كتبت صحيفة “الأخبار”: لم يكد قائد الجيش العماد جوزف عون يصل إلى مطار بيروت مغادراً إلى الدوحة، حتى كان فريق عمله يوزّع على وسائل إعلام، تحجز له الهواء أسبوعياً، خبراً عن لقاء مرتقب للقائد مع رئيس الوزراء القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني ومسؤولين آخرين لإعطاء الزيارة بعداً سياسياً. فأشار «تلفزيون الجديد»، مثلاً، إلى أن الزيارة تأتي «بدعوة رسمية للقاء عدد من المسؤولين القطريين، على رأسهم رئيس الحكومة». فيما أكّدت مصادر قطرية مطّلعة، أمس، أن معظم ما يُسرّب غير صحيح، إذ ما من دعوة وُجّهت إلى عون الذي طلب موعداً من السلطات القطرية، ووفق الإجراءات البروتوكولية حُدد موعد له مع رئيس أركان القوات المسلحة القطرية سالم بن حمد بن عقيل النابت لإبعاد الزيارة عن السياسة وإبقائها ضمن «شؤون العمل والاختصاص». ورغم الفارق بين توجيه دعوة رسمية، وتحديد موعد لقائد الجيش مع رئيس أركان الجيش القطري بناءً على طلب الأول، يصرّ موظفون لبنانيون على الخلط بين طموحاتهم الشخصية ووظائفهم الرسمية التي تستوجب التعاون معهم. وعليه، لا تأتي زيارة القائد للدوحة في سياق زيارات قام بها سياسيون لبنانيون أو قد يقوم بها آخرون ضمن المساعي القطرية لانتخاب رئيس جمهورية، بل هي زيارة تقنية لقائد الجيش اللبناني وليس للمرشح إلى رئاسة الجمهورية اللبنانية، للبحث مع نظيره القطري في مساعدة الجيش اللبناني.
أضف إلى ذلك أن توزيع «ماكينة» القائد أخباراً عن سعيه لإقناع القطريين بمنح 100 دولار شهرياً لعناصر الجيش تضرّ بهؤلاء العناصر أكثر مما تفيدهم، وفق مصادر مطّلعة أشارت إلى أن قطر تخشى من أن تُفسّر إعادة العمل بالدعم الشهري لعناصر الجيش دعماً سياسياً لعون في معركته الرئاسية. وبالتالي، ما يجب أن يعرفه كل عنصر في الجيش هو أن تسييس فريق عمل القائد للمساعدات المالية بات محرجاً – وليس مساعداً – لمن يودون دعم المؤسسة العسكرية. فصحيح أن هناك نية لمساعدة الجيش في ما يواجهه من تحديات، لكن الصحيح أيضاً أن هناك نية لعدم تظهير هذا الدعم بأنه مساعدة لقائد الجيش في طموحاته. وهذا، وفق المصادر، سبق أن أُبلغ إلى القائد بوضوح، لكنه وفريق عمله يصرّان على شخصنة القضايا، لا بل يتوزع هذا الفريق الأدوار، بين من يهدد الرئيس نبيه بري، ومن يتوعد النائب جبران باسيل، ومن يقول بثقة مفرطة إن إيران خسرت وحماس انتهت وليس أمام حزب الله من ينقذه من الغرق غير جوزف عون، ما يشير إلى إحاطة القائد نفسه بمن يصرّون على بيع الأوهام: يطلب موعداً من الدوحة ويسرّب بأنه تلقّى دعوة رسمية؛ يُحدّد له موعد تقني فيسرّب أنه سيلتقي رئيس الوزراء ظناً بأنه بذلك يحرج القطريين لترتيب هكذا اجتماع؛ يعلم أن المتاجرة سياسياً وإعلامياً بمساعدات العسكريين تضرهم أكثر مما تنفعهم فيصرّ على الإيحاء بأن الأمر إنجاز له؛ يدرك جيداً كما يعلم أن ثلاثي حزب الله – التيار الوطني الحر – حركة أمل ممر إلزامي إلى رئاسة الجمهورية فيصرّ على إحاطة نفسه بالمعادين لهم. وجديد «الماكينة»، التلويح بالعقوبات الأميركية لمن يترددون في دعم القائد أو يفكرون في منازلته سياسياً، بما يوحي وكأن البيت الأبيض والكونغرس، لا القيادة الوسطى في الجيش الأميركي، مجنّدان في معركة القائد الرئاسية، وبأن وزارة الخزانة ستضيف إلى بندَي «تعزيز الرخاء الاقتصادي وضمان الأمن المالي» في ميثاق تأسيسها بنداً خاصاً بمعاقبة كل من يقف في وجه جوزف عون.
ومن قطر إلى السعودية تزداد الصورة وضوحاً. فرغم اللقاءات الدورية بعيداً عن الأنظار مع السياسي الشمالي خلدون الشريف، حرص السفير السعودي وليد البخاري على ترتيب اجتماع ثانٍ لـ«مجموعة العمل لطرابلس» برئاسة الشريف، والإكثار من التقاط الصور معهم، وإعادة تغريد ما نشره الشريف رغم حساسية كونه مرشحاً مفترضاً لرئاسة الحكومة، للإيحاء بأن النموذج الذي تتطلع المملكة للعمل معه في هذه المرحلة (بمعزل عن الطموحات الشخصية) لا يشبه كل ما سبق على مستوى السياسة أو الأعمال. وهي إذا كانت تعتبر رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع «صديقها» الأول في لبنان، فإنها تبدو أكثر تفهّماً وتقبّلاً لتموضع «صديقها» الثاني وليد جنبلاط، وتريد «صديقاً» ثالثاً سنياً قادراً على الجمع، لا يمكن تقييده بسهولة، سواء جغرافياً بسبب مكان سكنه (لذلك التركيز على الشمال) أو مالياً (بسبب ثروته أو أعماله). والأهم، على المستوى السعودي في سياق مقاربات عون، ما حصل في أحد الاجتماعات في منزل البخاري في اليرزة أخيراً. فخلال الاجتماع، كرّر السفير الحديث عن إعلان الدوحة كمدخل أساسي للحل في لبنان، وعندما سأله ضيفه قبل توديعه عن سبب الإشارات المتتالية إلى «اتفاق الدوحة» الذي حكمته ظروف داخلية وخارجية مختلفة، صحّح له السفير قائلاً: «ليس اتفاق الدوحة بل إعلان الدوحة».
وقبل أن تقلع سيارة الضيف مغادراً، كان السفير قد أرسل إليه المقطع الخاص بلبنان في ختام القمة 44 لدول الخليج العربية التي استضافتها الدوحة في كانون الأول 2023. ورغم أن من يقرأ المقطع الخاص بلبنان قد لا يجد ما يستوقفه، إلا أن المصادر الدبلوماسية المتابعة لحركة السفير السعودي تؤكد أن المملكة لا تضيع وقت مجلس التعاون الخليجي في كتابة مقطع «طويل عريض» عن لبنان لتتجاوزه وتبحث عن شيء آخر بعد بضعة أسابيع، وهي حين توقّع على بيان تتوقع أن يشكل أساس سياستها الخارجية، وهي تقارب الاستحقاقات كالتالي وفق ما ورد في البيان:
أولاً، دعم سيادة لبنان وأمنه واستقراره.
ثانياً، تنفيذ إصلاحات سياسية واقتصادية هيكلية شاملة تضمن تغلّب لبنان على أزمته السياسية والاقتصادية.
ثالثاً، بسط سيطرة الحكومة اللبنانية على جميع الأراضي اللبنانية فلا تكون هناك أسلحة «إلا بموافقة الحكومة اللبنانية» (كما ورد حرفياً).
إذا كان من أعدّ البيان قد تنبه مراراً إلى إضافة «قوى الأمن الداخلي» كلما أتى على ذكر الجيش اللبناني حتى لا يُفهم دعم دور الجيش بأنه دعم لدور قائده، تؤكد مصادر السفارة السعودية أن وضع الاستقرار أولاً يعني أن المدخل إلى انتخاب الرئيس وتنفيذ الإصلاحات و«بسط سيطرة الحكومة» ليس القوة أو الفوضى أو الفرض بل التفاهم، وهو ما التقطه ويعمل بموجبه النائب السابق وليد جنبلاط، فيما يفترض أن يكون رئيس حزب القوات اللبنانية قد تبلّغه بوضوح أكبر بعد حادثة مقتل باسكال سليمان حين ترجمت السفارة الأميركية ما شدّد عليه مجلس التعاون الخليجي لجهة الاستقرار. لكن، يبدو أن أفرقاء آخرين يفترض أن يفهموه أيضاً مثل قائد الجيش الذي يعتقد أنه سيُفرض رئيساً فرضاً. وهذا ما يقود إلى النقطة الأساسية الثانية في البيان، وما تكرر الخارجية السعودية الإشارة إليه، لجهة «الإصلاحات السياسية والاقتصادية» التي لا يمكن ربطها بجوزف عون من قريب أو بعيد، بعد كل ارتكابات القيادة ورفض احترام التراتبية والقوانين. وهو حين يشكل حكومات افتراضية في مكتبه في اليرزة ويوزع الوزارات، لا يلتفت – افتراضياً على الأقل – إلى «الإصلاحات السياسية والاقتصادية»، ولا يراعي – ولو مسرحياً – المطالب الخليجية والشعبية.
مع تشديد السفارة السعودية على أن ما ينطبق على المرشحين إلى رئاسة الجمهورية ينطبق على المرشحين إلى رئاسة الحكومة، فإن سقف مجلس التعاون الخليجي واضح: لم تتحدث قمة الدوحة عن نزع السلاح إنما عن «سلاح بموافقة الحكومة اللبنانية»، ولا عن إقصاء أو إلغاء أو تفرد أو تهميش، بل عن إصلاحات اقتصادية لا يمكن لمن تحفل سيرهم الذاتية والمهنية في دول مجلس التعاون بالفساد أن يكونوا مهيّئين لها، وهي في تأكيدها على «الاستقرار»، تؤكد أن الممر لتحقيق هذا كله هو الحوار والتفاهم.
ترشيح جوزف عون قد تكون له غاياته في التكتيك الأميركي – الفرنسي – السعودي لزوم تحسين الشروط التفاوضية، لكنه لا ينبع من قرار استراتيجي كما يجزم السلوك القطري، وكما يؤكد إعلان الدوحة الذي يشكل مرتكزاً للسياسة الخارجية السعودية. وما على القائد، بالتالي، سوى كفّ يد فريق عمله الذي يأخذه إلى معركة ليست له، ويورّطه في دور ليست له آفاق محلية أو إقليمية أو دولية، ويعود إلى وظيفته الأساسية قائداً للجيش.