كتبت صحيفة “الأخبار”: ثمّة ما هو أعقَد من حاجة الطائفة السنية إلى سعد الحريري في هذا التوقيت. المسألة تتعلّق بقرار سعودي جذري باستئصال «الحريرية». لن تخرج أيّ تحوّلات في المنطقة رئيس تيار «المستقبل» من «زنزانته» السياسية، ما دامَ وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مصرّاً على إنزال حكم «الاعتزال» به. هذه معادلة مفروغ منها، ومدخل طبيعي للسؤال عن صحّة ما يُروّج عن عودة الحريري الى نشاطه السياسي المُعلّق منذ أكثر من عامين
فجأة، في خضمّ الزلزال الذي يضرب المنطقة، استفاق اللبنانيون على أخبار عن أن زيارة الرئيس سعد الحريري لبيروت، في ذكرى اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ستكون «غير عادية». فالذكرى عنوانٌ جذّاب لجمهور يعيش انتظاراً للزعيم المُبعَد قسراً، ويرفض أن «يتوّج» بديلاً له. بدا الكلام عن العودة «غير العادية»، كأنه ينطوي على أحجية مثيرة للبحث: هل هناك معطيات جدية يُبنى عليها أم مجرّد ارتجال وهذيان سياسي؟في كانون الثاني 2022، أعلن الحريري تعليق عمله في الحياة السياسية، داعياً تيار المستقبل إلى اتباع الخطوة ذاتها. كان خروجاً لم يُرده الحريري، وشبيهاً باستقالته التي أُجبرَ عليها في الرياض عام 2017. كُثر حاولوا الاستيلاء على حضوره السياسي ولم يفلحوا، وكثُر اعتبروها استراحة لن تدوم. في الحالتين، كانت هناك حقيقة لا يُمكن تجاهلها: بقي الحريري الشريك السني في الدولة العميقة، واحتفظ بحق الفيتو في إدارة الملفات. ووفق مصادر مطّلعة، فإنّ رئيس الحكومة نجيب ميقاتي يكاد لا يتصرّف في أيّ شأن يخصّ الطائفة من دون التشاور معه. وهو حينَ زار الإمارات، نهاية العام الماضي، للمشاركة في مؤتمر تغيّر المناخ، التقى الحريري من دون إعلان.
بعدَ «طوفان الأقصى» فُتِح نقاش كبير في جلسات الفعاليات السنية حول موقع الطائفة ودورها في هذه الانعطافة التاريخية. كلّ المؤشرات باتَت تؤكد التأثير السلبي لغياب الحريري، مهما جرّب البعض أو حاول أن يقول غير ذلك. وللمرة الأولى منذ مغادرته لبنان، يُطالب هؤلاء علناً بعودته بمعزل عن أيّ «غضبة» سعودية يُمكن أن يتعرّضوا لها.
قبلَ أسبوعين، بدأ التحضير لذكرى 14 شباط بشعار «تعوا ننزل ليرجع». سرعان ما لفتت الحملة الانتباه كونها ترافقت مع تحضيرات استثنائية وتواصل مع كوادر ومسؤولين في التيار ومخاتير المناطق واجتماعات ترأّسها الأمين العام للتيار أحمد الحريري. ولم يكُن رئيس «جمعية بيروت للتنمية الاجتماعية» أحمد هاشمية بعيداً عن التحضيرات، مؤكداً في تغريدة له: «نازلين نقول للحريري ما رح نخلّيك تفلّ». وعقِدت أمس في عدد من المناطق اجتماعات للمنسّقين لوضع اللمسات الأخيرة على التحضيرات للذكرى، علماً أن التجاوب الشعبي، حتى الآن، ليس على قدر التوقعات!
استجلبت هذه الحفلة الترويجية ردوداً كثيرة. ما قاله علناً نائب التيار الوطني الحر آلان عون للحريري بـ«أننا نستذكر شجاعتك واشتقنالك»، ورئيس مجلس النواب نبيه بري بأن «الحريري هو الناجح الأكبر رغم اعتكافه، ومرحّب بعودته في حال قرر ذلك»، يقال أضعافه في السرّ. لكنّ أيّاً من خصوم الحريري في السياسة وحلفائه ممن «تحمّسوا» للفكرة، لم يعثروا على ما يُمكن الاستناد إليه للتأكد من حقيقة ما يشاع. الجميع يستند إلى ما يقوله نواب سابقون وكوادر تنظيميّون وإعلاميون حاولوا الإيحاء بأنهم في مرحلة الإعداد الجدّي للعودة، فهل هناك فعلاً ما هو جدّي؟
أحد نواب المستقبل السابقين سُئلَ تحت الهواء، قبلَ دخوله إلى مقابلة تلفزيونية، عن عودة الحريري، فأجاب بأن «كل الحكاية مبنيّة على فكرة أن المنطقة ذاهبة إلى تسوية كبيرة، سيكون الملف الرئاسي في لبنان جزءاً منها. والشريك الطبيعي في أيّ تسوية هو سعد الحريري». وهو ما قاله عبد الله بارودي (ناشر ورئيس تحرير موقع «ديموقراطيا نيوز»، ومدير التحرير السابق للموقع الإلكتروني الرسمي لتيار المستقبل)، في مداخلة تلفزيونية، بـ«أننا ذاهبون الى تسوية ستحتّم عودة الحريري». قيادي ثالث في التيار، يتحدث منذ أسابيع عن أن الحريري «أصبحَ أكثر تفاعلاً مع قيادات التيار وعادَ تدريجياً للحديث في أمور سياسية، وهو على تواصل دائم مع جماعته»، ووصل الأمر بالبعض الى إشاعة أن الحريري «سوّى أموره العالقة مع المملكة»، مستنداً إلى دفع المؤسسات الرسمية في الرياض تعويضات موظفي شركة «سعودي أوجيه»، رغم أن هذا «إجراء قضائي لا علاقة له بالسياسة»!
هذا جانب بسيط من الصورة القائمة حالياً. لكنّ بحثاً أعمق يشير إلى أن ما يتردّد عن العودة، رغم أنه ينبع من أمنيات شخصية، يهدف إلى توجيه رسالة في اتجاهين: الأول إلى الداخل بالتأكيد أن أحداً لم ينجح في استمالة الجمهور السني الذي لم يقتنع بغير الحريري زعيماً. والثاني إلى الخارج، وتحديداً إلى المملكة، بأن الرجل هو «الرقم الصعب» والورقة الرابحة في أي عملية تفاوض لاحقة. عملياً، هي لعبة ضغط مكثف يمارسها المستقبليون لدفع محمد بن سلمان إلى سحب «فرمانه»!
لكن ماذا عن الحريري نفسه؟ يؤكد مقربون من الرجل أنه لم يصدر عنه ما يوحي بالعودة، أو أي إشارات بالتراجع عن قرار تعليق العمل السياسي. ويقول هؤلاء إن الموقف الفصل يكمن في ما إذا كان سيوجّه كلمة سياسية، وهو إن فعل يكون قد «علّق» التعليق وفي طور استعادة دوره. وهذه نقطة نوقشت مع الحريري نفسه، وأُتبعت بعدد من الأسئلة، ماذا بعد؟ هل يبقى في لبنان أم يغادر، وما هي الخطوات التي ستليها؟ هل ينتظر التفاعل الخارجي وردود الفعل ليُبنى عليها؟ والأهم من كل هذا: كيف ستقرأ الرياض هذه الرسالة وتتعامل معها؟
كلها أسئلة لا إجابات عنها، لكنّ مسؤولين مستقبليّين يشرحون الموقف بالآتي:
أولاً، هي رسالة جريئة إلى محمد بن سلمان، تطلب إعادة النظر في مستقبل السنّة، وإعادة مدّ اليد الى سعد الحريري في ظل استحالة إنتاج بديل منه.
ثانياً، ثمّة نزعة سنّية تتعاظم منذ 7 تشرين تميل الى رفع الصوت في وجه المملكة بأسلوب عتابي يوصي بالانتباه: «احرصوا ألّا نذهب فرق عملة في لبنان»!
ماذا عن السعودية؟ لا شيء جديداً حتى الآن. لا تزال المملكة تتعامل مع هذا الملف (الطائفة السنّية) بلامبالاة. الواضح حتى الآن أن العلاقة مع الحريري لم تجد سبيلاً لحلّ واضح، بل لا تزال في أقلّ مستوياتها.