كتبت صحيفة “الأخبار”: اغتيال القادة الميدانيين شيء، واغتيال المسؤولين المباشرين عن تنفيذ العمليات شيء آخر. حتى 24 آب الماضي كان يمكن القول إن آلة القتل الإسرائيلية تحقّق نجاحات كبيرة على المستوييْن. لكنّ الخطط العملياتية التي يعتمدها الحزب منذ عملية «يوم الأربعين» بدأت تؤتي ثمارها
منذ بداية الحرب في غزة، ثمّة أربعة مسارات واضحة يسلكها الجيش الإسرائيلي واستخباراته في لبنان:أولها، اغتيال القادة الميدانيين المعنيّين مباشرة بالتخطيط للعمليات والإشراف عليها، وقد بلغ عددهم منذ السابع من أكتوبر سبعة، بمن فيهم القائد فؤاد شكر.
ثانيها، اغتيال مقاومين يطلقون الصواريخ والمُسيّرات من الخطوط الحدودية الأمامية، وقد تجاوز عدد هؤلاء الـ 600 بين شهيد وجريح.
ثالثها، محاولات تسلل بري محدودة.
رابعها، خروج الجيش الإسرائيلي، مرة كل عشرة أيام تقريباً، عن نطاق العمليات العسكرية المتبادلة مع حزب الله ضمن المربّع الجغرافي المحدد لمهاجمة ما يفترضه مخازن خاصة بالمُسيّرات والأسلحة الاستراتيجية تابعة للحزب.
استخدم الجيش الإسرائيلي في المساريْن الأول والثاني كل ما راكمه – هو والأميركيّ – من تطوير للتكنولوجيا العسكرية، وما جمعته استخباراته منذ الحرب السورية مروراً بداتا الكاميرات والسجلّات الرسمية والخاصة اللبنانية والهواتف الحديثة والاتصالات وطائرات المراقبة والأقمار الاصطناعية وصولاً إلى بصمات العيون والصوت وغيرها. ورغم إدراك الحزب لقدرات إسرائيل التكنولوجية الحديثة (المرتبطة بمنظومات الذكاء الاصطناعي التي تستولد الأهداف بشكل تلقائي معتمدة على ما جمعته أجهزة التجسس قديماً وحديثاً) لم يستعجل تعديل خططه، بل واصل العمل بالأسلحة التقليدية وفق المخطط الأولي، بموازاة تطوير خطط وأساليب قتالية وأسلحة بما يتناسب مع الوقائع الجديدة، في انتظار اللحظة المناسبة.
وإذا كان بعض الحزب قد اعتقد في الساعات الأولى التي تلت السابع من أكتوبر أنه خسر عنصر المباغتة الضروري في أي حرب، فإن غالبية الحزب تجزم اليوم، بعد كل ما كشفه الإسرائيلي في المساريْن الأول والثاني، أن ما حصل كان لمصلحة الحزب بالمطلق، لأن الجيش الإسرائيلي كان سيرد على المباغتة بمباغتة مماثلة بما طوّره من تكنولوجيا، وهو ما لم يعد مباغتاً اليوم، بعدما انكشفت هذه التكنولوجيا أمام المقاومة التي وجدت وسائل مناسبة للتعامل معها.
أما المسار الثالث فيتكرر فشلُ الإسرائيلي فيه حتى في خراج البلدات التي لا يملك الحزب نفوذاً فيها، حيث يُفاجأ المتسلّلون بأنه لا يزال موجوداً رغم كثافة النيران التي أحرقت الأخضر واليابس. ولا شك في أن أحد أهم الأسرار العسكرية التي كشفتها هذه الحرب هو حجم وطبيعة المنشآت (يصفها الإسرائيلي بالمحميات الطبيعية) التي أنشأها حزب الله بعد 2006 عند الحافة الأمامية، رغم انتشار اليونيفل والقوى الأمنية اللبنانية بكل أجهزتها، ورغم الكاميرات والمُسيّرات والأقمار الاصطناعية، ورغم الإلهاءات الداخلية المتتالية والحرب السورية. فحتى اليوم، لا يزال المقاومون في نقاطهم الأمامية، رغم كثافة النيران، يحبطون التسلل تلو الآخر، ويمطرون النقاط العسكرية الإسرائيلية بأكثر من مئة صاروخ يومياً منذ أكثر من 300 يوم، ضمن نطاق جغرافي ضيق لا يتجاوز ثمانية كيلومترات، يخضع لرقابة لصيقة بأحدث ما توصّلت إليه التكنولوجيا العسكرية، ويتعرض لقصف يوميّ ممنهج، فكيف الحال إذا تقرّر توسيع رقعة المواجهة. وفي الوقت نفسه، لا يزال «الهدهد» يسرح في سماء فلسطين يومياً، ولم يجد الكيان بعد وسيلة للتعامل معه ومع صاروخ «ألماس» المُزوّد بكاميرات، وهما السلاحان الجديدان الوحيدان اللذان استخدمهما الحزب حتى الآن في هذه المعركة.
أما المسار الرابع، فهو الأهم بالنسبة إلى الإسرائيلي، حيث يمثّل التخلص من مخازن الأسلحة الاستراتيجية شرطاً أساسياً للمؤسسات الأمنية والعسكرية والسياسية الإسرائيلية لتوسيع المواجهة مع لبنان. ورغم إثبات الحزب عشرات المرات خلال أكثر من 300 يوم بأن القدرة الردعية الجوية الإسرائيلية معدومة حتى ضمن نطاق الكيلومترات الحدودية السبعة، حيث لا يزال المقاومون يتحركون بحرية ويطلقون الصواريخ، ورغم إرساله رسائل واضحة في مناسبات مختلفة بعدم تضرر أيّ من مخازنه الاستراتيجية، واصلت الاستخبارات الإسرائيلية الاعتقاد بدقة بنك الأهداف الذي وضعته خلال خمسة عشر عاماً، وأنها أصابت أو تصيب فعلاً مخازن استراتيجية. وقد عزّزت «النجاحات» التي حقّقتها الاستخبارات الإسرائيلية على مستوى الاغتيالات ثقة الإسرائيليين بأنفسهم، وجعلتهم، مع الأميركيين، يعتقدون بأن ما لديهم من معلومات يُعوّل عليه فعلاً.
مع ذلك، أمور كثيرة تغيّرت منذ فجر 25 آب، لها تأثيرها المباشر على المسار الإسرائيلي الرابع الذي يحدد ما إذا كان الإسرائيليون سيذهبون إلى الحرب عاجلاً أم آجلاً.
في الجزء الأول من عملية «يوم الأربعين» المركّبة في ذلك الفجر، شنّ سلاح الجو الإسرائيلي واحداً من أكبر الهجومات الاستباقية في تاريخه على عدد كبير من النقاط التضليلية، قبل أن تكتشف الآلة الاستخباراتية الإسرائيلية أنها وقعت مجدداً في فخ بنك الأهداف غير الدقيقة. وبعد دقائق من انتهاء الهجوم «الاستباقي» المفترض، كان الحزب يشن بدوره، عبر مجموعات «معزولة تكنولوجياً» بالكامل، ومن المنطقة المحروقة والمدمّرة والمراقبة بالكامل، الهجوم الأكبر منذ السابع من أكتوبر بصواريخ ومُسيّرات يتحكم بتوقيت إطلاقها عن بعد أو مزوّدة بـ timer، ما حال دون تمكن الطيران الإسرائيلي ومُسيّراته من استهداف مقاوم واحد ممن شنوا الهجوم. قبل السابع من أكتوبر، كان الإسرائيلي يرصد مواقع إطلاق الصواريخ بدقة ويرد بنيران كثيفة تدمر منصات الإطلاق وتقتل المقاومين في حال تأخرهم في الانسحاب، وبعد السابع من أكتوبر، صارت مسيّراته ترصد التحركات التي تتبع إطلاق الصواريخ فتلاحق من أطلقوا الصواريخ إلى منازلهم وسياراتهم. لكن، في «يوم الأربعين»، أُطلقت الصواريخ والمُسيّرات من دون أن يتمكّن الجيش الإسرائيلي من الوصول إلى مطلقيها للمرة الأولى منذ السابع من أكتوبر، ولا تملك الاستخبارات الإسرائيلية والأميركية بكل قدراتها التكنولوجية أي فكرة عن هوية المنفذين وأماكن انسحابهم. ويعود ذلك إلى تكيّف الحزب مع الظروف الجديدة وتطويره التكتيكات التكنولوجية والأمنية والعسكرية اللازمة للتعامل مع عدّة العمل الإسرائيلية – الأميركية الجديدة، وتوفيره تقنيات جديدة لعزل المقاومين بحيث تعجز الرادارات الإسرائيلية والأميركية عن تمييزهم.
وتزامناً أيضاً، كان الجيل الأول من مُسيّرات الحزب التي توصف بالتقليدية تلتفّ على كل وسائل الردع الإسرائيلية وتتوغّل في العمق الإسرائيليّ حتى مشارف تل أبيب لتصل إلى أهدافها بدقة، في نكسة ثالثة للاستخبارات الإسرائيلية في يوم واحد.
وما كادت استخبارات العدو تحاول أن تلتقط أنفاسها بقصف عنيف لإحدى التلال الحدودية بكمّ هائل من أحدث القنابل التدميرية الأميركية لإحراق المنطقة بالكامل، حتى فوجئت بمواصلة إطلاق الصواريخ في اليومين التاليين من المنطقة المقصوفة نفسها، ما يعني عدم تضرر منشآته، ليتبيّن للاستخبارات الإسرائيلية أنها حتى في حال أصابت في معلوماتها (وهو أمر وارد في النطاق الأمامي الضيق) فإن طبيعة التحصينات لا تسمح للقنابل الاستثنائية الأميركية بتحقيق الأهداف الإسرائيلية.
وهذا ما يقود إلى القول إن المسار الرابع الذي كان يمكن أن يشجع الإسرائيلي على المضي في الحرب، يواجه منذ «يوم الأربعين» معضلة حقيقية، وآفاقاً مقفلة، لأن ما فشل الإسرائيليّ في جمعه بدقة طوال العقدين الماضيين بمساعدة اليونيفل وغيرها لن يستطيعه اليوم. ولتزداد الأمور تعقيداً بالنسبة إلى الإسرائيلي وإيجابية بالنسبة إلى لبنان، راكم الحزب في الأسبوعين الماضيين تحولات في المساريْن الإسرائيلييْن الأول والثاني:
على مستوى الاغتيالات للقادة، كرّس معادلة الرد بكل ما يسبقها من ضغط سياسي وأمني واقتصادي وإرباك، وألزم قادته بإجراءات أمنية غير مسبوقة على كل المستويات خلافاً لما كان عليه الأمر منذ السابع من أكتوبر وحتى اغتيال شكر. ومع ذلك فإن الخروقات الإسرائيلية واردة دائماً، لكنها لن تكون بالسهولة نفسها.
وعلى مستوى اغتيال المقاومين الميدانيين الذين يطلقون الصواريخ أو يتنقّلون في الصف الأمامي، فقد أُدخلت تعديلات جذرية على أسلوب عملهم من دون أن تخفف من وتيرة عمليات الإسناد التي تضاعفت فاعليتها في الأسبوعين الماضيين تزامناً مع التراجع في أعداد الشهداء.
ما سبق يشير إلى أن المسارات الأربعة للجيش الإسرائيلي واستخباراته في مواجهة لبنان منذ السابع من أكتوبر تصطدم منذ «يوم الأربعين» بجدران صلبة وتكتيكات عسكرية ذكية وسريعة لم يكن العقل الإسرائيليّ يتوقّعها، ولم يجد بعد الوسائل المناسبة للالتفاف عليها، وهو ما يصبّ في هذه اللحظة لمصلحة لبنان واللبنانيين بإبعاده شبح الحرب، ويقود بالتالي إلى القول إن إبعاد أو استبعاد الحرب الشاملة كان ولا يزال يرتبط أولاً وأخيراً بقدرات المقاومة على مستوييْن:
أولاً، إقناع الاستخبارات الإسرائيلية بأن تقديراتها وبنوك أهدافها وغيرها غير دقيقة، وهو ما تضاعفت فاعليته منذ «يوم الأربعين».
ثانياً، حفاظ المقاومة على ترسانتها النوعية، ولا سيما الصواريخ الباليستية الدقيقة والثقيلة التي لم تُستعمل بعد ولا تزال في المنشآت الاستراتيجية المحصّنة، وهي قادرة على الوصول إلى أهدافها بسرعة وسهولة أكبر بكثير من الجيل الأول من المُسيّرات القديمة التي تعجز الاستخبارات الإسرائيلية عن التعامل معها. وهذا ما يمثّل التهديد الجدي الكبير لـ«دولة إسرائيل الحديثة»، بمطاراتها العسكرية والمدنية والمرافئ والسكك الحديدية ومنصات الغاز والبنية التحتية والمفاعل النووي في ديمونا وخزانات البيتروكيمياويات. مع معرفة الإسرائيليين بأن المجموعات القتالية الثلاث الخاصة بحزب الله التي تنخرط في القتال اليوم ليست إلا قلة قليلة في تنظيم الحزب الذي يمكنه، كمنظمة شعبية، تحمّل ما لا يمكن للدولة ببنيانها الإداري والسياسي أن تتحمّله، ولا سيما في ظل الصمود العسكري في غزة والمقاومة الشرسة في الضفة والتهديد الإيراني المتواصل بالرد والضغط الداخلي والخارجي على الحكومة الإسرائيلية.