كتبت صحيفة “الأخبار”: بعد عام وشهر على انتهاء ولايته، أوقف مدّعي عام التمييز بالإنابة القاضي جمال الحجار، أمس، حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة، بعد الاستماع إليه في ملف شركة «أوبتيموم» والمستفيدين من حساب «الاستشارات» في المصرف المركزي، وهو الحساب الذي أخفى فيه سلامة كل العمليات غير الشرعية التي أجراها طوال فترة ولايته، وزعم خلال جلسات استجوابه أنه حساب من خارج ميزانية المركزي، وأنه لذلك رفض التجاوب مع طلب شركة التدقيق الجنائي «ألفاريز أند مارسال» تزويدها بمعلومات عن المستفيدين النهائيين من التحويلات المالية التي جرت عبر هذا الحساب، وتجاوزت قيمتها 111 مليون دولار بين عامي 2015 و2020، وهي الفترة عينها التي عمل فيها المصرف مع «أوبتيموم».
وعلمت «الأخبار» أن حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري، بالتشاور مع الدائرة القانونية في المصرف، أرسل إلى القاضي الحجار قبل أسبوعين كل الداتا المتعلقة بحساب «الاستشارات»، وهو ما يفترض أنه شكّل انعطافة في التحقيقات، علماً أن الحجار بدأ التحقيق في ملف «أوبتيموم» نهاية تموز الماضي، وهو الملف عينه الذي كانت تحقّق فيه القاضية غادة عون قبل أن يُسحب منها. وبحسب مصادر مطّلعة، تزامن إرسال منصوري كل المعطيات الخاصة بحساب «الاستشارات» إلى الحجار، مع كتابين وجّهتهما القاضية عون إليه خلال أسبوعين، تطلب فيهما معلومات عن هذا الحساب الذي يكشف أسماء المستفيدين من الأرباح الوهمية التي نتجت عن عمليات بيع وشراء سندات خزينة وشهادات إيداع وعمليات أخرى مختلفة، وقام الحاكم السابق بتوزيعها على مجموعة من المحظيين تحت عنوان «استشارات». وأرسل منصوري المعلومات مباشرة إلى الحجار وليس إلى عون، امتثالاً لقرار المدّعي العام التمييزي ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي بعدم التجاوب مع طلبات عون.
لكنّ السؤال الرئيسي والأهم هنا هو: لماذا سار رياض سلامة بنفسه إلى المقصلة بعدما نجح منذ عام 2020 باجتياز كل الاتهامات الداخلية والخارجية الموجّهة إليه وما تبعها من أحكام قضائية أوصلت إلى إدراج اسمه على لائحة المطلوبين من الإنتربول الدولي؟
تشير المعلومات إلى أن سلامة حسم قبل أيام أمر حضوره جلسة الاستماع التي دعاه إليها الحجار في قصر العدل أمس، بعد مشاورة وكيله القانوني الذي أبلغه أن الملف الذي يحقّق فيه الحجار «فاضي»، بالإضافة إلى رغبة القاضي بالاستماع إليه بصفة شاهد وليس كمُدّعى عليه. ويبدو أن سلامة كان مطمئناً إلى عدم توقيف القاضي حجار له، وراغباً بإبداء تعاون يخرج منه «بطلاً» بظهوره أمام الرأي العام وقدومه بنفسه إلى قصر العدل للإدلاء بشهادته رغم ادّعاء الدولة اللبنانية ممثّلة بهيئة القضايا عليه. وتؤكد المعلومات أن الحاكم السابق لم يتلقَّ تطمينات سياسية أو قضائية قبل ذهابه ولم يشاور أياً من المرجعيات ولم يستمع إلى نصائح المقرّبين منه بعدم الذهاب، لا بل قرّر المثول أمام القاضي من دون حضور محاميه حتى. ويبدو أنه خلال استماع الحجار له واستجوابه وقع على معطيات تقود إلى توقيفه على ذمة التحقيق إلى حين اكتمال المعطيات كاملة، الأمر الذي لم يحسب له سلامة حساباً. وتؤكد مصادر قضائية أن سلامة تعهّد أمام القاضي بإبراز مستندات تثبت براءته خلال الأيام الأربعة المقبلة وهي المدة القانونية للتوقيف على ذمة التحقيق، قبل أن يتم اقتياده مكبّلاً إلى أحد مقرات قوى الأمن الداخلي.
ولا شكّ في أن مشهد سقوط رياض سلامة يوم أمس لم يكن ليحصل لولا قرار جريء اتّخذه النائب العام التمييزي، لعلمه مسبقاً بما سيترتب على هذا القرار تبعاً للحماية السياسية التي رافقت سلامة خلال ولايته وبعدها. وهو قرار لم يجرؤ من سبقوه ومن وصل إليهم الملف (باستثناء القضاة غادة عون وهيلين إسكندر وجان طنوس) على اتخاذه، لا بل دأب معظمهم على فعل كل ما في وسعهم لإغلاق الملف وإفراغه وإيجاد كل السبل القانونية لتنويمه وصولاً إلى قتل الأمل لدى غالبية اللبنانيين حول إمكانية محاسبة سلامة المتورط بجرائم اختلاس أموال وتبييضها وإثراء غير مشروع وسوء استخدام السلطة والتزوير وتشكيل عصابة أشرار.
ونُقل عن الحجار أن «الخطوة القضائية التي اتُّخذت بحق سلامة هي احتجاز احترازي لمدة 4 أيام على أن يحال في ما بعد من قبل استئنافية بيروت إلى قاضي التحقيق الأول الذي سيستجوبه ويتخذ الإجراء القضائي المناسب». ورغم أن مدة الأيام الأربعة تضع الحجار أمام 3 خيارات: إغلاق الملف وإرسال سلامة موقوفاً إلى المدعي العام المختص والطلب منه إجراء المقتضى حسب الصلاحية؛ الادّعاء عليه وتركه لقاء ضمانات كمنع السفر رغم أن ثمة قراراً ساري المفعول أساساً بمنعه من السفر؛ وأخيراً عدم تحويل الملف وحفظه وترك الحاكم السابق. إلا أنه يُستخلص من كلام الحجار أنه حسم أمره بتحويله إلى النيابة العامة الاستئنافية، أي النائب العام الاستئنافي القاضي زياد أبو حيدر الذي يفترض أن يحوّله بدوره إلى قاضي التحقيق الأول في بيروت بلال حلاوي لإصدار مذكّرة توقيف وجاهية بحقه. وللمصادفة، فقد سبق أن أحال مدّعي عام التمييز السابق القاضي غسان عويدات ملف الأخوين رياض ورجا سلامة إلى القاضي زياد أبو حيدر، في حزيران 2022، طالباً منه تحريك دعوى الحق العام ضدهما بتهم الاختلاس والتزوير واستعمال المزوّر وتبييض الأموال والإثراء غير المشروع والتهرّب الضريبي، وتكليف قاضي التحقيق الأول باتخاذ الإجراءات اللازمة، إلا أن أبو حيدر أعلن تنحيه يومها ورفض قيدها في سجلّات النيابة العامة الاستئنافية وطلب من المساعدين القضائيين إيداعها لدى النيابة العامة المالية بحجة «عدم الاختصاص». فهل يعيد أبو حيدر الكرّة تحت العنوان نفسه أم يمتثل لطلب المدعي العام بالادّعاء عليه وتحويله موقوفاً إلى قاضي التحقيق الأول؟ وإذا ما حصل هذا السيناريو فإن قاضي التحقيق الأول الذي يرأس إدارياً كل قضاة التحقيق أمام خيارين: إما إبقاء الملف لديه لإجراء تحقيق أولي أو تحويله إلى قاضي تحقيق آخر، علماً أن أهمية الملف ترجّح أن يبقيه حلاوي لديه. وعند قيام قاضي التحقيق بالتحقيق الأولي، يكون أمام خيارين آخرين مجدداً: إما إصدار مذكّرة توقيف وجاهية بحق سلامة أو تركه بضمانات وتعيين جلسة له. وسط هذا كله، ثمّة سؤالان يتوجب طرحهما: الأول يتعلّق بالغاية من وراء تحويل الملف إلى أبو حيدر بدلاً من المدعي العام المالي القاضي علي إبراهيم نظراً إلى أن ملف سلامة بغالبيته مالي ويفترض بحسب القانون تحويل الملف إلى المدعي العام المختص؟ والثاني: هل سقط رياض سلامة نهائياً أم أن الحماية السياسية والطائفية ستتمكن هذه المرة أيضاً من إخراجه من ورطته؟ علماً أن توقيفه يأتي في لحظة سياسية مؤاتية، وبعد تجريده من كل الأوسمة التي علّقتها الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون على بزّته، وبعدما بات مُثقلاً بالعقوبات الأميركية والبريطانية والكندية وسلسلة دعاوى قضائية في بلدان عدة، إضافة إلى تصدّره لائحة المطلوبين من الإنتربول. وبالتالي، سيكون من الصعب على أي مرجعية سياسية أو طائفية أو قضائية منحه براءة الذمة وتحمّل وزر هذا القرار دولياً وشعبياً.