع آخرها نهاية العام الماضي. بل على العكس، تحفل المذكّرة بالكثير من البنود التي تمسّ السيادة اللبنانية بشكل صريح، وتعطي القوات البريطانية امتيازات على الأرض اللبنانية. أما المفاجأة الكبرى، فهي ما كشف عنه مصدر رسمي، بأن المذكّرة وصلت إلى الجانب اللبناني من السفارة البريطانية، قبل بدء معركة “طوفان الأقصى”!
وفيما تفسّر المذكّرة “القوات المسلحة البريطانية” على أنها تشمل “جميع العسكريين مع سفنهم وطائراتهم وآلياتهم ومخازنهم ومعداتهم واتصالاتهم وذخائرهم وأسلحتهم ومؤنهم، بالإضافة إلى العناصر المدنيين التابعين للقوات مع الموارد الجوية والبحرية والبرية والموظفين المساعدين”، فإنها لم تحدّد أماكن انتشار هذه القوات أو العدد المنويّ نشره، لناحية الجنود أو العتاد أو التجهيزات.
ولعلّ أخطر ما في المسوّدة، هو الصلاحيات المطلوبة للقوات البريطانية، كـ”ضمان عدم عرقلة دخول القوات المسلحة البريطانية إلى المجال الجوي اللبناني أو المياه الإقليمية اللبنانية، حتى لو لم تحصل هذه القوة العسكرية على تراخيص دبلوماسية مسبقة…”، فضلاً عن “ضمان توفير الأولوية القصوى لطائرات القوات المسلحة وطائرات الإجلاء الطبي بما في ذلك المروحيات، وإتاحة الوصول غير المقيّد إلى المجال الجوي اللبناني لأداء مهمات طارئة”، من دون أن تحدّد ماهية “المهمات الطارئة” وحدودها.
وبما يخصّ عديد هذه القوّات، تنصّ المسوّدة على إعطاء حصانة قانونية لعناصر القوات المسلّحة البريطانية من التوقيف أو الاعتقال أو الاحتجاز الشخصي من قبل السلطات اللبنانية، والتأكيد على تسليم أيّ موقوف بشكل فوري للقوات المسلحة البريطانية، وإعطاء الصلاحية لجنود القوات المسلحة البريطانية للتنقل بالزي العسكري مع أسلحتهم بشكل ظاهر ضمن الأراضي اللبنانية.
وفي جزئها الأخير، تضمن المذكّرة، في حال حصول سوء تفسير أو عدم التزام بالبنود، عدم إمكانية لبنان اللجوء إلى أي محكمة دولية، أو طرفٍ ثالث لحلّ النّزاع. فضلاً عن التأكيد على أن المذكّرة ليست خاضعة لمعاهدة فيينا لعام 1969، المتعلّقة بالمعاهدات الدولية.
للحصول على إجابات حول حيثيات المسوّدة والنقاشات حولها، حاولت “الأخبار” الحصول على توضيحات من مديرية التوجيه في الجيش اللبناني ومن وزارة الخارجية اللبنانية، إضافة إلى السفارة البريطانية في بيروت. وفيما لم تشأ مديرية التوجيه التعليق على الأمر، قالت مصادر مقرّبة من قائد الجيش إن “المذكّرة تتعلّق بعمليات الإخلاء وتعود إلى ما قبل فترة، ولا تزال قيد الدراسة، والمسوّدة موجودة في الخارجية”. كذلك أكّدت مصادر مقرّبة من السفارة البريطانية في بيروت وجود “مسوّدة مذكّرة تفاهم حول عمليات الإخلاء والعمليات الإنسانية المحتملة”، لكنّ “الرسالة الرئيسية هي أن المملكة المتحدة تعمل بالتنسيق مع لبنان على أساس الحوار المشترك مع الجيش اللبناني. البريطانيون لا يعملون وحدَهم من دون معرفة وموافقة من لبنان. الجيش اللبناني على علمٍ بالخطط البريطانية والبريطانيون يعملون ضمن إطار التعاون العسكري والتنسيق”. وأضافت المصادر أن “النقاشات بين القوات المسلحة البريطانية والجيش اللبناني مستمرة منذ وقت طويل لتنسيق الأنشطة المشتركة ودعم أعمال الإخلاء المحتملة واستمرار التدريب العسكري. ما يحصل ليس أمراً غير مألوف، وضمن خطط الاحتواء الاستباقية”.
وفي حين، أكّدت وزارة الخارجية اللبنانية عدم علمها بالمسوّدة، قالت مصادر مطّلعة على المداولات لـ”الأخبار” إنه “تم تأليف لجنة في أركان الجيش للتخطيط للنقاش حول المسوّدة”، وأن “الجيش اللبناني لن يقبل بما يمسّ السيادة اللبنانية”. وأكّدت مصادر رسمية أخرى، أن “المذكّرة وأي اتفاقية أخرى من هذا النوع، بعد قرار الحكومة تشكيل لجنة لدراسة الطلبات الغربية العسكرية، لا بدّ أن تمرّ على اللجنة الحكومية قبل إقرارها”.
وفيما يسود الغموض والتكتم في بيروت، تكشف وسائل الإعلام البريطانية جزءاً من مهام قوات بلادها في لبنان، أو ربّما تكشف عن طموحات عسكرية بريطانية مستقبلية، بما لا يتناسب واقعياً مع قدرات بريطانيا العسكرية والمالية. وأثار ما نشرته صحيفة “ديلي ميل”، الشهر الماضي، عن تدريبات لمئات العناصر من القوات المجوقلة البريطانية في لبنان، استياء وزارة الدفاع البريطانية وحتى وزارة الخارجية، ما استدعى توزيع ما يُسمى “دي ـ نوتيس” أو “التنبيه ـ دال” على وسائل الإعلام للتكتم على المعلومات العسكرية ومراجعة وزارة الدفاع قبل نشر معلومات عن نشاط القوات البريطانية في الخارج. والجدير بالذكر أن هذا التنبيه يُستخدم في حالات تهديد الأمن البريطاني، ولم يُستخدم منذ حرب العراق ربّما.
صحيح أن ما نشرته “ديلي ميل” لا يعتدّ به كثيراً في بريطانيا، ومعلومات “الأخبار” أن ما أشارت إليه حول وجود عناصر من لواء الجوالة البريطانيين المشكّل حديثاً، يعود إلى المناورة التي تمّ إجراؤها مع الجيش اللبناني في 12 أيلول الماضي، وأن عديد قوات الجوالة المتبقّين في لبنان لا يتجاوز الأربعين عنصراً. إلّا أن كلام رئيس الأركان العامة السير باتريك ساندرز أمام نواب بريطانيين، على ما نقلت الصحيفة نفسها، عن أن “وجود القوات البريطانية في لبنان يوفّر نظرة ثاقبة على عملية صنع القرار اللبناني ورؤية الأمور من الجانب الآخر للحدود الشمالية (لإسرائيل)”، يقود إلى ما تحدّثت عنه صحيفة “غارديان”، في 12 تشرين الأول الماضي، نقلاً عن مكتب رئاسة الحكومة البريطانية، عن أن “من مهام القوات البريطانية (في الشرق الأوسط) مراقبة نقل الأسلحة إلى حزب الله من إيران وروسيا”. فيما كانت صحيفة “تيليغراف” أشارت بشكل أوسع، في 10 تشرين الأول الماضي، إلى أن “القوات البريطانية الموجودة في قبرص تقوم بمهام التجسّس على حزب الله”. وأوضحت أن قاعدة التجسّس البريطانية الموجودة فوق جبل أولمبس في جزيرة قبرص قبالة السواحل اللبنانية والسورية، تقوم بالتجسّس على نشاطات حزب الله، وأن مركز التنصّت المعروف باسم “راف ترودو”، يُعدّ إحدى أبرز قواعد التجسّس التابعة لمنظومة العيون الخمس الاستخباراتية، وهي اتفاقية أمنية دفاعية موقّعة في منتصف الأربعينيات بين بريطانيا وأميركا وكندا ونيوزيلندا وأستراليا، وتمّ الكشف عنها بعد سقوط الاتحاد السوفياتي.
ليس سّراً، أن بريطانيا تتخبّط في تأمين التزاماتها العسكرية لدعم أوكرانيا في مواجهة روسيا، كما في المشاكل الكبيرة التي تعاني منها القوات المسلحة البريطانية ذات العديد المنخفض والقدرات المحدودة على نشر قوات واسعة في الخارج. فما هي الأسباب، غير تلك المعلنة عن مهام الإخلاء والإجلاء لتوقيع اتفاقية من هذا النوع بين القوات البريطانية والجيش اللبناني؟ وهل تحاول بريطانيا استغلال الأوضاع الحالية لتمرير اتفاقية تشكّل وصاية عسكرية على لبنان، مع كل الظروف السياسية والاقتصادية الداخلية اللبنانية، والخارجية المتمثّلة بتراجع الدور الفرنسي في لبنان، والخشية من اهتمام روسي مستجدّ ببيروت؟