كتبت صحيفة “الأخبار”: لا ينفع التوتر في مقاربة ما يحصل. لا ينفع، لأنه لا ينفع ونقطة على السطر. ما ينفع هو أخذ نفس عميق، والنظر من حولنا لمعرفة ما الذي حصل، ولماذا حصل، وكيف حصل، وإلى أين نسير من الآن فصاعداً.لم يقرّر العدو فجأة فتح النار. لنكن واضحين بأننا نحن من فتحنا النار إسناداً لغزة. وعندما فعلنا ذلك، لم نتصرف مثل أولاد الحي الذين قرروا الانتقام لشتيمة قريبهم. بل فعلنا ذلك بوعي كامل، وبأن جوهر ما تقوم به المقاومة وهدفها المركزي، هو العمل على إزالة كيان الاحتلال. صحيح أنه هدف يبدو خيالياً في عقول كثيرين، لكنه موجود لدى فئة من أبناء هذه المنطقة، يقف حزب الله في مقدّمتهم. وهو هدف يفترض حكماً التعاون الوثيق مع أبناء الأرض، أي مع الفلسطينيين. لذلك، قامت وتطورت العلاقة بين المقاومة في لبنان، وكل من يقاتل العدو داخل فلسطين. وبالتالي، غبيٌّ أو قاصرٌ من كان يعتقد بأن المقاومة في لبنان ستقف مكتوفة الأيدي إزاء ما يحصل في غزة.
ما حصل هو أن استراتيجية المقاومة في جبهة الإسناد قامت على رفع وتيرة الاستنزاف لجيش الاحتلال، لمنعه من استخدام كل جهده في وجه غزة وأهلها، وفي استنزاف جبهته الداخلية، من خلال عملية غير مسبوقة في تاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي أجبرت نحو ربع مليون مستوطن على العيش من دون أمان، نصفهم نزح من المستعمرات بصورة كاملة، ونصفهم الآخر عانى الأمرّين منذ الثامن من تشرين الأول الماضي. خلال كل هذه الفترة، كانت المواجهة تفترض قواعد دقيقة لا تسمح للعدو بالرد خارج الإطار الذي أرادته المقاومة. وكان عليها تحمّل الأثمان الباهظة، سواء في ما يتعلق بجسمها الجهادي، أو على مستوى القادة والمقاتلين، كما كان على المقاومة التعامل بطريقة خاصة مع نحو مئة ألف نازح لبناني من قرى الحافة الأمامية. ولأكثر من 11 شهراً، كانت خطة المقاومة تسير بشكل مناسب، وهو ما زاد من غضب العدو. وعندما أيقن أنه لا مجال لوقف النار من الشمال إلا بعد وقف النار المفتوحة على الجنوب، قرّر أن يغيّر قواعد اللعبة.
منذ أسابيع طويلة، أدرك نتنياهو، ومعه فريق كبير من السياسيين والعسكريين، أن حرب غزة وصلت إلى حائط مسدود. لا فرصة عملانية لاستعادة الأسرى، ولا للقضاء الفعلي على حماس، فكان لا بد من تعديل «لائحة الأهداف» من خلال وضع ملف الشمال على الطاولة. وهو اختار لحظة لا تسمح بخروج معارضة له، لا من داخل الحكومة ولا من خارجها، فحتى من كانوا يعارضون سياسته في غزة، كانوا يتهمونه بالتخاذل أمام حزب الله، ما سهّل له الصيد المزدوج: وقف النقاش حول غزة، وجعل هدف إعادة السكان سبباً لمواصلة الحرب.
وللعلم، لم يكن نتنياهو يهرب من صفقة في غزة، بل قصد تحييد الأنظار عن مشروعه المتكامل هناك (سنعود في يوم لاحق إلى تفاصيل الخطط التي تعدّها إسرائيل بالتعاون مع دول عربية وجهات غربية لاحتلال مستدام لقطاع غزة، وخصوصاً المنطقة الممتدّة من جنوب نيتساريم إلى أقصى الشمال). لكنه يتصرف اليوم، كمن بيده الشرعية الداخلية الكافية لخوض الحرب ضد لبنان، مستفيداً من غطاء أميركي، ودعم شبه علني من حلفائه العرب الذين أخذوا على إسرائيل فشلها في التخلص من حزب الله سابقاً.
لكنّ نتنياهو، عندما قرّر تعديل وقائع المواجهة في الشمال، لم يأتنا بجديد. بل سار على المبدأ نفسه الذي اعتمده في غزة، معتقداً بأن الضغط العسكري كفيل بجعل الخصم يتراجع، مع إضافة (خطيرة) تتعلق بجبهتنا، حيث يعمل العدو، بالتعاون مع الولايات المتحدة ودول أوروبية وعربية، على محاولة توريط جماعات لبنانية، وبعض المعارضين السوريين، في حملة يريدها على شكل انتفاضة تطالب المقاومة بوقف إطلاق النار. وسنسمع المزيد من الكلام عن أن لبنان ليس معنياً بـ«إسناد غزة»، علماً أن بين هؤلاء من يؤمن بأن لبنان غير معنيّ أصلاً بكل ما يحصل في فلسطين.
لكنّ إسرائيل ليست غبية كل الوقت. وهي التي خبرت لبنان، لجهة قدرات المقاومة، ولجهة قدرات من تحالفت معهم وقدّمت لهم خدمات كبيرة، تدرك أن هزيمة حزب الله تحتاج إلى أكثر من البيانات والشعارات، وهو ما دفع العدو إلى إطلاق برنامج أمني – عسكري نوعي ومتدرّج، مع كثافة نارية عالية، لتحقيق الآتي:
أولاً، توجيه ضربات قاسية إلى الجسم القيادي العسكري في الحزب، ومحاولة محاصرة السيد حسن نصرالله من خلال ما تعتبره إسرائيل عملية «تقطيع أذرعه». وهي عملية تستند إلى نظرية لدى العدو بأن السيد نصرالله، يجب أن يتعرض لهزّة كبيرة، وفقدان للتوازن، ليكون بالإمكان دفع الحزب إلى التراجع.
ثانياً، سعى إلى إشعار الحزب والمقاومة والجمهور بأن إسرائيل قادرة على الوصول إلى حيث تريد، وبأنها لا تكتفي بعمليات موضعية، بل قادرة على تنفيذ غارات واسعة كالتي شنتها في الساعات الماضية، لإحداث ما يعتقد العدو بأنه زلزال سيصيب كل بناء حزب الله، وأن ضغطاً كبيراً سيظهر، يدفع الحزب إلى التراجع.
ثالثاً، اعتماد العدو مبدأ «الصدمة والترويع»، عبر عمليات قصف وحشي كالتي نفّذها أمس، مع تعمّد واضح بتوجيه ضربات مباشرة إلى المنازل والمراكز السكنية التي يتواجد فيها المدنيون، وقتل قيادات مدنية للحزب في القرى، وترويع الناجين من الأهالي… وكل ذلك، لخلق بلبلة، مصحوبة بعملية تهجير نحو نصف مليون شخص بعيداً عن منازلهم وقراهم، قبل أن يأتينا الوسطاء حاملين شروط الاستسلام، ورافعين الشعار إياه: ما لكم وغزة، أوقفوا جبهة الإسناد، واتركوا عائلاتكم تعود إلى قراها، ولندخل في تنفيذ ترتيبات تجعل إسرائيل مطمئنة لإعادة المستوطنين إلى بيوتهم.
لنعد إلى ما حصل خلال الساعات الـ 24 الماضية التي شهدت أموراً يجب التدقيق في طبيعتها قبل الحديث عن نتائجها. ولا بأس هنا، لكل من يرى نفسه معنياً بالحدث، أن يتذكر أو أن يعود إلى الأرشيف، ويعيد قراءة ومراجعة كل ما قام به العدو بين 12 و 16 تموز 2006، وسيجد تطابقاً لا يقتصر على التصريحات، بل على توقعات العدو لجهة ما حقّقته ضرباته العسكرية. وإذا كانت الموجة الحالية مختلفة، لناحية التقنيات الجديدة، والعمليات الأمنية المعقّدة أو الكثافة النارية، أطلّ قادة العدو مساء أمس، للحديث عن تدمير قدرات المقاومة، وبأنهم على مشارف النصر. وهم هنا يكررون خطأَ التجربة السابقة نفسَهُ، عندما قرأوا بطريقة خاطئة، وخاطئة جداً، طبيعة ردّ المقاومة أمس، من خلال إطلاق رشقات من الصواريخ ضد مستعمرات في قلب فلسطين المحتلة.
ما يجب فهمه جيداً هو أنه ليس لدى العدو أي إبداع خارج منطق القتل. وهو لم يتعلّم الدرس جيداً، ولم يتعلم أن الأساس هو بناء استراتيجية قابلة للتحقق. لكنه لا يزال على ما هو عليه، ذلك الوحش الذي نعرفه جيداً، منذ قيام الكيان، وتعرّفنا إليه أكثر في كل ما قام به منذ عام 1978. ومع ذلك، لا يزال يجرّب حظه، متوهّماً بأن شروط الاستسلام التي يعرضها على المقاومة قابلة للتطبيق.
نعرف أن العدو يحضّر لعمليات وحشية إضافية، ويستعد لأعمال يستعرض فيها براعته في عمليات الكوماندوس أو الاغتيال الدقيق، وحتى القصف المفاجئ، والعمليات الهجومية الخاطفة، وأنه قادر على تشغيل طائراته على مدار الساعة، ويستفيد من دعم أميركي، لا يقتصر على مدّه بالسلاح، بل أيضاً بالدعم الاستخباراتي والتعاون في الخطط العملانية. وهو يوحي بأنه في لحظات مهّد الطريق أمام الوسطاء (الذين يحملون جميعاً رسالة إسرائيلية واحدة) لإجبار المقاومة على القبول بالشروط التي تؤمّن فصل جبهة لبنان عن غزة، وتفتح الباب أمام ترتيبات مختلفة جنوباً.
واحدة من مشكلات المقاومة اليوم هي أن في لبنان من يعيش معها، لكنه لا يزال غير فاهم لمنطلقاتها وآلية اتخاذها القرارات. أما مشكلة العدو، فلم تعد محصورة في الإقرار بطبيعتها، بل في أنه لا يحسب أن ما يجب أن يقوم به، ليس تعداد صليات متفرّقة تخرج من بعض نقاط المقاومة، بل الاستعداد فعلياً لشيء لم يجرّبه من قبل، حيث سيواجه ما لم يخطر في باله. وحينها، سيكون مضطراً للبحث عن تفسيرات لجنوده ومستوطنيه، قبل البحث عن وسيط يطرق باب المقاومة ليلَ نهارَ، متوسّلاً وقفاً لإطلاق النار!